الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 39الرجوع إلى "الثقافة"

في الأدب الفرنسي:, شاعر الإرادة والبطولة، بيير كورني Pierre Corneille

Share

حياته وعلاقاته ورواياته:

من عجيب الأمور في الحياة أنه إذا ولد ابن ملك، أطلقت المدافع إيذاناً بمولده وفرض على الشعب أن يبتهج إن كان شقياً، أو بعث الفرح في نفسه إن كان سعيداً؛ وإذا ولد عبقري جهل الناس أمره، ولم يشعر بمولده أحد، وبعد أن تكشف العبقرية عن نفسها ويسود مجدها، يبحث الناس في ظروف مولدها، وفي حوادث شبابها عن الآمارات العظيمة التي تدل على مستقبلها وكذلك ولد بيبير كورني في ٦ يوليه سنة ١٦٠٦ بمدينة روان من أعمال فرنسا. ولم يسطع في ذلك اليوم نجم في السماء جديد، أو يحدث على سطح الأرض حادث خارق يعلن إلي الناس قدوم رجل عظيم.

أحبه والداه حباً شديداً ونشآه على التقوى والفضائل، ولم يجدا فيه ما يدلهما على أن اسم كورني سيكون يوماً في شعقة المجد الفرنسي. ولما بلغ أشدة أدخله أبوه مدرسة يديرها الجزوبت، فتلقي فيها تربية قوية صلبة وتعليماً متيناً. ولم ينس قط لهذه المدرسة الأثر الجميل الذي خلقته في نفسه الغضة. ثم أراد له أهله أن يكون من رجال القانون، فكان إرضاءً لهم دون أن يشعر بميل إلى ما أصاروه إليه.

نال إجازة الحقوق في ١٨ يونيه سنة ١٦٢٤، وترافع أمام القضاء، ولكنه لم يصب غير الفشل الأليم، لأنه

كان خجولاً يشعر في حضرة الناس باكتئاب باطني يغمر عليه الحيرة والاضطراب، ويسلط على لسانه الحبسة والحصر. وعلى حين بغتة حدثت مصادفة سعيدة أظهرت عبقرية هذا المحامي الصغير. كان له صديق عزيز عليه يحب فتاة، وقد طلب منه أن يصحبه في زيارته لها فقبل، ولما تكررت هذه الزيارة أدرك كورني أن الفتاة أخذت ترنو إليه دون صديقه، فكف عن زبارته لها، لأنه بطبعه وفي كريم. هذا الحادث دفع كورني إلى كتابة قصة تمثيلية فكاهية سماها ((ميليت)) مستمداً قواعد الفن من نفسه وذوقه، ثم سافر إلي باريس وفي جيبه فصول القصة الخمسة، ولم يجرؤ على تقديمها لممثلي "بيت بورجوتي" المهرة، وهو الملعب الوحيد الذي كان في ذلك العهد، فقدمها في تواضع إلي ممثلين مغمورين فقراء، كانوا يحاولون إنشاء فرقة وملعب صغير.

مثلث هذه القصة في عام ١٦٢٩ ودرت على الملعب الصغير رزقاً حسناً، ولكن الجمهور الذي ألف مشاهدة القصص التمثيلية المقتبسة أو المنقولة عن كتاب أسبانيا والزاخرة بالدسائس والعقد، وجد قصة ميليت سهلة بسيطة طيعية. ولكي يكتسب كورني إعجاب الجمهور وضع في سنة ١٦٣٢ قصة "كليتا ندر" ولم يكن فيها ما يستحق التقدير إلا الأسلوب. وبعد هذه القصة يئس من الحصول على نجاح يرضيه في الكوميديا، وشعر بيقظة التراجيديا في نفسه، فاستعار من "سنيكا" الحكيم الروماني موضوع قصة سماها "ميديه" وأخرجها في سنة ١٦٣٥، فأصابت بعض النجاح، واسترعت نظر "ريشليو " الوزير الفرنسي المعروف، وكان هذا الوزير مولعاً بالتأليف التمثيلى، وإليه تنسب أربع قصص غيبت كلها في تضاعيف النسيان. ويقال إنه لم يكتب هذه القصص، وإنما كان يضع خططها ويشرف على كتابتها.

