الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 174الرجوع إلى "الرسالة"

في الأدب العربي الحديث

Share

-  ٣ - وهنالك محولات فردية بذلت في سبيل كتالة القصة الأخلاقية   (سعيد البستاني ويعقوب صروف) . والقصة النفسية   (فرح أنطون ١٨٧٤ - ١٩٢٢) ، وإن كانت لم تضارع قصص زيدان في مضمار النجاح

لكن معين القصة التاريخية عند العرب لم ينضب بعد كما يتضح من قصة   (ابنة المملوك)  التي وضعها في عام ١٩٢٦ القصصي المصري محمد فريد أبو حديد. وهي من نوع يختلف كل الاختلاف عن قصص زيدان، بل إنها وصلت من بقض الوجوه إلى مستوى أعلى

. أما الأقصوصة فقد رأت النور في مصر بخلاف القصة التاريخية، ولا بأس من ذكر المحاولات التي بذلت في سوريا، ولكن ما كتب هناك من الأقاصيص كان قاصراً على طبقة من المبتدئين. فقد شرع جبران خليل جبران وهو في شرخ الشباب في كتابة الأقصوصة على سبيل التمرن، لكنه لم يعد إلى ممارسة هذا النوع من الكتابة. أضف إلى ذلك أن المجال لم يفسح لهذا النوع الجديد في مصر إلا ببطء كبير. ولقد حاول الجيل القديم أن يستعمل أسلوب المقامات في النقد الاجتماعي، كحديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي المتوفى في عام ١٩٣٠، وهو ابن الصحفي النابه إبراهيم المويلحي   (١٨٤٦ - ١٩٠٦) . أما المحاولات الأخرى   (عائشة التيمورية ومحمد حافظ إبراهيم)  فقد كانت أقل توفيقاً. وهناك مؤلف معروف جرب حظه في الأقصوصة، هو المنفلوطي، وكانت أقصوصته تارة موضوعة، وتارة أخرى منقولة بتصرف، لكن كتابته امتازت بجمال التنسيق وسلامة

الأسلوب دون دقة الموضوع أو البراعة القصصية. أما محمد تيمور الذي توفي في شرخ الشباب   (١٨٩٢ - ١٩٢١)  فيمكننا أن نعده منشئ الأقصوصة المصرية ومبتكر التصوير الواقعي للحياة الاجتماعية الحديثة. فقد كان ملماً كل الإلمام بالآداب الأوربية، قوي الملاحظة، دقيقاً. فوضع أقاصيص صغيرة مأخوذة من صميم الحياة المصرية، بأسلوب يحاكي أسلوب موباسان أو تشيكوف تحت هذا العنوان   (ما تراه العيون) . وتقدمت الأقصوصة خطوات إلى الأمام في مؤلفات شقيقه محمود تيمور   (المولود في سنة ١٨٩٤)  وهي مجموعة في ستة مجلدات. وأقاصيص محمود تيمور واقعية كأقاصيص شقيقه محمد، لكنها أكثر تنوعاً، وأعمق تحليلاً، وأفصح لغة، وأسهل أسلوباً.

وقد اثر فن التيموريين القصصي تأثيراً كبيراً في جيل الكتاب المعاصرين، ولنذكر منهم: أخوي عبيد، المرحوم عيسى عبيد المتوفى عام ١٩٢٤، الذي وضع مجموعتي   (إحسان هانم وثريا) ، وشحاته عبيد الذي كتب   (درس مؤلم) ، وطاهر لاشين مؤلف   (سخرية الناي، ويحكى أن. . . وحواء بلا آدم) . وهي مجموعة قصصية امتازت بالطلاوة والفكاهة، ومحمد أمين حسونه مؤلف   (الورد الأبيض) .

ومن المميزات الجديرة بالملاحظة أن هذا النوع من الأدب وجد أنصاراً مخلصين في البلاد العربية، وجلها تأثرت بمصر إلى مدى بعيد.

وفي العراق كاتبان ذاعت شهرتهما إلى ما وراء وطنهما هما: محمود أحمد   (المولود في سنة ١٩٠١) ، وقد وضع قصة طويلة بعنوان   (خالد) ، ومجموعة باسم   (الطلائع)  وأخرى موسومة   (في ساع من الزمن) ، والقصصي العراقي الثاني هو أنو شاؤول الذي كتب مجموعة   (الحصاد الأول) . ولقد ظهرت الأقصوصة العربية في أمريكا   (المهجر)  في الوقت الذي ظهرت فيه في مصر، وربما قبل ذلك، ولنذكر أولاً عبد المسيح حداد الذي كتب أقاصيص صغيرة كلها فكاهة

 بعنوان   (حكايات المهجر)  وهي تكاد تكون صوراً سريعة للحياة العربية في أمريكا، وقد أخذ المؤلف كثيراً من روح أقصوصات جبران، وهناك أيضاً ميخائيل نعيمه الذي خصص في أقصوصته النفسية مجالاً واسعاً لتحليل الروح تحليلاً عميقاً، متأثراً بالأدب الروسي في القرن التاسع عشر.

