الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 175الرجوع إلى "الثقافة"

في الأدب العربي :، ابن الشبل البغدادى، وأبو العلاء المعرى

Share

الشهرة حظ كحظ المال ، غني جاهل ، وفقير عاقل ، ومال ينهال انهيالا على من لا يستحق ، وقد لا نعرف السبب ، ومحروم بائس ولديه كل أسباب الغني ؛ كذلك الشهرة ، مشهور لا نعرف لشهرته علة ، ومغمور يستحق كل شهرة .

وهذا ينطبق على ابن الشبل البغدادي : أديب كبير وفيلسوف حكيم ، ضن عليه المترجمون فلم يرووا لنا أخباره ، وضاع بين الأدب والفلسفة ، فلم يشتهر شهرة الأدباء ولا شهرة الفلاسفة . لم أعثر له على ترجمة تشرح حياته إلا نحو خمسة أسطر وردت في " معجم الأدباء "

لياقوت الحموي ، ومثلها في " طبقات الأطباء " لابن أبي أصيعة ؛ فهما يقصان علينا أنه كان حكيما فيلسوفا ، وأدبيا بارعا ، وشاعرا مجيدا ، وأنه ولد ونشأ ببغداد ، وتوفي بها سنة ٤٧٤ ، ثم رويا شيئا من شعره . وهذا كل ما قالاه ، وكل ماعثرت عليه بعد البحث ، حتى لم يكف الناس أن يظلموه بتصفية آثاره فعمدوا إلي خير قصائده وأشهرها ،

والتي مطلعها " بربك أيها الفلك المدار " فسلبوها منه ونسبوها إلي ابن سينا ؛ وكذلك الدنيا " إذا أقبلت على أحد أعارته محاسن غيره ، وإذا أدبرت سلبته محاسن نفسه " .

كل ما عثرت عليه من شعره نحو مائة وخمسين بيتا ، ولكن ليس الشعر بالعدد ، ولا التقويم بالكمية . فقد يروي لشاعر بيت واحد يساوي دواوين ، ولو أنصف الناس لعدوه

شاعرا كبيرا ، وقد يكون لشاعر ديوان في أجزاء وهي كلها لا تساوي بيتا ، ولو أنصف الناس لأهملوه وأهملوا ديوانه .

ابن الشبل البغدادي - كما تدل عليه هذه الأبيات - شاعر ممتاز من جنس الشعراء القليلين الذين جمعوا بين الشعر والفلسفة ، أمثال دانتي وملتن في الشعر الغربي ، وأبي العلاء وعمر الخيام في الشعر العربي ؛ ولكن الأخيرين رزقا الحظوة في شعرهما فسار ذكرهما في الناس ، وعرفهما الشرق والغرب ، وخمل ابن الشبل فجهل في الشرق والغرب .

كان ابن الشبل شاعرا حائرا حيرة أبي العلاء ، كلاهما بحث عن الحق بعقله فتضطرب الدلائل وتختلف الأعلام ، فيصرخ بالشعر من حيرته ، وكانا متعاصرين تقريبا ، تأخرت وفاة ابن الشبل عن وفاة أبي العلاء بخمسة وعشرين عاما ؛ فهذا شاعر حائر في بغداد ، وهذا شاعر حائر في معمرة النعمان : هل العالم خير أو شر ؟ إن في العالم لذائذ ومسرات ، فهل  نستمتع بها أو نرفضها ؟ ما الدين وما تعاليمه ؟ ما القدر وكيف يتفق والثواب والعقاب ؟ هذه الأسئلة ونحوها أثارها كل منهما ، لا إثارة فيلسوف فحسب ولا شاعر فحسب ،

بل إثارة شاعر فيلسوف معا ، ينظر كلاهما النظرة الفلسفية العميقة ، ثم لا يخضع لنظم الفلسفة وعباراتها وترتيب مقدماتها ونتائجها وفصولها وأبوابها ، و يوقع كلاهما أفكاره على النغمة الموسيقية الشعرية ، مازجا عاطفته بفكرته وخياله بمنطقه . بل عندي أن ابن الشبل أصح شاعرية وأرق موسيقية ، وأجزل أسلوبا من صاحبه أبي العلاء في اللزوميات . لقد أتعب أبو العلاء نفسه بالتزام مالا يلزم وبتظاهره بمعرفته الواسعة بمادة اللغة . أما ابن الشبل فسهل جار مع الطبع ، لا يتكلف ولا يلتزم ما لا يلزم ولا يحب الغريب .

