الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 585الرجوع إلى "الثقافة"

في الأدب الغربي :, جي دى موباسان والمجتمع

Share

{ لم يجد الكاتب الفرنسي جي دى موباسان من مجتمع باريس عند ظهوره فيه إلا السخرية في ثوب من الترحاب ، ولم يلاقي منه سوى الأزدراء في قالب من المجون . وكاتب هذا المقال صديقي حميم لموباسان يصف فيه ما لالقاه صديقه على يد ذلك المجتمع }

كان أول عهدي يجي دي موباسان عن طريق رسائل خطيبتى لويز ، وقد بعثت بها إلى عند ما كنت منها بأفريقيا ، وكانت لويز تنتمي إلي تلك الطبقة من المجتمع الباريس الراقي ، ذلك المجتمع الأناني القاسي .

لقد حدثني عنه في أولى رسائلها حديثا غيبا ، فنصت على أنها ذهبت ووالدتها إلى حفل كبير وعندما اكتمل عدد المدعوين حدثهم الداعي أنه يتوقع حضور شخص مسل للغاية ، شخص نزق ساذج . وهو كاتب قدير تموزم الموهبة المعقولة . وقد اقترح عليه ان يحضر مرتديا سترته الحمراء الخاصة بالقنص ، زاعما أن الحفلة التي يقيمها إنما هي حفلة تنكرية .

وإن هي إلا برهة حتى أقبل الكاتب ، فالتفتوا إليه جميعا واحنوا له في خشوع . ولم يبد على القادم ما يدل على الارتباك ، بل كان مالكا زمام نفسه ، فاجني مرتين ردا علي تحيتهم ، ثم ابتسم ، وسرعان ما تعارف بالقوم قبل أن يقدمه لهم الداعي .

وبعد أسبوع جاءني منها كتاب تقول فيه إنها تشكر هذا الكاتب الذي يزعم أنه أخرج عشرات المجلدات من القصص فظهوره في المجتمع يبشر بازدهار الموسم الحالي بباريس ، إنه باهي بقوته ويتحدث عما يستطيع حمله من أثقال وعن فوزه في ساباق الزوارق .

وهكذا جعلت نواليق بالرسائل التي تصف ذلك الرجل العجيب ، وتشرح كيف زج بنفسه في المجتمع الباريس وقد اعتقد أن ضحكات القوم انما هي نوع من الترحاب .

وعدت من أفريقيا في العام التالي ، وبطبيعة الحال سألت لويز عنه ، فضحكت ووعدتني أن تسعي لمقابلتي به ثم قالت : إنه مسل للغاية . لتبد طلب من والدتي ذات مرة أن تلاحظ سلوكه على المائدة ، وقد سألناه الحضور لتناول الغداء معنا في الأسبوع القادم ، ولا أظن أنه سيعتذر عن المجيء .

وعند ما ذهبت إليهم في الموعد المحدد ، وجدت أنه قد سبقنى إلى هناك . كان قائم الوجه ، كث الشعر ، مفتول الشارب ، نخيل الأصابع ، قوي القبضة ، سريع النظرة . وكان في لهجته وحركاته خليط غريب من الجرأة والخجل . وكان من الجلى أن رغبته في الانخراط في سلك المجتمع الباريسي قد جعلت منه سمة رجل متكلف .

وسمعته يسأل : هل حقيقي أن السادة الدالفين إلي حجرة استقبال الكونتيسة سيفل قد اعتادوا الانحناء أمام كل سيدة يقبلون يدها ؟ هل هذا حقيقي ؟

فأجابت خطيبتي : إنه كذلك يا سيدي . ودهشت عندما وجدت والدة لويز تشترك في المؤامرة ، فجعلت تشرح كيف أن هذا التقليد قد نشأ منذ زمن بعيد ، وكنت واثقا من أن كل ما يقولونه إنما هو محض اختلاف ، ومن الجلى أنهم في سبيل القيام بمزحة سخيفة اخري علي هذا العبقري السئ الحظ . وكان موقفي دقيقا ، فأن لا استطيع أن اعارض أهل الدار ، ولا يمكنني أن أزج نفسي في تلك الحماقات

وعندما انتهي الفداء ، اقترح السيدات علي دي موباسان أن يقوم بتجربة دلوفه إلى حجرة استقبال آل سفيل فتردد قليلا قبل أن يقبل تحت إلحاحهن ويقوم بالمهزلة . ولم اطق صبرا فأخذت بذراعة وقاطعت التمثيليه وألم أتميز غيظا .

