الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 33الرجوع إلى "الثقافة"

في الأدب المقارن :, الإباحة فى الأدب

Share

يري فئة من النقاد أن الفنون الجميلة ومنها الأدب بفروعه ما هى إلا تعبير عن التجارب النفسية التى يمارسها المتفنن أو الأديب . فالآديب يري ويسمع ، والأديب يتمرس بإحساسات خاصة ، وعليه أن يبرز كل ذلك فى قطعة الشعر أو النثر التى يرسلها . فهو يأخذ بنفس السامع أو القارئ أو الناظر ليسير بها فى نفس الطريق التى سلك ، وهو يمحض كل هؤلاء نفس التجارب التى عاني . ولكل أديب أو متفنن وجهة خاصة يتخذها إذ يؤلف الشعر والموسيقى ، وجهة تأخذ بجماع الحياة التى يعيش فيها ؛ فنفس الأديب أو المتفنن فى الغالب هى مركز الحياة التى يعيش فيها ، والفردية تظهر فى رجال الفن والأدب أكثر مما تظهر فى رجال العلم والعمل .

والعصور التى يزدهر فيها الأدب عصور تظهر فيها إرادات الأفراد أكثر مما تظهر فكرة الجماعة ؛ وحيث وجدت المذهب الفردى مزدهرا . وجدت نتيجة لذلك آيات من الشعر والفن . ويظهر أن ذلك لأن التفكير الفردى هو المنبع الأول الذى ينضح بكل الافكار الأدبية والفنية ، فإذا هو غاض شمل الناس جميعا طابع خاص لا يكاد يطوع لأحدهم ان يقول الشعر ، ولا أن يأتى بجديد غير ذلك الذى اتفقت عليه الجماعة . فالتفكير الفردى عند كثير من النقاد هو الذى مثل مصور الأدب الزاهرة ، وهو الذى مثل بعد ذلك كثيرا من الوهن الذى بحيق بقواعد الخلق العام .

حينما يصور الأدباء أو الشعراء تجاربهم النفسية ، يحيلون ما فى أغوار نفوسهم إلى رموز هى نفسها الشعر أو القصة . وقد ذكر تاريخ الأدب كثيرا من هؤلاء الذين لم يقيموا وزنا لأوضاع الجماعات التى عاشوا فيها ، بل هم عبروا عن الخبيث والطيب مما شعروا ، غير محتفين بمعايير الخلق . وهؤلاء هم الدين أنتجوا كثيرا من آيات فنية لم تتقيد بهذه الأوضاع . وقد استطاع النفسيون الأحداث أن يكشفوا عن نفسيات الأدباء والشعرا ، وأن يروا الغرائر الدنيا كيف استحالت إلي تصوير مادى فى الشعر والقصص .

على أن فئة أخرى من النقاد يخالف هؤلاء أشد المخالفة ، فهم يرون أن للجماعة أصولا عامة يجب أن يكون الفن إحدى دعائمها . بل يذهب أولئك إلى أن الفن بجميع نواحيه ينبغى أن يكون دعوة عامة تبث الخلق الكريم ، وتوثق العلائق بين الأفراد . وقد كان تولستوى بقدر ذلك الوزن الخلقى للفنون . وقد ثار بآيات الفن التى تحدرت فى ثقافة أوربا . وهو قد كان يرى أن الفن يستهلك جهدا ضخما من نشاط الإنسان ، وأنه ينبغى ألا يضيع هذا الجهد سدى . وهو يرى أن غاية المتفنن هى أن يتصل بنفوس الجماعة التي حوله . فهو في خلق آبات الفن يتمرس بإحساسات نفسية دقيقة ، يجب أن ينقلها إلى غيره من القراء والسامعين . أما هذه الاحساسات

فهى عند تولستوى دينية قبل كل شئ ، لأن الشعور الدينى فى رأيه هو الذى يؤلف بين الناس أجمعين . فكل فكرة فنية لا تستقيم والشعور الديني ، فهي ليست عنده فنا أصيلا . وكل الذي كتبه شكسبير ودانتي وجوته وغيرهم ، فهو ليس بالفن الصحيح ، لأنه فى غل ، لايوثق العلائق بين الناس ، ولا يخلق صلات من المودة والإخاء ، ولا يربط ما بين الناس وبين الله ؛ بل إن تولستوى ليرى فى قصص مثل " قصة مدينتين " و " البؤساء " و " كوخ العم توم " أمثلة عليا للفن الأدبى . لأن عامة الناس يستجيبون لتلك القصص ، ولأنها جميعا تقوض فكرة العنف الت بيغير بها قليل من الطغاة على كثير من البؤساء المضطهدين .