حار كلاهما في السماء ونجومها ، والأفلاك ودورانها ، هل تعقل أو لا تعقل ؟ وعلى هي مخيرة أم مسيرة ؟ وهل تسير لغاية أو تخيط خبط عشواء ؟ فأما ابن الشبل فقال :

بربك أيها الفلك المدار        أقصد ذا المسير أم اضطرار ؟

مدارك قل لنا في أي شيء       ففي أفهامنا منك انبهار ؟

وفيك نري الفضاء وهل فضاء

سوي هذا الفضاء به تدار ؟

وعندك ترفع الأرواح أم هل

مع الأجساد يدركها البوار ؟

وأما أبو العلاء فقال :

استحي من شمس النهار ومن

قمر الدجي ونجومه الزهر

يجرين في الفلك المدار بأذ

ن الله لا يخشين من بهر(١)

ولهن بالتعظيم في خلدي    أولى وأجدر من بني فهر

سبحان خالقهن لست أقو     ل الشهب كابية مع الدهر

لا بل أفكر هل رزقن حجي

نجسا يمزن به من الطهر

وقال :

العالم العالي برأي معاشر     كالعالم الهاوي يحس ويعلم

زعمت رجال أن سياراته     تسق العقول وأنها تتكلم

فهل الكواكب مثلنا في دينها

لا يتفقن فهائد أو مسلم ؟

وكلاهما ناقم على العالم لم وجد ؟ وما الغرض منه ؟ وما فائدته وقد امتلأ بالشرور وأفعم بالرزايا ؟ فأما ابن الشبل فيقول :

ودهر ينثر الأعمار نثرا     كما للغصن بالورد انتثار

ودنيا كلما وضعت جنينا    غداه من نوائبها ظوار (٢)

هي العشواء ما خبطت هشيم

هي العجهاء ما جرحت جبار ( ١ )

ويقول :

أنما نحن بين ظفر وناب

 من خطوب أسودهن ضراء (٢)

نتمني وفي المني قصر العم    ر فنغدو بما نسر نساء

صحة المرء للسقام طريق    وطريق الفناء هذا البقاء

بالذي نغتذي نموت ونحيا   أقتل الداء للنفوس الدواء

ما لقينا من غدر دنيا ؟ فلا كا

نت ولا كان أخذها والعطاء

راجع جودها عليها فمهما    يهب الصبح يسترد المساء

ليت شعري حلما تمر بنا الأ    يام أم ليس تعقل الأشياء

ويقول أبو العلاء :

وكأنما دنياك رؤيا نائم      بالعكس في عقبى الزمان تعبر

فإذا بكيت بها فتلك مسرة      وإذا ضحكت فذاك عين تعبر

سر الفتي  من جهله بزمانه      وهو الأسير ليوم قتل يصبر

ويقول:

أصاح هي الدنيا تشابه ميتة

ونحن حواليها الكلاب النوابح

فمن ظل منها آكلا فهو خاسر

ومن عاد منها ساغبا فهو رابح

ومن لم تبيته الخطوب فإنه

سيصحبه من حادث الدهر صابح

وكلاهما يعتب على آدم فعلته ، ويحمله تبعة شقائنا في هذا الكون . فأما ابن الشبل فيقول :

فان يك آدم أشقي بنيه

بذنب ماله منه اعتذار

ولم ينفعه بالأسماء علم

وما نفع السجود ولا الجوار

لقد بلغ العدو بنا مناه

وحل بآدم وبنا الصغار

فيا لك أكلة ما زال منها

علينا نقمة وعليه عار

ويقول أبو العلاء :

خير لآدم والخلق الذي خرجوا

من ظهره أن يكونوا قبل ما خلقوا

فهل أحس و بالي جسميه رمم

بما رآه بنوه من أذي ولقوا ؟

وكلاهما يحار في علة الوجود وفي التكليف مع الجبر ، فيقول ابن الشبل :

فماذا الامتنان على وجود

لغير الموجدين به الخيار

وكانت أنعما لو أن كونا

نخير قبله أو نستشار

ويقول :

قبح الله لذة لأذانا

نالها الأمهات والآباء

نحن لولا الوجود لم نألم الفق

د فايجادنا علينا بلاء

ويقول أبو العلاء :

جئنا علي كره و نرحل رغما

ولعلنا ما بين ذلك نجبر

ويقول :

ما باختياري ميلادي ولا هرمي

ولا حياتي  فهل لي بعد تخيير ؟

وكلاهما يحار في البعث والنشور " فيقول ابن الشبل :

وقليلا ما تصحب الجس

م ففيم الأسى  وفيم العناء ؟

ولقد أيد الأله عقولا

حجة العود عندها الأبداء

غير دعوي قوم على الميت شيئا

أنكرته الجلود والأعضاء

وإذا كان في العيان خلاف

كيف بالغيب يستبين الخفاء ؟

ويقول أبو العلاء :

أرواحنا معنا وليس لنا بها     علم فكيف إذا حوتها الأقبر ؟

و يقول :

دفناهم في الأرض دفن تيقن

ولا علم بالأرواح غير ظنون

ويقول :

