كانت الطريقة المولوية أهم الطرق تأثيرا في الأدب التركي الصوفي . وذلك لأن مولانا جلال الدين الرومي ، منشئ هذه الطريقة في مدينة قونية بالأناضول ، قد بهر الكتاب والشعراء بكتابة " المثنوي " وديوانه الكبير ، ولأن هذه الطريقة كانت أكثر حرية في القيام بالمراسم المذهبية ؛ وقد أباحت الموسيقى بل جعلتها شرطا للذكر فنشأ من اتباعها الشعراء والكتاب والموسيقيون . وكانت في حماية سلاطين آل عثمان ورعايتهم إلى حد كبير ، فقلما تجد وزيرا او ذا منصب رفيع ليس من محبي الطريقة المولوية . ولم يكن شعراء المولوية يترنمون بمبادئ طريقتهم فحسب ، كما في معظم الطرق الصوفية ، فقد كان لهم في ميدان الأدب العام شأن عظيم . والشيخ غالب من اتباع هذه الطريقة ، ومن رجالها العظام ومن اهم الشعراء في نهاية القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر الهجري.
اسمه محمد أسعد . ولد باستانبول ١١٧١ ه ( ١٧٥٧ م ) وكان أبوه مصطفى رشيد افندي كاتبا في أحد الدواوين ومحبا للمولوية ، وكان مثقفا تثقيفا حسنا ، وله ذوق في الشعر ، فلقن ابنه منذ البدء ، العلوم الإسلامية والتصوف خاصة . وقد تلقي محمد أسعد العلوم العربية على اساتذة مختلفين ثم أخذ الأدب الفارسي من خواجه نشأت الذي كان احد أساتذة الأدب في ذلك العهد .
ابتدأ محمد أسعد يقرض الشعر مقلدا " فضولي " و " خيالي " من شعراء القرن العاشر ، و " تابي " و " ندم " من شعراء القرنين الحادي عشر والثاني عشر
من شعراء الترك ودرس " شوكت البخاري" من شعراء الفرس دراسة جيدة وأفاد من خياله الخصب حتى لقبه معاصروه ب " شوكت الروم " . وكان ينشر شعره في هذا العهد بلقب " اسعد " ولكنه قرأ اشعارا لبعض الشعراء مذاعة بهذا اللقب ولم تعجبه ، فتركه واتخذ كلمه " غالب " لقبا له وهو يرمي بذلك إلى معني الانتصار.
وفي عام ١١٩٨ ه سافر إلي قونية ، مركز الطريقة المولوية والتحق بها وامضي مدة الرياضة بين قونية واستانبول والرياضة المولوية التي يعبر عنها بالأربعين ( جلسه ) هي الف يوم ويوم يقضها المريد في القيام بالخدمات الوضيعة من خدمات التكية ، ويعامل في خلالها بكل خشونة وقسوة ، ليروض نفسه على تحمل ما لا تحب ؛ فإن أخطأ في أقل تقليد من تقاليد الطريقة أرغم على استئناف الرياضة من جديد .
أتم غالب هذه الرياضة الطويلة في رمضان سنة ١٢٠١ فصار"دده" وقد صابر على الشعر حتى في اثناء قيامه بتلك الخدمات الوضيعة الشاقة المملة . وبلغ مكانة عظيمة من الشهرة حتى أمره السلطان سليم الثالث بأن ينشد أبياتا تنقش على كساء قبر جلال الدين الرومي وكان السلطان معجبا به .
كان السلطان سليم ملما بالشعر والموسيقي ويقدرهما ، فوجد في غالب ضالته المنشودة ، وجعله من المقربين له ، المتصلين به بدون حجاب . وفي هذا الوقت ، وقد بلغ غالب أوج شهرته ، توفي شيخ تكية المولوية التي يحي " غلطه " باستانبول فعين غالب مكانه ، وجعل التكية مجمعا للكتاب والشعراء والعلماء ، ومنهم السلطان سليم الثالث نفسه وزوجاته واخواته . وظل الشيخ ذائع الصيت حائزا ثقة السلطان حتي توفي سنة ١٢١٣ ه ( ١٨٩٨ م ) في الثالثة والأربعين من عمره .