اتجه نظر ريشليو إلي كورني ورآه جديراً بالعمل معه في تصنيف قصصه التمثيلية، فعرض عليه رغبته في الانضمام إلى ((جماعة المؤلفين)) وكانت مكونة من أربعة أشخاص يكتبون باسم الوزير، فقبل كورني لأنه شعر بالحاجة إلى عضد قوي يعبد له الطريق، واندمج في هذه، العصبة الصغيرة، ولكنه حرص على الاحتفاظ بكنوز عبقريته لنفسه وذات يوم طلب إليه الوزير أن يضع الفصل الثالث لإحدي قصصه وفقاً للخطة التي رسمها له، فلم يوافق كورني على هذه الخطة، فدهش الوزير من جرأته واسترد منه شرف العمل معه، وقال عنه: ((ليس فيه روح العمل وأي غيره!)) أي ليس فيه روح الرضوخ والذلة.

نالت هذه الصدمة من نفس كورني منالاً كبيراً، فعاد إلى رواوان ليجد بين أحضان أسرته متنفسا من ألم الفشل. ثم اعتزم العدول عن التصنيف التمثيلى وهجر الشعر. ولكنه قابل مصادفة مستسراً قديماً للملكة

ماري دي مدسيس يدعي شالون، فنصح له بأن يدرس في إمعان شديد المسرح الأسباني، ولفت نظره إلى موضوع ((السيد)) وكان قد عولج في أغان وطنية أسبانية وفي قصتين من نوع التراجيديا إحداهما لدون جوان ديأمانات والآخري لجيلهم دي كاسترو. قرأ كورني القصتين. وخلال غرابة التركيب وضعف الأسلوب استخلص حدثاً درامياً ومواقف رائعة وافكاراً خلابة، فوضع أولى قصصه الخالدة وهي السيد، أول درة في تاج المسرح الفرنسي سنة ١٦٣٦ وقد أثلرت في نفس ريشليو الغيرة والحسد، ولكن كورني تعزي بتصفيق الأعجاب الذي ناله من فرنسا كلها؛ وبلغ من نجاح هذه القصة أن أصبح الناس يقولون: هذا جميل كالسيد، وانتشرت هذه الكلمة حتى عدت من الأمثال العامة.

وقال بعض خصوم كورني إن الجمال الذي يعجب به في القصة يرجع الفضل فيه إلى دي كاسترو الأسبابي. وقد استاء الشاعر من هذا القول، فبحث في التاريخ القديم عن موضوع يخلق منه قصة مهمة، فعثر في ((نبث ليف)) المؤرخ الروماني المشهور على تاريخ الموقعة التي حدثت بين آل هوراس وآل كورباس، وأخرج من هذا الموضوع قصته العظيمة ((هوراس)) في عام ١٦٤٠. وفي العام نفسه أخرج قصة ((سنا)) أو رحمة أغسطوس التى نالت أكبر قسط من النجاح. وفي سنة ١٦٤٣ أخرج ((بوليكت)) و ((بوسيبوس))و ((الكذوب))، وكلها قصص خالدة أبلغته ذروة المجد والعظمة، وعقب قصة السيد منح الملك لويس الرابع عشر والد كورني لقب الشرف ووثائق النيل، ثم دخل الشاعري المجمع اللغوي (الاكاديمية الفرنسية) في سنة ١٦٤٧.

استمر كورني بعد ذلك يصنف القصص التمثيلية، ولكنها لم تبلغ الدرجة التي بلغتها القصص السابقة. وفي سنة ١٦٥٢ أخرج قصة ((برناريت)) فلم تنجح، فآله

هذا الفشل ولزم جانب الصمت سبع سنوات قضاها في روان مع زوجه وأولاده الثلاثة، وكان قد تروج في سنة ١٦٤١. ثم شاءت المصادفة أن يزور ((موليير)) الشاعر وفرقته مدينة روان ومثلوا فيها بعض كوميدياته. ولما شاهد كورني التمثيل انتعش في دخيلته حب السرح، فعاد إليه في سنة ١٦٥٩ أمام جيل جديد من النظارة بقصة ((أوديب)) فقوبلت مقابلة حسنة. ثم أخرج عدة قصص ولكنها فشلت جميعاً. ويقال إن سبب الضعف الذي ظهر في قصصه الأخيرة يرجع إلى إفراطه في العمل والعجلة في التصنيف، لأنه كان في أشد الحاجة إلى المال بعد أن استنفدت تربية أولاده موارده المالية كلها. ولكن الحقيقة أنه كبر ومالت قوة ذعنه إلي الأضمحلال والركود، يدل على ذلك قوله: ((شعري ذهب مع أسناني)) وفي ليلة أول أكتوبر سنة ١٦٨٤ توفي بعد أن ذاق مرارة الفاقة في شيخوخته كغيره من العباقرة، لأن الشقاء فيما يظهر هو الفدية الضرورية للعبقرية. وقد قام المجمع اللغوي بنفقات تجهيزه ودفنه.

