فى الكرادة من ضواحي بغداد وعلى شاطي دجلة بيت متواضع يسكنه الشاعر العراقي الكبير الشيخ (محمد رضا الشبيبي) وزير معارف العراق
هو في منتهى دور الكهولة ويوشك أن ينهد إلى الخمسين ، يعمل عقله فيما يجيب أو ينترع، تتخلل جمله في القول نترات تم على ذلك ، رزين كل الرزانة وهو يحدث ، ويميل في شعره إلى الاصلاح الأخلاق في المجتمع. لا يحب أن يجامل ولا أن يظهر أمام زائره بمظهر العز المكسوب ، يزيد التألم خديه وما أحدق بعينيه - وهو يتكلم - تجمداً يبدو لك من ورائه ومن خلال ابتساماته الضئيلة مر عميق فى نفسه يبعثه البؤس رللقاء مما يكابد فى قومه . وإذا لم يرقه حديث جلسائه ولم يستطع منادرة المجلس تشاغل بمطالعة الصحف ، وقد يشيح بوجهه وهو يتكلم كأنما قد ذكر أمراً قد أنسبه ، ثم يمن في التشاغل عنك حتى إذا لفته إليك أدب المجالسة عاد مقبلا عليك تقرأ في وجهه الاعتذار لك . لا يستقر به المجلس أكثر من بضع دقائق ، وإذا لفته الزهر المحدق بالمجلس رأبته على ما فيه من رزانة يستخفه النظر فيهيم في الروض مع نسيم دجلة البليل
الروح الشاعرة إما أن يربيها الألم فينشأ صاحبها متشائماً قليل الحظ من متع الحياة، فلا تراه في شعره غير شاك أو متألم؛ وإما أن تربها اللذة فينشأ صاحبها متفائلا لا يعرف وجهاً للألم في الحياة وقد تربى الروح الأولى في النفس نقمة على المجتمع واستعداداً للانتقام منه ، كما قد تربى الروح الثانية في نفس الشاعر النكتة في الأدب والاستسلام للشهوات
وقد يتعزى الشاعر المتألم بملهى أو مقهى كما قد يثوب أخوه الناوى ويرعوى عن غيه فيلهمان مما جمال الشعر النفى في معرض الآلام ، على أن الأول أكثر تألما لما يستقبل ، والثاني أمضى أنا على ما خلف
يعجبني من النوع الأول شعر العلامة الشبيبي يقول :
هي الرسائل والأشعار والخطب هم على تقيل هذه الكتب
إحدى المجائب عدا أن يثقفنا قوم ثقافهم في أرضنا عجب
من معدن الشر ماستوا وما شرعوا
ومن معانيه ما خطوا وما كتبوا
في كلماته هذه صورة بالغة فى الألم النفسى . وأمض ما يؤلم الشاعر الحر أن يرى الحق مهجوراً والباطل يعمل به ، وآلم لديه من ذلك أن يرى ذا الباطل يتولى الحكم في الناس على أنه محق ثم يعاقب المحق على أنه مبطل
يرى الشاعر الحر كل ذلك ثم يرى بعده أن المجمع راض من هذه الحكومة ، أو يتجرعها على مضض وهو يستطيع أن يلفظها، فلا يلبث شاعر الانسانية أن يقذف بركانه حجراً تفيض به نفسه شعراً
شر العصور و في المصور تفاوت عصر به تتقدم الأوغاد
أنظر إلى الاعجاز كيف تصدرت وعمائم السادات كيف تساد
ثم هو يقول وقد غادر وطنه العراق إلى دمشق فن إلى الكرخ أحد أحياء بغداد :
ببغداد أشتاق الشام وها أنا إلى الكرخ من بغداد حجم التشوق
هما وطن فرد وقد فرقوها رمى الله بالتشتيت شمل المفرق
ويقول في التمدن المصرى مشيراً إلى الغرب
