الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 31الرجوع إلى "الثقافة"

في أفق السياسة الدولية :, هدوء العاصفة، لمحرر " الثقافة " السياسي

Share

مضت بضعة اسابيع مذ وقعت ازمة دانزيج ، وساد الاعتقاد بأن ألمانيا تعمل للاستيلاء على المدينة الحرة بالقوة ، وخيف أن تؤدي هذه المحاولة العنيفة ، وما يتوقع من مقاومة بولونيا لها ، إلى تكدير سلام أوربا ، وإضرام نار حرب عامة ؛ وقد عرضنا يومئذ إلي هذه الأزمة ، وإلي احتمالاتها المختلفة ، ورأينا فيها بالرغم من دقة الموقف

و خطورته ، ما يحمل على التعلق بشيء من الأمل في ترجيح كفة السلم ، ولو إلي حين ، ويلوح لنا اليوم ، بعد أن هدأت العاصفة نوعا ، أنه قد جدت في الموقف عوامل وظروف تؤيد هذا الرأي ، وان الأمل في صون السلم يشتد يوما بعد يوم ؛ وليس معنى ذلك ان شبح الحرب قد زال تماما ، وصفا الأفق من

كل شائبة ؛ ولكن معناه أن الأزمة قد فقدت كثيرا من حدتها ، ولم تبق كما كانت خطرا داهما على السلم ، وانه أضحي من المستبعد أن تقع الحرب المنتظرة في القريب العاجل ، كما كان متوقعا منذ شهرين .

ولا ريب أن هذا التطور يرجع قبل كل شئ إلي موقف بولونيا وحلفائها ؛ فقد أبدت بولونيا عزمها واضحا بأنها لن تبقى جامدة إذا حاولت المانيا الاستيلاء على دانزيج بالقوة ، وانها ستقاوم بكل ما وسمت أية محاولة من جانب واحد لتغيير النظام الحاضر في المدينة الحرة ؛ وأبدت بريطانيا العظمي وفرنسا مثل هذا العزم في تاييد بولونيا ، ولم تدعا مجالا للشك في أنهما ستقفان إلي جانبها في أي نزاع مسلح يقع من جراء دانزيج ؛ ولم تتوان بولونيا في التحوط ، واتخاذ جميع الاستعدادات العسكرية الممكنة لرد القوة بمثلها .

وقد بينا فيما سبق أن مسألة دانزيج ليست إلا سببا ظاهرا للأزمة ، وأن النزاع الحقيقي يدور حول وقف سياسة الفتح والاعتداء المنظم التي اتخذها محور برلين رومة شعاره ، والتي اسفرت في عام واحد عن القضاء على ثلاث دول أوربية هي النمسا وتشيكوسلوفاكيا وألبانيا ؛ وأن المانيا ترمي بالاستيلاء على دانزيج والممر إلي قطع بولونيا من البحر ، والتمهيد إلى خنقها من الوجهة الاقتصادية ، ثم إلي تفككها السياسي ، وزوالها كدولة مستقلة تحول دون توسعها في شرقي أوربا .

وهذا الخطر علي كيان بولونيا ، وما يترتب على تحققه من انهيار التوازن الأوربي ، وسيادة القوة الغاشمة في القارة ، هو الذي وقفت انكلترا وفرنسا من وراء بولونيا لرده .

ولم تتردد الدولتان الديمقراطيتان الكبيرتان هذه المرة في إظهار عزمهما واضحا في مقاومة القوة بمثلها ، وقد رأتا ما جره ترددهما في مثل هذا الوقت من العام الماضي

في تأييد تشيكوسلوفاكيا من وقوع كارثة ميونيخ ، وما ترتب عليها من ضياع تشيكوسلوفاكيا ذاتها ، وتوغل النفوذ الألماني حتى البلقان وشواطئ البحر الأسود .

هذا هو أول العوامل وأهمها في هدوء العاصفة التي أثارتها ألمانيا حول دانزيج .

فقد أدركت ألمانيا أنها تواجه هذه المرة مقاومة حقيقية ، وأنه يبق في وسعها ان تلجأ إلي سياسة المفاجأة والعنف الخاطف ، وأن أية محاولة لضم دانزيج بالقوة قد تثير نزاعا مسلحا يخشى أن ينقلب إلي حرب أوربية عامة ، لا تؤمن عواقبها ؛ ومن ثم فقد آثرت على ما يظهر ان ترجيء تنفيذ خطتها او ان تلجأ إلي اسلوب آخر غير الاحتلال المسلح .