مكانته ومواهبه ومذهبه:

كان حساد هذا الشاعر العظيم كثيرين، فلما توفي لم يروا فيه غير الشاعر العبقري الذي خلق أروع القصص وجاءهم بآيات بينات في البلاغة، ووضعوه في مكانة أعلى من التي كان يشغلها أيام مجده. ومن الغريب أن مدينة روان لم تقم تمثالاً لأشهر أبنائها إلا في سنة ١٨٣٤!.

وكان معاصروه من كبار الأدباء لا يستطيعون إنكار قوة ذهنه وسمو شعره، وكان هو نفسه يؤمن بعبقريته ويتحدث بها في عزة الرجولة وفي صراحة تفضل التواضع المصطنع الذي لا يخفي ما تحته من زهو خُلق.

ونستطيع أن نقول إن كورني قلب كبير ونفس جميلة، لأن العواطف السامية كلها التي يجدها القارئ في

قصصه مصدرها قلبه ونفسه ليس غير.

كانت الأخلاق في عصره هابطة والبطولة نادرة، فلما جاء عمل على إيصال القليل من حرارة الشعلة التي تحركه إلى خمود معاصريه، فتنبهت قلوبهم وهبت تخفق على توقيع ألحانه.

يقال دائماً إن الشاعر لا يصور إلا معاصريه، وإن كورني استمد موضوعاته من العادات والأخلاق التي كانت تحت بصره. ولكن كورني شذ عن هذه القاعدة لأنه كان يصور الناس كما يحب وكما ينبغى أن يكونوا، أي كان يصورهم على طراز نفسه العالية.

ومن يقرأ كتب هذا الشاعر، يجد أن الرغبة في جعل الإرادة تتغلب على كل الصعاب والعقبات هي من عناصر البلاغة الخاصة به، ويجد أن أبطاله سواء كانوا يريدون قهر أنفسهم أم قهر غيرهم، يبذلون جهدهم في إقامة الدليل الذي يبرر إرادتهم وعملهم، وهم يشرحون حساسيتهم في شعر ساحر ويعبرون عن إرادتهم في لهجة خطابية؛ ومن أجل ذلك يلذ لهم الحوار الطويل، والمنطق السليم الذي يؤرث إرادتهم، والبراهين القاطعة التي تنتصر على ترددهم. وهم فضلاً عن ذلك، وفي كثير من المواقف، يريدون أن تقر ضحاياهم أعمالهم.

قلنا إن كورني كان عيياً في حضرة الناس، ولكنه كان خطيباً بلسان أبطاله، وفي كل قصة نجد أن الحوادث هي نتائج قرارات الأبطال ومشيئهم. فالإرادة في مسرح كورني هي نابض الحركة الوحيدة، وهذا ما يجعل لمسرحه قيمة خلقية فريدة. وإن جعل الفعل الدرامي معلقاً على مشيئة الأبطال لهو في الحقيقة تخفيض لنصيب الظروف أي تبرئها مما نتهمها به. وليس هذا حقيقة خالصة؛ ولكن كورني أراد بعمله أن يرغب الناس عن التواكل والاستسلام ويربي فيهم الاعتماد على الإرادة.                    ولكي نحكم على كورني حكماً صحيحاً، ينبغي أن

نضع نصب أعيننا دائماً أنه المؤسس للتراجيديا الفرنسية. حقاً أن كثيرين جاءوا بعده متزودين بدروسه ومنهاجه، فماثلوه أو يزوه، ولكنه بقي أستاذ هذا النوع. إنه هو الذي ابتكر استعطافاً جديداً يقوم، لا على الفزع والشفقة، ولكن على الإعجاب: الإعجاب بالمواقف، والإعجاب بالخلق، والإعجاب ببطولة الواجب وروعة التضحية. وهو الذي حدد شكل التراجيديا الفرنسية وجعلها ((قضية أخلاقية توضع بواسطة العرض ثم تحصل المناقشة فيها بواسطة المقلابات الحال ثم تحل في الختام)). وعبقريته هي التي جعلت التراجيديا تحليلاً نفسانياً لشهوة من الشهوات، تتدرج في طريقها حتى تصل إلى العنف والحدة ثم إلى النتائج الأخيرة.

أثره في التراجيديا والأدب:

كانت التراجيديا قبل كورني محاورات طويلة، وكان واضموها يصورون الوالد والولد والزوج في ظروف شخصية خاصة محدودة، ولكن كورني صورهم بطريقة عامة، أي صور المثل الأعلى للوالد والولد والزوج.