يعيش سعيد مفرد بين معشر شقى وحى واحد بين أموات
وكم جد فوق الأخادع شاخص إلى بيئة تحت الأخامص ملقاة
وما الزمن الماضى بأعظم محنة من الحاضر الموصول بالزمن الآني
يظنون هذا العصر عصر هداية وأجدر أن ندعوه عصر ضلالات
فان خرافات مضنت قد تبدلت حقائق إلا أنها كالخرافات
تلك هي نفثات شاعر المجتمع ينظر إلى أمة بمين ملؤها الحنان ود ضغطها ظلم القوى فأهابت بنارها وهو مقول الليد فأطلق فكره من دال الوهم والخيال ، ثم أجالها فيما يضع الظلم ويتمشى معه إلى إصلاح شعبه . ألم تره وقد لاح له بارق أمل يتلمس في أمته روح النهضة من ورائه ، يثير الهم ويشحذ العزائم حيث يقول :
تقد الصبر نهبت فزعاً وأبي السيف لها أن تضرها
أمة خرساء كم واش وشى بنوادبها وكم ساع سمى
أرمعت ألا يراها حملا غاصب صال عليها سبعا
إلى أن قال :
صلة الشرقي بالماضي ارجعي لا تعودي سنداً منقطعا
حددى عهد على غزياً وأعيدى مالكا والنخما
ربما وقفت من الشاعر على بيت واحد علمك أنه شاعر ، فلا أريد أن أشير لك إلى هذه القطع وما فيها من روح بالألم العض مما يسمع ويرى ، ولا أن أقول لك إن الروح الفياضة بالحزن أدق شعوراً بالحياة من الروح الفياضة بالسرور، وقد عرضت لاثبات ذلك مراراً مرت بك . اجل، ولا أريد أن أرجع بك في إثبات الشاعرية لهذا المصلح المراقي الكبير ، إلى ما في هذه الأبيات من ان وقفت بالشعور الحى أن يتجاوزها إلى ما تسمع كثيراً وتقرأ كثيراً من شعرائنا الختم في عصر النهضة .
وإنما أريد أن تعود معى إلى تصفع هذه القطع مرة ثانية لأسألك عما تشعر وأنت تقرأ عجز المطلع الأول : هم على ثقيل هذه الكتب . وعما يخلقه في نفسك حنينه وهو في الشام إلى الكرخ من بغداد ؟ ثم إلى ماذا يصل بك عبث الخيال وما يأتيه من فن ؟
قد يحسب العقل الواهم أن الشاعر قلما يعمل الخيال فيها تثور معه العاطفة من شعر ، وكثيرا ما يقولون : إذا ثارت العاطفة كان الشعر ، غالباً ، خلوا من الابداع في الفن
أما إن عنوا بذلك خلوه من الفن اللفظى فأنا معهم، لأن توجيه الفكر إلى صناعة اللفظ يحول دون فيضان الروح بما تتأثر به من مشهد يثير فيها عاطفة ما ، وإذا تأثرت الروح فليس للعاطفة أن تحمل الفكر في إعمال الخيال ، ضرورة أن الابداع فعل، وثورة النفس انفعال يجيش بركانه في الصدر فيقذف حمه
وأما أن يريدوا خلوه من الابداع في الفن من حيث تناوله اللفظ والمعنى مما أو المعنى فقط فلا أراني على وفاق نام معهم لما سمعت من قوله «شر المصور الخ ) إلى ماجاء في القطعتين الأخيرتين فقد يبرهن لك عن اجتماع الخيال مع العاطفة فيخرج الشعر خالد الفن بين خيال بدم وعاطفة تثور
هذه كلمة نسوقها تمهيدا لهذا الشعر الخالد من الشعر العبقري قبل أن يخرج ولما نزل تحت الطابع؛ وسوف نمززها بكلمات بعد خروجه تكشف عن كثير من أسرار هذا الشاعر العبقرى الحجز في عالم الفن