وأما العامل الثاني الذي كان له أثر كبير في تطور الموقف ، فهو تقدم المفاوضات الخاصة بعقد الميثاق الثلاثي بين روسيا السوفيتية وانكلترا وفرنسا . ونحن نذكر انه حينما أثيرت مسألة دانزيج وتفاقمت منذ بضعة أسابيع ، كانت هذه ، المفاوضات التي تدور بين الدول الثلاث منذ منتصف ابريل الماضي ، قد طالت وتعقدت ، وكاد ينقطع الامل في نجاحها ؛ ولكنها عادت فتقدمت ببطء ، وذللت عقباتها تباعا ، وأصبحت فيما يبدو علي وشك الانتهاء بما يحقق عقد الميثاق المنشود ، ومن دلائل نجاحها أن الدول الثلاث قد اتفقت فيما بينها على أن تقوم بإجراء مباحثات عسكرية لتنسيق خططها الدفاعية ، وأنه قد تقرر بالفعل أن تذهب إلي موسكو بعثة عسكرية انكليزية ، وأخري فرنسية للقيام بهذه المباحثات . ولم تتقرر هذه المباحثات العسكرية إلا بعد أن بلغت المفاوضات السياسية مرحلة النضج ، ولم يبق على إتمامها سوي بعض تفاصيل شكلية حسبما صرح بذلك وزير الخارجية الفرنسية في بيانه عنها .

والواقع أن طول هذه المفاوضات وتعقدها يرجع إلي موقف روسيا السوفيتية ، وإلي ما آثارته من اعتبارات خاصة

بها ، لم تحسب انكلترا وفرنسا حسابها لأول وهلة . فقد أصرت روسيا أولا علي أن يشمل الضمان المتبادل جميع الدول الواقعة علي حدودها الغربية ، ولا سيما دول البلطيق وهي فنلنده ولاتافيا واستونيا ولتوانيا ، وقد عارضت انكلترا في هذا الاقتراح طويلا ، بحجة أن هذه الدول ذاتها لا ترغب في ضمان من أي نوع ، وصرح بعضها بأن أي عهد يقطع بشأنها دون موافقتها يعتبر عملا غير ودي ؛ ولكن انكلترا اضطرت أخيرا إلي التسليم بوجهة النظر الروسية ، وصيغ ضمان هذه الدول ضد الاعتداء في صيغة خاصة لم يذكر فيها اسمها . يبد أن روسيا عادت فطلبت أن لا يقتصر ضمان هذه الدول علي حمايتهما من الاعتداء المباشر ، بل يجب أن يشمل الاعتداء غير المباشر أيضا ؛ فأثار هذا الطلب اعتراضا جديدا من جانب انكلترا وفرنسا ، وطالت المناقشات بشأنه . وملخص وجهة نظر روسيا في ذلك هو أن الوسائل التي لجأت إليها ألمانيا في ضم النمسا واحتلال تشيكوسلوفاكيا ، واعتمادها في ذلك على بعض دعائها وصنائعها المحليين ، أمثال سايس انكارت وهتلاين ، وهاشا ، في طلب هذا الضم أو الاحتلال ، قد تتكرر في دولة أو أكثر من دول الباطيق ، فتحتلها ألمانيا بحجة أنها دعيت من زعمائها أو حكومتها لاحتلالها أو حماية النظام الداخلي فيها ، وبذا تعرض روسيا إلي خطر الغزو الألماني المباشر ؛ وهذه النقطة ما زالت اليوم موضع المناقشة بين الفريقين ، وهي آخر العقبات التي يجب تذليلها ، والمنظور علي أي حال أن تذلل في القريب العاجل .

أما ما طلبته روسيا أخيرا من وجوب إجراء المباحثات العسكرية مع المفاوضات السياسية جنبا إلي جنب ، فقد أجيبت إليه كما قدمنا ؛ وربما سافرت البعثتان العسكريتان الانكليزية والفرنسية إلي موسكو وقت كتابة هذه السطور .