ولحقت به في الشارع وصحت قائلا : ألا تستطيع أن يري ؛ هل أنت أعمي ؟ الا تري أنهم يسخرون منك ؟ لماذا تسمح لهم بذلك ؟

فوقف واجما ثم قال في لهجة صبيانية ؛ حقا ، اتعتقد ذلك ! إنك أول من صرح لي بهذا القول . ولكني أعتقد أنك على حق . فعندما ارتديت سترتي الحمراء في العام الماضي وجدت الآخرين في لباس السهرة . وكان اعتذارهم انهم قرروا في اللحظة الأخيرة عدم ارتداء الملابس التنكرية ، وأنهم بعثوا بمن يخطرني بذلك

فصحت قائلا : إنهم يكذبون . فقال في بساطة : نعم ، ذلك ما أعتقده الآن . قلت : وما قصة الكونتيسة سفيل إلا كذبة أخرى .

فقد انقرضت مثل هذه العادات من باريس . إنهم يودون أن يجعلوا منك أضحوكتهم .

قال : ولكن كل من أحدثه يؤكد لي ذلك . قلت : نعم لأنهم جميعهم متواطئون على السخرية منك . قال : هذا ما ظننته أيضا . بيدو أنه عندما يخبرك كل من تقابله نفس الخبر . فإنك ستأخذ في الاعتقاد بما يقال . لقد تسلمت ثلاث رسائل من الكونتيسة سفيل تدعوني فيها إلى زيارتها . غريب ! أليس كذلك ؟ غريب ! .

وفجأة حدجني بنظرة فاحصة وقال : وانت ! أنت ! لماذا تخبرني بذلك ؟ لماذا لم تشترك معهم ؛ لماذا لا تضحك منى أنت الآخر ؟ لماذا ؟ .

قلت : لست أدري ؛ لست أدري فقال : أليس هذا شيئا فظيعا ؟ لماذا يسخرون مني ؟ خبرني ماذا أفعل ؟ .

قلت : لو كنت مكانك لاستطعت . . ثم صمت لحظة قلت بعدها : في الواقع . لست أدري ولم استطع أن أزجي إليه أية نصيحة بعد ما شاهدت شدة تلهفه على الاندماج في تلك الزمرة .

وفي اليوم التالي أقبل لرؤيتي وقد تأبط كتابا يحتوي على بعض قصصه . وسألني قائلا : - أتعتقد أن امرأة فرنسية فقدت ابنها في الحرب على أيدي الأعداء ، تستطيع أن تكبت حزنها عليه في قلبها

وعندما يغزو العدو بلادها تغلق علي بعض الضباط حظيرتها وتشعل فيها النار ؟ أتستطيع أن تفعل ذلك ؟ . قلت : نعم أظن أنها تستطيع .

قال : وهل تعتقد أن خادمة شابة تستطيع أن تقود فرقة من الأعداء إلى قبو للخمور وتحبسهم فيه ، ثم تصب ماء عليهم من خلال ثقب في السقف حتى يهلكوا غرقا كالجرذان ؟ .

قلت : إن الحرب لا تعرف الرحمة . قال : ولكن النقاد يعترضون على ذلك . إنهم يزعمون أن هذا ليس طبيعيا ، ولا يمكن حدوثه مطلقا . وحتى لو حدث لا يصلح لأن يكون قصة بالمعنى المقصود بها . وهذا هو السبب في إحضاري لك هذا الكتاب وهو يحوي مثل هذه القصص حتى تستطيع أن تقرأها وتحكم عليها باعتبارك ضابطا في الجيش .