لذلك اضطرب الفن بين التزمت الخلقى وبين الإباحة ، ولذلك كان النقد الأدبى موزعا بين التفكير فى الفرد وبين التفكير فى الجماعة . ولعلنا نستطيع فى موضع آخر أن نتأثر آيات الفن التى أنتجتها فكرة الخلق القوى فى تاريخ الأمم ؛ لكننا نبحث فى هذه العجالة مدى الآثار التى أنتجتها الإباحة ، وهل كانت كلها شرا ، أم هل أفاد الفن والأدب من الحرية التى أتيحت لهما ؟

كان عصر النهضة فى أوربا عصرا تحلل من كثير من قواعد المسيحية ، لأن القسيسين والأمراء كانوا قد أساءوا استخدام الدين ، فاتخذوا منه ذريعة لمقاومة حرية الفكر . وحينما تحلل الناس من كل ذلك خرج العقل الإنسانى فاحتك بالحياة ، وكان من ذلك تلك المدينة السامية التى أقامتها النهضة . وفى نفس الوقت الذى تحرر فيه الفكر الإنساني تخفف المتفننون من كثير من قيود الخلق ؛ لذلك كان عصر النهضة عصر الحرية الفكرية والقوة الغشوم على السواء ؛ كان عصر المكتشفات الحديثة ، وعصر

الخديعة والوقيعة والرياء . والحق أن العلم والفن لا يتناقضان والتحلل الخلق . فأنت قد ترى العلم سليما والفن مزدهرا حيث كانت الحرية ، فإذا ما أوتى المتفتنون تلك الحرية أطلقوا لأنفسهم العنان ، فكانت من ذلك موجة من موجات الإباحة . وقد حدث ذلك فى بلاد الاغريق وهى فى أزهى عصورها . وحدث مثل ذلك فى إيطاليا وغيرها من بلاد أوربا الغربية أيام النهضة . ففى العصرين نلمح عنصرا من عناصر العبقرية ، وعنصرا آخر من عناصر الاباحة والاستهتار . والعبقرية الفنية والاباحة الخلقية يثآلفان فى كل وجه من وجوه الحياة الأتينية ، وهما يتآلفان كذلك فى كل ناحية من نواحى النهضة فى أوربا .

أثرت تلك الإباحة فى الآيات الفنية التى أخرجها الكتاب والشعراء والفنانون فى عصر النهضة . وجنى الفن ثمار لا زالت يانعة . فعلى الرغم من هذه الإباحة الخلقية كان العنصر الفردى شديدا ، وكان لكل فنان صورة خاصة للحياة يبرزها وينميها . ولعلك تستطيع أن ترى فى منتجات شيكسبير صورة من صور النهضة . فإن مسر حياته تدور حول القوة والخديعة والختل . ففى رواية مثل " عطيل " تحس الغيرة وهى تنهش قلب ذلك المغربى ، وترى " ياجو " بارزا كالشيطان يغرر به ويدفع به إلى الحضيض . وفى مسرحية أخرى مثل " الملك لير " تحس بلفحة من العقوق البنوى تكاد تلهب الأفئدة . وقل مثل ذلك فى " هاملت " و " يوليوس قيصر " و عا ما كبث " و " روميو وجوليت " بل قل مثل ذلك فى مهازل شيكسببير ومباذله . فالخيانة والختل والخداع من بعض وجوه الإباحة التى شاعت فى الحياة العامة فى عصر النهضة . ولعل ذلك جميعه قد كان نتيجة لازمة لعصر حر تنبه فيه العقل البشرى . فقد تيقظ الفكر لكل ما يحدث على ظهر الأرض ، وكان قد تحلل من النظرة الدينية التى

استبدت به خلال العصور الوسطى . فهو قد أدرك الفلسفات التى قامت عليها الحضارة الحديثة ، وهو قد أدرك فى نفس الوقت كل ما يندفع فى هذه الحياة من شهوات النفس وغرائز الفطرة الأولى .

هذا الاعتراف بالغرائز والشهوات كان نتيجة الحرية التى ميزت عصر النهضة كما ميزت الحياة الأتينية فى القرن الخامس قبل الميلاد . وكما ميزت الحياة العربية فى القرنين الثانى والثالث بعد الهجرة . وقد كان للغريزة الجنسية مكان بين الغرائز التى أنتجت تلك الإباحة ، لأن العلاقة بين الرجل والمرأة موضوع عام من مواضيع الأدب . وما دمنا قد ضربنا المثل بشيكسبير فحرى بنا أن نستطلع حياته الخاصة لعلنا نرى فيها وجها من وجوه الإباحة .