قال ((سانت بيف)) الناقد المشهور : ((إن كورني هو الشاعر الجدير بأن يعاصر الفيلسوف ديكارت. كان هذا الفيلسوف يبرهن على وجوده بالفكر فيقول: إني أفكر. إذاً أنا كائن. وكان الشاعر يبرهن بالفكر على الحساسية المحركة والحياة. فكل شئ في قصصه يقول: إني أفكر. إذاً أنا شاعر حي)).

وكل ما يعاب على كورني أنه لم يصور المرأة في قصصه تصويراً طبيعياً. وذلك لأنه لم يسير غور القلب النسوي. وكل أبطاله النساء لا تمت إلى الطبيعة إلا بصلة ضعيفة، لأنه خلقهن من إدراكه لا من تجربته وملاحظاته.

كان كل همه أن ينتج الإعجاب بالفضائل. وقد بلغ غايته بجعل الواجب يناضل الهوى ثم ينتصر عليه. وهذه

الغاية أرغمته في بعض الأحيان على أن يبالغ في قوى أشخاصه ويعلو بهم فوق الضعف الإنساني ليحيلهم إلى أبطال، وبهذه الطريقة استطاع أن يحقق طموحه النبيل إلى جعل مسرحه مدرسة لعظمة النفس.

وطبيعي أن ينهض كورني بالمسرح الفرنسي لأنه جاء في عصر زاهر مهيأ لهذا النهوض، وليس من شك في أن المسرح من أنفع وأنبل ما ابتكر العقل الإنساني لتهذيب العادات وصقل الخلق . ولا يمكن أن يصل إلى كماله إلا حين تبلغ الجماعة نفسها ذروة مدنيتها. ولهذا يتكون الفن الدرامي دائماً في بطء، بينما يظهر الشعر الحماسي والغنائي في طفولة الأمم بقوة أكثر مما يظهر بها في عصر نضجها، لأن شعراء الملاحم والغناء يستطيعون أن يسلموا أنفسهم إلى جرأة عبقريتهم، وبهذه الجرأة بسبقون القرون. أما شعراء الدراما -ومهمتهم كما تعلم تهذيب الجماهير- فإنهم مرغمون على أن يلائموا عبقريتهم مع عادات العصر الذي يعيشون فيه. ومن أجل هذا نرى أن الجماعة التي لم تبلغ شأواً بعيداً في الدنيا لا يشغل المسرح من أدبها إلا مكاناً ثانوياً. فإذا دنت من نضجها أخذ المسرح مكانه في الصف الأول من مدرسة الإدراك. وهذا ما حدث في فرنسا في القرن السابع عشر، وما حدث في اليونان قبل مجيء سفوكليس وأوربيدس وأريستوفان واسخيلوس.

وعند ظهور كورني كان قد مضي علي الناس أكثر من مائة عام وهم يعالجون التفكير ويتألفون الشعر والنثر دون أن ينجحوا النجاح المرجو، وعبثاً نهبوا مؤلفات الأقدمين ومسخوها، وعبثاً سرقوا من الرومان والإيطاليين والأسبان، وعبثاً انتحل كتاب النثر لأنفسهم من شيشرون وبلوكارخوس. ثم جاء كورني وديكارت فحررا اللغة والفكر الفرنسي من رجعة الإغريق والرومان، فهما أول من أعطي للأدب الفرنسي صبغته الخاصة وطابعه القوي؛ فقصة ((السيد)) و ((رسالة في المنهج)) لديكارت

تعيشان عهداً جديداً في تاريخ الأدب والفكر الفرنسي. وكما يفخر الرومان بأن عصر أغسطوس أنتج هوراس وفرجيل، كذلك يفخر الفرنسيون بأن عصر لويس الرابع عشر أنتج أكبر شاعر لهم وهو كورني.

ونختم هذا المقال بكلمة نابليون الأول: ((القصة التمثيلية تهذب النفس وتسمو بالقلب وتخلق دون ريب أبطالاً. وإني أجهر بأن فرنسا تدين لكورني بجزء كبير من أعمالها المجيدة. إن القصص التمثيلية مدرسة عالية لعقلاء الرجال.

ومن واجب الملوك تشجيعها ونشرها، ولو كان كورني حياً في زمني لجعلته أميراً)) .

ولكن كفي كورني فخراً أن الشعب أطلق عليه لقب ((العظيم)) لأنه أتحفه بقصة ((السيد)) وهي الحب في أجمل أثوابه، وبقصة ((سينا)) وهي السياسة في أسمي أشكالها، وبقصة ((بوليوكت)) وهي الدين في أروع مظاهره؛ والحب والسياسة والدين هي ((ثالوث)) القلب الإنساني.

اشترك في نشرتنا البريدية