ثم أطلعني على رسالة جديدة من الكونتيسة سفيل تدعوه للحضور في ساعة معينة " لحديث ودي خاص" وتحتم الرسالة بقولها : " يجب أن تحضر . إني أتلهف إلي رؤية عينيك الحزينتين . وستسرد على إحدي قصصك . وستؤنس وحدتي صديقتك الحميمة سفيل " .

وصحت قائلا : هذا ليس خط يد الكونتيسة ، إنها مكيدة تدير لك . لقد جعلت وصيفتها تكتب لك باسمها . وستخفي اصدقائها ليشاهدوك وانت معها . إنها مكيدة ؛ ولم يصدق ما قلته . بل حتي اعتقد أني أغار منه . وغادرني وهو يقول : إذا كنت أحمق فسأظل علي الأقل شريفا . وسترى

ثم جاءني بعد أيام وقال في لهجة حزينة : لقد كنت على حق . إنها خدعة . بيد أنهم أجادوا التمثيل . أواه ! ما اقطع ذلك ! لماذا يقومون بهذا الفعل ؛ لماذا ؛ ولماذ ذهبت ؛ لماذا .

فأمسكت يده وقلت : انسهم . انسهم . إنهم ما خلقوا إلا لذلك ، إن عالمهم غريب عليك ، وأنت غريب عليهم . إنهم يضحكون لأنهم جاهلون . لا يقدرون ، ولا يفهمون . وانهالت الدموع تثرى من عينيه . ثم قبلني قائلا أنت صديقي . وسأصغي إليك ، خبرني ما الذي أفعله ؟ .

فرددت قائلا : انسهم . استمر في عملك وانسهم . فغادرني وهو يقول : نعم سأفعل ذلك ، سأفعل .

ومضت مدة جاءني بعدها منه كتاب يدعوني فيه إلي مأدبة سيقيمها لأصدقاته في مطعم معين بمناسبة سفره بعيدا عن باريس للاستشفاء . وذهبت في الموعد المحدد . كانت المائدة معدة لما يقرب من عشرين ضيفا . ولاحظت سمكة ضخمة موضوعة في وعاء فضي تحته مصباحان كحوليان مشتعلان لتسخينه . وكان صديقي مرتديا سترته الحمراء . وشاهدت بطاقات موضوعة على المائدة ، وقد كتب عليها أسماء المدعوين كان من بينها لويز ووالدتها والكونتيسة سفيل . وسألته : هل سيحضرون جميعا ؟ .

نعم لقد قبلوا الدعوة . إني لأعجب ماذا ؟ ! أنت لا تعتقد أنهم حاضرون ؟ يبد أنهم اكدوا لي انهم قادمون . وعندي رسائلهم . إن كل شئ على استعداد . ولقد أعددت لهم خطبة قصيرة .

وانتظرنا ساعة كاملة دون أن يحضر أحد . وأخيرا نادى الخادم وقال له : تستطيع أن تقدم الطعام الآن .

ولاحظت مفتاحا موضوعا بجوار وعائه على المائدة ؛ تلك المائدة المعدة لعشرين مدعوا دون أن يكون عليها سوي اثنين . وعند ما انتهينا من تناول الحساء قال للخادم : يمكنك الآن أن تقدم السمك ( وأعطاني الخادم نصيبي وهم بإعطاء صديقي عندما قال له " كلا ، قدم اولا للاخرين ونظر الخادم حوله . لم يكن هناك أحد ويبدو أن دى موباسان ردد قائلا : " قدم لكل ضيوفي اولا ، ثم قدم لي أخيرا " وذهب الخادم من موضع إلى آخر ووضع قطعة من السمك في كل وعاء . ثم هز كتفية وغادر الحجرة.