وقد زعموا هذي النفوس بواقيا

تشكل في أجسامها وتهذب

وتنقل منها فالسعيد مكرم

بما هو لاق والشقي مشذب

ولو كان يبقى الحس في شخص ميت

لآليت أن الموت في الفم أعذب

هذا إلي كثير من وجوه الشبه بينهما في الحيرة والنظرة الفلسفية للحياة ، وتصوير  ذلك كله تصويرا شعريا ولكن شيئا واحدا جوهريا يخالف بينهما تمام المخالفة ، ويجعل نظرتهما للحياة متغايرة ؛ فأبو العلاء بطبيعة مزاجه وعاهته وفشله قال إن الحياة باطلة فلا زهد فيها ، وابن الشبل بحكم ظروفه التي لم ترو لنا قال إن الحياة باطلة فلأنعم ما استطعت بها . مقدمتان متساويتان لنتيجتين متضادتين ، كالكهرباء الواحدة تستعمل في التبريد وفي التدفئة ، تارة تكون مروحة وثلاجة ، وتارة تكون مدفئة ونارا .

فأما أبو العلاء تغنى  على أوتار حزينة ، يلعن الدنيا ويلعن الناس و يلعن نفسه ، ويفر من الدنيا فراره من الحرب ، ويزهد في كل ملذاتها من نساء وخمر وأكل شهي ، ويفرض على نفسه فروضا قاسية من عزلة ورهبانية وصيام حتى عن الطيبات من الرزق ، فلا يأكل السمك لأنه أخرج من البحر ظلما ، ولا اللحم لأنه عذب حيوانه ذبحا ، ولا يفجع الطير في نفسها وأولادها ، ولا عسل النحل الذي جمعه بجده من الأزهار فيقول :

فلا تأخذن ما أخرج الماء ظالما

ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح

ولا تفجعن الطير وهي غوافل

بما وضعت فالظلم شر القبائح

ودع ضرب النحل الذي بكرت له

كواسب من أزهار نبت فوائح

فما أحرزته كي يكون لغيرها

ولا جمعته للندي والمنائح

مسحت يدي من كل هذا فليتني

أبهت لشأني قبل شيب المسائح

ويقول :

وأرحت أولادي فهم في نعمة ال

                               عدم التي فضلت نعيم العاجل

ولو أنهم ظهروا لعانوا شدة

                       ترميهم في متلفات هواجل

ويقول :

وزهدني في هضبة المجد خبرتي

بأن قرارات الرجال وهود

كأن كهول القوم أطفال أشهر

تناغت وأكوار القلاص مهود

إذا حدثوا لم يفهموا ، وإذا دعوا

أجابوا وفيهم رقدة وسهود

ويقول :

أأخرج من تحت هذا السماء     فكيف الاباق وأين المفر

وما جعلت لأسود العرين     أظافير إلا ابتغاء الظفر

لحا الله قوما إذا جئتهم     بصدق الأحاديث قالوا كفر

وأما ابن الشبل ، فيري بطلان الحياة فيضحك منها ولها ، ويتغزل غزلا ظريفا ، ويدعو إلي انتهاب اللذات قبل فوات الأوان ، فيقول في غزله :

إن تكن تجزع من دم     عي إذا فاض فصنه

أو تكن أبصرت يوما     سيدا يعفو فكنه

أنا لا أصبر عمن         لا يحل الصبر عنه

كل ذنب في الهوي يغ    فر لي ما لم أخنه

ويقول :

قالوا وقد مات محبوب فجعت به

وبالصبا وأرادوا عنه سلواني

ثانيه في الحسن موجود فقلت لهم

من أين لي في الهوي الثاني صبا ثاني ؟

وله اللفتات النفسية اللطيفة كقوله :

لا تظهرن لعاذل أوعاذر      حاليك في السراء والضراء

فلرحمة المتوجعين مرارة      في القلب مثل شماتة الأعداء

والتشبيهات المبتكرة كقوله :

يفني البخيل بجمع المال مدته

وللحوادث والوراث ما يدع

كدودة القز ما تبنيه يخنقها

وغيرها بالذي تبنيه ينتفع

ويقول في انتهاب اللذات :

ما أمكنت دولة الأفراح مقبلة

فانعم ولذ فأن العيش تارات

قبل ارتجاع الليالي وهي عارية

وإنما لذة الدنيا إعارات

لعله إن دعا داعي الحمام بنا

نقضي وأنفسنا منا رويات

قد وقع الدهر سطرا في صحيفته

" لا فارقت شارب الخمر المسرات "

خذ ما تعجل واترك ما وعدت به

فعل اللبيب فللتأخير آفات

وللسعادة أوقات ميسرة

تعطي السرور وللأحزان أوقات

وهكذا كانا لطيفين في موافقاتهما ، لطيفين في مفارقاتهما - رحمهما الله .

اشترك في نشرتنا البريدية