كان لثلاثة من شعراء الترك شهرة واسعة في القرن
الثاني عشر الهجري . وهم أحمد نديم في القصائد وشعر المجون والغزل خاصة . وقد توفي سنة ١١٤٣ ه . والوزير راغب باشا (١1١٠-١١٧٦ ه ) في الحكم والأمثال . والشيخ غالب في الشعر الصوفي بنوع خاص . وقد برع في إظهار قدرته على النظم وقوة خياله بقصته المسماة " حسن وعشق " التي نفيض بخيال رائع . ولم يكن غريبا من مثل الشيخ غالب ، الذي استلهم عبقريا كجلال الدين الرومي ، وقد قرأ كتابه المثنوي اربع عشرة مرة ، ودرس شعر شوكت البخاري ( توفي بأصفهان سنة ١١٠٧ ه ) المشهور بين شعراء الفرس المتأخرين بغزارة الخيال - ان ينشأ شاعرا حساسا ، قوي الخيال جيد اللغة ، دقيق الاسلوب ، كثير الاستعمال للاستعارات والمجازات.
فرغ الشيخ غالب من تأليف ديوانه الكبير في الرابعة والعشرين من عمره ، وهو يضم أشعاره باللغتين التركية والفارسية وبعض ابيات باللغة العربية . وله مؤلفات قيمة في المتصوف . ولكن كتابه الذي اشتهر به ، وفاق على كثير من الشعراء هو قصة " حسن وعشق "
وهي قصة شبيهة في ظاهرها كل الشبه بقصتي " ليلي والمجنون " و " يوسف وزليخا " المشهورتين في الأدب الفارسي والأدب التركي ، وباطنها تصوف وقد نظمت على نظام المثنوي وهو القافية المزدوجة . وتعد آخر منظومة قيمة من نوعها في الأدب التركي الخاص المعروف بأدب الديوان .
وموضوع القصة قبيلة عربية اسمها" بنو محبة " . ولد فيها ذات ليلة طفل سمي " عشق " وولدت طفلة سميت " حسن " ، فاجتمع اعيان القبيلة وخطبوا الطفلة للطفل . ولما بلغ الطفلان سنا تؤهلهما لتلقي الدروس شرعا في التعلم في مدرسة اسمها مدرسة الأدب " واستاذهما رجل يدعي " شيخ الجنون " . أخذت " حسن " تشعر بميل إلي " عشق " ولكنها لم تكن واثقة من ميله إليها . و وكذلك شعر " عشق باضطراب في قلبه . وكانا يتنزهان حينا بعد حين حول
حوض يقال له " حوض الفيض " في حديقة تدعي " منتزه المعنى " يملكها شيخ ماكر ذو قلب فتي يدعي " سخن " ( الكلام ) يفهم ما بهما من جوى فيتوسط بينهما وللقبيلة حاكم يدعي " حيرة " يحول بين حسن وعشق وبين اجتماعهما . طلب عشق إلي اعيان القبيلة تسليم خطيبته إليه وافتي شيخ الجنون بذلك . ولكن الأعيان ردوا طلبه بكل خشونة ولما الح في طلبه اشترطوا عليه أن يحضر اكسيرا من ديار القلب إن اراد وصال حسن وبينوا له ما ينتظره من المشاق والمهالك في طريق ديار القلب .
تدور حوادث القصة حول المراحل التي يقطعها عشق وما يلاقي فيها من المشقة والبلاء حتى يصل إلى ديار القلب فيدخل سرادق الوصال وقد فتح أمامه يدخل ، ومعه" حيرة "
أسماء أشخاص هذه القصة كلمات تدل على معان رمزية صوفية . ولعل المراد من " حسن " هو ذات الله ومن " عشق " العارف بالله . ومن بني محبة العارفون ، ومن مدرسة الأدب الخانقاء ، ومن شيخ الجنون المرشد . وأما أنواع المشاق والأهوال التي قاساها " عشق " في سيره وسلوكه إلي قلعة القلب ، أو ديار القلب ، فهي رمز لما يلقاه السالكون في مراحل الطريق الصوفي . وقد تغلب " عشق " بصبره وجلده وبارشاد المرشد الكامل ، على المشاق والعوائق ، وثابر على سيره وسلوكه حتى بلغ غايته وهو الوصول إلي الله والفناء فيه.