وفي اللحظة التي انصفق فيها الباب انحني صديقي علي وهمس في أذني قائلا : لا تأكل السمك ، أنت صديقي لا تأكل . انظر وشاهد ، ثم قام وأخذ المفتاح وأغلق به باب الحجرة . وأخيرا عاد وجلس في مقعده . وبعد لحظات وقف وقال في صوت جهوري واضح :

" سيداتي ، سادتي لقد أعددت لكم خطبة قصيرة سأقوم بإلقائها الآن بعد استئذانكم لقد سألني العديد منكم ما الغرض من هذه المأدبة ، ولهذا وجب على أن

أشرح السبب في كلمات قلائل . أنتم ترون أبي مرتد سترتي الحمراء ، كما كنت أرتديها دائما لأرضيكم . إنكم إذا ما سألتموني أن أركع أو أتملق أو أرقص لوجدتموني رهن إشارتكم دائما . بيد أنه يجب أن أذكركم الآن أنكم نسيتم شيئا شيئا صغيرا جدا حقا ، ولكنه شئ مهم - لقد نسيتم أنه في يوم ما سيجيء حتما دوري . لقد تعلمت منكم ، والآن حان دوري وسترقصون أنتم . أقول سترقصون . وإني أعرف أنكم سترقصون ؛ وأنتم يا نقادي الأعزاء ، يا من حملون آلات جراحية في جيوبكم قد علاها الصدأ ، لكي تقطعوا بها كل ما يدعي حياة ، إنكم مخطئون يا أصدقائي ، إن قصة العجوز التي أشعلت النار في حظيرتها قصة واقعية ، وكذلك قصة الخادم ، لقد آمن بهما العسكريون ، ثم التفت إلي قائلا : أليس كذلك ؟ .

" نعم يا نقادي الاعزاء إنسكم مخطئون . وأنتم سيداتي سادتي ، سأترك لكم الحكم على أينا أعظم قسوة . إن هؤلاء النقاد يقولون إنى قاس . ربما ، ولكن عجب ان اضيف أني على الأقل رجل شريف النفس والعمل . بينما أنتم لا تعرفون نهاية لتعذيبكم ، كما أنكم تجهلون نتيجة زيغكم وخداعكم ، وهذا ما أظنه عنكم ، وعنك أيضا يا عزيزني الكونتيسة ، فوصيفتك تقوم بالحب بدلا منك ، ومدللوك يسترقون السمع وراء الستائر . وأنت عزيزني لويز الفاتنة إن تحت طلائك مرارة ، ما ألطفك من سيدة تصلحين لمجتمع من الداعرين . أتعتقين أنك سنتروجين ضابطا وتخفين الرائحة التى تفوح من طبعتك الشريرة ؟ لا ،

سرعان ما يكشف سرك . ولكن ، كلا . لقد رتبت لك شيئا آخر . عزيزني لويز ، ستركعين في تؤدة ، لا ، بل سيركع الجميع أمام كونتيسة النفاية البشرية . سيداتي سادتي ، إن السمك الذي أكلتموه الآن مسموم ! والباب مغلق ! وسأخنق أول شخص يصبح في طلب المعونة ! " . ثم صمت وقد ارتجفت يداه عندما أهوي بهما على المائدة ، واهتزت الأوعية ، وسقطت بعض الأواني الفضية على الأرض . وسمعنا طرقا على الباب . كان الخادم يحرك المقبض . واسترسل دي موباسان قائلا : " موتوا أيها الجرذان . إن الرفس للحمقي ، أما السم

فللجرذان ! ارقصوا الآن وليعلمكم عذابكم معني المهزلة

ثم تهالك على مقعده . وازداد الطرق حدة . فقمت وفتحت الباب . وأقبل خادمان وجعلا يتطلعان حولهما في دهشة . فإنه لم يكن هناك في الحجرة سواي وصديقى . وكان جالسا على مقعده صامتا مفكراً .

وعدنا إلى الدار في صمت ، وقبل ان نفترق شد على يدي قائلا : من الأسف انهم لم يحضروا . فالسمكة لم تكن مسمومة : بيد أنه قد يكون من الأنفع لهم أن يظنوا أنها كذلك . وكم يكون منظرهم طريفا . إني سأرحل غدا ، وداعا ، وتعانقنا ، وامتلأت عيناه بالدموع وهو يقول : " وداعا ، وداعا " . ولم أره بعد ذلك .

اشترك في نشرتنا البريدية