وإذا تم عقد الميثاق الثلاثي المنشود بين الدول الثلاث الكبرى ، أعني بريطانيا العظمي وفرنسا وروسيا السوفيتية

فان جبهة مقاومة الاعتداء التي تعمل بريطانيا وفرنسا لانشائها منذ ابريل الماضي لمقاومة خطط الاعتداء التي تديرها ألمانيا وإيطاليا لتحقيق أطماعها في الفتح والتوسع والإخلال بميزان القوي الأوربي ، تصبح حقيقة واقعة وتقوم سدا منيعا في وجه محور برلين رومة ، وتضع حدا لمشاريع هتلر في الزحف نحو الجنوب والشرق ، ومشاريع موسوليني في السيادة في البحر الأبيض المتوسط وأفريقية ، وتعيد كثيرا من الطمأنينة والثقة إلي الدول الصغري التي أفضت مضاجعها اعتداآت الدولتين الدكتاتوريتين ؛ وعلي الجملة ، فانهما تغدو ضمانا قويا للسلم ، وتحمل هتلر وموسوليني على كثير من الروية والتفكير قبل ان يقدما علي تدبير أي اعتداء جديد .

وثمة عامل آخر يجب أن يذكر في هذا المقام ، وهو تحسن الموقف في الشرق الأقصى . ذلك ان ازمة دانريج أثيرت في نفس الوقت الذي قامت فيه اليابان بمحاصرة مناطق الامتياز البريطانية والفرنسية في نياتسين ، والضغط علي المصالح البريطانية والفرنسية في الصين ؛ ولم يكن موقف اليابان العدائي للدولتين الديمقراطيتين بعيدا عن وحي برلين ؛ واليابان كما نعرف حليفة لمحور برلين رومة ، وقد لاح مدى حين ان تهديد البابان لمصالح بريطانيا في الصين قد يستغرق الكثير من اهتمامها ، ويحولها عن العناية بالموقف الأوربي ؛ ولكن أمل برلين في ذلك لم يتحقق لأن انكلترا أبدت كثيرا من الصبر والرونة في معالجة الموقف ، واستطاعت أن تقنع اليابان بوجوب تسوية الخلاف بالمفاوضة ، وجرت المفاوضة بالفعل بين اليابان وانكلترا ، ومع أنها قد تتضمن شبه اعتراف من انكلترا بالحالة الواقعة في المناطق الصينية التي تحتلها اليابان ، ولم تسفر بعد عن تسوية جميع المشاكل القائمة ، فانها كانت كافية لاطفاء العاصفة التي كانت تنذر باجتباح جميع المصالح

البريطانية فى الشرق الأقصى وتحويل أنظار بريطانيا مؤقتا عن الموقف الأوربى .

أضف إلى كل ما تقدم أن التسليحات البريطانية والفرنسية تقدمت فى الأشهر الأخيرة بدرجة أخذت تزعج دولتى المحور ؛ وفى رأى الخبراء أنه لن يمضي شهر آخر أو اثنان ، حتى ترجح كفة ربطانيا وفرنسا فى الاستعدادات العسكرية ، على كفة محور برلين رومة ، وتفقد ألمانيا وإيطاليا تفوقهما العسكري الذى استطاعنا أن تعتمدا عليه حتى الآن في تدبير خططهما ومشاريعهما .

فهذه العوامل التى جدت فى الموقف الأوربى من بعد أزمة دانزيج ، هى التى عاونت على تهدئة العاصفة التى أثارتها ألمانيا حول المدينة الحرة ، وقصدت أن تمهد بها إلى القيام بضربة جديدة فى شرق أوربا ، وهى التى تحمل ألمانيا

اليوم على شيء من الروية والتربث فى تنفيذ خططها . ولعل ألمانيا الهتلرية وقد منعت كرها من تنفيذ ضربتها فى دابزيج مؤقتا على الأقل ، نؤمن اليوم بإنقضاء عهد المفاجأة التى استطاعت أن تجني ثماره في العام الماضى ، نظرا لتهاون الدول الديمقراطية ونقص أهبتها ، وأملها الخلب فى أنها قد تستطيع صون السلم بالتفاهم والمفاوضة . أما وقد آمنت بريطانيا وفرنسا منذ وقوع المأساة التشيكوسلوفاكية بأن ألمانيا الهتلرية لا تفهم سوى منطق القوة ، واعتزمتا جد العزم قمع القوة بالقوة ، وعملتا على إنشاء جبهة مقاومة الاعتداء التى يرجى عما قريب أن تتوج بعقد الميثاق الثلاثى المنشود مع روسيا ، فانه لم يبق من البور ان تقدم ألمانيا الهتلرية أو إيطاليا الفاشتية على أية مغامرة جديدة دون أن تخاطرا بإثارة حرب ، تحسبان اليوم لعواقبها ألف حساب.                (***)

اشترك في نشرتنا البريدية