إذا استطعنا القول بأن الأقصوصة العربية الجديدة وجدت أمامها الطريق اللائق بتقدمها وازدهارها حتى بلغت المكانة الجديرة بها، فإن القصة لم تصل إلى هذا المدى من النشاط، وكل ما رأيناه في هذا المضمار هو بعض محاولات طفيفة.

 وقد استهل هذا النشاط بقصة   (زينب) ، وهي قصة طويلة وضعها في عام ١٩١٤ محمد حسين هيكل بك الذي أصبح فيما بعد صحفياً وأديباً نابهاً، وموضوعها منقول عن الحياة الريفية في مصر. أما من حيث اللغة والأسلوب وطريقة الكتابة فقد فتحت فتحاً جديداً، إذ امتازت القصة بأسلوبها الطبيعي الخالي من الصناعة والتكلف، لكنها رغم ذلك لم تلفت الأنظار في بدء ظهورها.

ووضع الدكتور طه حسين   (المولود في سنة ١٨٨٩)  قصة دعاها   (الأيام)  في عام ١٩٢٧، وسار فيها على أسلوب الأخبار العائلية، وهي تصف طفولة صبي مصري يافع، عاش في قرية صغيرة على ضفاف النيل، والقصة جديرة حقاً بالتقدير، لا من حيث الوصف الحي للحياة الواقعة فحسب، بل كمؤلف أدبي من الطراز الأول في اللغة والأسلوب وطريقة الرواية.

أما مجموعة القصص الثلاث لتوفيق الحكيم فقد رسمت لها خطة واسعة النطاق، ولم ينشر منها حتى الآن سوى القسم الأوسط   (عودة الروح)  في جزءين   (كتبا في سنة ١٩٢٧ ونشرا في سنة ١٩٣٣) ، وقد خصص هذا القسم للحوادث التي توالت على مصر ابتداء من عام ١٩٢٠.

وكان لظهور توفيق الحكيم في سماء الأدب أحسن وقع لما امتاز به من التعمق في الفن الروائي، وبراعة الوضع، وسلاسة اللغة؛ وهذه الأمثلة تحملنا على أجنحة الأمل وتدفعنا إلى الاعتقاد الجازم بأن القصة ستحل قريباً المحل اللائق بها في الأدب العربي الحديث.

ج المسرحية   (الدرامة)

لم تنبت المسرحية العربية الجديدة من أصول محلية، شأنها في ذلك شأن القصة   (فهي لم تأخذ شيئاً من المقامة أو القراقوز أو أسرار الدين الشيعي) . وقد شاع فن التمثيل بين الطلبة بفضل الحفلات السنوية التي كانت تقيمها المدارس الأوربية، واعتاد المدرسون أن يضعوا بأنفسهم المسرحيات التي يقوم الطلبة بتمثيلها إذ كانوا يختارون موضوعاتها من التوراة أو من التاريخ اليوناني والروماني القديم   (الكلاسيك) ، وأخيراً من ماضي العرب.

لم يقتص المسيحيون وحدهم على توجيه عبقريتهم نحو هذا النوع، بل اشترك معهم المسلمون. ففي سوريا، كتب إبراهيم الأحدب مسرحيتي   (إسكندر المقدوني)  و (ابن زيدون الأندلسي)، ووصل فن المسرحيات الهزلية الأخلاقية إلى نتائج جديرة بالثناء منذ أوائل عهد النهضة الأدبية، بفضل التأثير الأوربي، فقد زار الكاتب السوري مارون نقاش   (١٨١٧ - ١٨٥٥)  إيطاليا عدة مرات، واطلع على مؤلفات موليير ودرس حالة المسرح الإيطالي الجديد. وما إن عاد إلى وطنه حتى شرع في كتابة ثلاث مسرحيات هزلية على أسلوب موليير، وعهد بتمثيلها إلى فرقة من الهواة، وفي اثنتين منهما صور المؤلف الحياة السورية الحالية. أما الثالثة فهي مقتبسة عن   (ألف ليلة وليلة) ، وقد نالت تلك المسرحيات بعض النجاح، لكن بعد وفاة المؤلف وهو في ريعان الشباب، لم يحاول أحد أن يسير على خطته، اللهم إلا في بعض المسرحيات الهزلية الصغيرة التي وضعها طنوس الحر   (عام ١٨٦٠)  فإنها لم تصاف من النجاح إلا القليل. وبعد مضي عشرين سنة ألف الكاتب السوري أديب إسحاق   (١٨٥٦ - ١٨٨٥)  فرقة تمثيلية صغيرة بمدينة الإسكندرية، وهو شقيق سليم النقاش المتوفى عام ١٨٨٤، واتجهت الميول وقتئذ شيئاً فشيئاً إلى المأساة شبه الكلاسيكية.

وكان أغلب أنصار هذه النزعة من رجال حلقة اليازجي والبستاني. وأول ما ظهر من المآسي (المروءة والوفاء، لخليل اليازجي   (١٨٥٦ - ١٨٨٩) ، وهي قطعة شعرية مستقاة من حادث معروف في أساطير الأدب الجاهلي. ويعد نجيب حداد

(١٨٦٧ - ١٨٩٩)  من أغزر الكتاب المسرحيين في هذا العهد إنتاجاً، فقد ترك ست عشرة رواية مسرحية، أغلبها منقول بتصرف عن مؤلفات كورني وفيكتور هيجو واسكندر دوماس وشكسبير، لكنه ليس من السهل غالباً العثور على الأصل. وكتب أيضاً بعض تراجيديات من وضعه، وهي لا تختلف عن سابقتها في النوع، نذكر منها   (صلاح الدين)  و   (ثارات العرب) . ونالت مسرحيات حداد إعجاب الجمهور إذ ظل يتذوقها ويفضلها على سائر المسرحيات العربية حتى نشوب الحرب العظمى، وإن كان الأوربيون يعتبرونها فطرية وغير متناسقة مع حاجات المسرح.

وحاول الكاتب المصري محمد عثمان جلال   (١٨٢٩ - ١٨٩٨)  أن ينفث روحاً جديدة في المسرحية الهزلية الأخلاقية، وفيما عدا ترجمته لمسرحيات راسين وكورني إلى اللغة العربية الفصحى، عزم هذا الكاتب على تنفيذ فكرة جريئة، هي نقل مؤلفات موليير إلى اللهجة المصرية العامية مع مراعاة الأحوال الأخلاقية المصرية. لسنا ننكر أن محاولته تدل على مهارة فائقة وعبقرية ناضجة، ولكن اللهجة العامية كانت غريبة على المسرح الذي لم يألفها، ولذا لم تمثل مسرحياته إلا في سنة ١٩١٢. تلك هي أهم البواعث التي يعزى إليها قصور التأليف المسرحي العربي على النوع شبه الكلاسيكي.

لما جاءت سنة ١٩٢٠ كانت بعض الروايات مترجمة وبعضها موضوعة على طريقة نجيب حداد، الذي كان قد أفسح المجال لعدة مؤلفين قديرين نسجوا على منواله. أما بعد سنة ١٩٢٠ فقد بدأ عهد جديد للأدب المسرحي في مصر بفضل جهود محمد تيمور الذي تحدثنا عنه في صدر هذا المقال. كان الفن المسرحي موضع عنايته الخاصة، وطالما كتب عن المسائل الخاصة بنظريات الفن المسرحي وتاريخه، كما أنه وضع عدة منولوجات لإلقائها على المسرح، وقد ترك أربع روايات مسرحية: روايتين هزليتين، ودرامة وأوبريت. أما حوادثها فتجري كلها في مصر الحديثة، عدا الأخيرة فهي مقتبسة عن مصر في عهد المماليك.

ومسرحيات تيمور تمتاز بالروح القوي، وتراه يدب فيها بفضل استعماله اللغة المصرية الدارجة، كما أن صفاتها المسرحية العظيمة جديرة بالتسجيل، ولا شك أنها في مقدمة المسرحيات المعبرة عن الحياة العصرية، وهذا من أقوى البواعث التي يعزى إليها نجاحها.

وفيما عدا هذه المسرحيات، فقد نجح ميخائيل نعيمه في المهجر، وفي وضع مسرحية هزلية أخلاقية، امتازت بما فيها من التحليلات النفسية الأخلاقية الرائعة؛ هي رواية   (آباء وأبناء)  - ١٩١٧ - ووقائعها مأخوذة عن الحياة السورية العصرية، وخصصت المقدمة لمسائل مبدئية، مما يدل على اهتمام المؤلف اهتماماً جدياً بالمشاكل التي يثيرها التأليف المسرحي، ولا ريب في أن هذه الجهود تعد فاتحة خير للفن المسرحي العربي.

والمسرحيات المصرية التي وضعها أنطون يزبك   (خصوصاً الذبائح)  المكتوبة باللهجة العامية، تدل على تقدم مطرد بالنسبة لسابقاتها. وقبيل عام ١٩٣٠ حاول الشاعر الكبير احمد شوقي بك أن يعيد إلى التراجيدية شبه الكلاسيكية رونقها وبهاءها، فخلف بعد وفاته عدداً من المسرحيات الشعرية المنقولة عن التاريخ المصري القديم أو تاريخ العرب ونحجت هذه المسرحيات نجاحاً باهراً بفضل تناسق روحها الشعرية الجميلة المكتوبة بأسلوب عربي قديم صحيح   (كلاسيك)  فجاءت مطابقة لذوق الجيل الحالي، وإن كانت لا تعد تقدماً في تاريخ المسرح العربي.

(يتبع)

اشترك في نشرتنا البريدية