أما مسر حياته فهى قليلة الجدوى فى هذا السبيل ، لأن الوجهة التمثيلية التى اتخذها شيكسبير فى كتابة مسر حياته لم تكن تسمح له بأن يعبر فيها عن نفسيته تعبيرا واضحا صادقا . أما مقطوعاته (sonnets)  فهى الوسيلة المثلى التى عبر بها شيكسبير عن سرائر نفسه . وفى شطر من هذه المقطوعات يتحدث شيكسبير عن حسناء قد أخذت عليه مشاعره . وفى شطرها الآخر يتحدث عن شاب أغرم شيكسبير " به غراما . وهو يطلق لخياله العنان فى تصوير العشق الأول والعشق الثانى . فهو يصور خداع الفتاة ، وهو يصور هيامه بالفتى . وهو موزع بين الاثنين . ثم إنه يشكو الفتى لأنه طغى عليه ، فاستطاع أن يبلغ إلى قلب الفتاة وأن يستلبها منه .

ذلك وجه من وجوه الحياة الاجتماعية أيام النهضة . وإذا صح أن كل ذلك تصوير صادق لعلاقات شيكسبير الخاصة ، فإن جو النهضة لم يكن حرا فحسب ، ولا فرديا فحسب ، بل لقد بلغ مبلغا من الإباحة لم نعرفه إلا فى

عصور قليلة فى تاريخ الإنسانية . فشيكسبير المتفنن قد عرف حب النساء كما عرف ذلك العشق الخبيث الملتوى . وأصدق الظن أن كل ذلك كان شائعا فى عصر النهضة شيوعه فى العصر العباسى .

وإذا نحن انثنينا إلى الأدب العربى وجدنا فى أخريات العصر الأموى وفى العصر العباسى شيئا يشبه كل الذى أسلفنا . وكان قد أنتج الدين حياة خلقية شديدة فى العصر الأول من الاسلام ، ولكن دب التحلل الخلقى فى حياة الأمة الإسلامية ، فذهب الشعراء مذاهب شتى فى الغزل وفى وصف شئون النساء . وأقام عمر بن أبى ربيعة والأحوص فى مكة والمدينة مدرسة بأسرها من مدارس الفن كان قوامها التشبب والتغزل ، ثم أينعت الحكمة الاسلامية فى العصر العباسى . ولكن سايرتها جنبا إلى جنب تلك الإباحة الخلقية التى بلغت الذروة فى شعر أبى نواس وأضرابه فى بغداد .

كانت بغداد فى أيام الرشيد والأمين موئلا من موائل النعمة والترف ، وكانت فيها أسواق للجوارى والغلمان ، واجتمع بها سلائل شتى الأمم التى غلبها العرب ؛ وهذا الترف وتلك النعمة وذلك الخصب فى التسرى هو الذى جعل من بغداد مسرحا للتهتك والمجون ، وهو هو الذى أنطق والبة بن الحباب وأبا نواس بالغزل بالذكر ، كما أنطلقهما وأنطق غيرهما بآيات من الفن أعجب بها الرشيد أحيانا ونفر منها أحيانا أخرى . ولقد كان أبو نواس يعيش فى صحبة من أهل الفسق والفجور رأوا الدنيا ونعمتها فى كأس من الخمر ، بل ألقوا فيها بينهم عصبة متهتكة تستلب المال بأية سبيل . فاذا أصابوا قليلا منه حبسوا أنفسهم فى دير فيه خمر ، أو هيأوا لأنفسهم مجلس شراب وفسق لا يريمون عنه حتى تصفر أكفهم . فإذا هى امتلأت مرة أخرى عادوا إلى مثل ما

كانوا فيه ! كان هؤلاء جماعة من الشعراء يلتهيون باللذات التهايا ويرون الإباحة واجبة فى كل لذة ، وكان بينهم والبة ابن الحباب شيطان أبى نواس ، وكان بيهم الحسين بن الضحاك ، وكان على رأسهم أبو نواس نفسه . ويصف أبو نواس شعور هؤلاء إذ يقول :

سأبغى الغنى إما جليس خليفة

                                 يقوم سواء أو مخيف سبيل

بكل فتى لا يستطار جنانه

                                إذا نوه الزحفان باسم قتيل

فتخمس مال الله من كل فاجر

                               أخى بطنة للطبيبات أكول

ألم تر أن المال عون على التقى

                             وليس جواد معدم كبخيل

تلك روح الاباحة التي بينها أبو نواس الكثرة العظمى من شعره . وهي جانب من الحياة الإسلامية فى العصر العباسى تكافئ الجوانب الاخرى التى يمثلها الحكماء والفلاسفة . بل هي تكافئ جانبا آخر من الحياة الشعرية يمثله شعراء آخرون كأبى العتاهية وصالح بن عبد القدوس . والفكرة التى تسرى فى تلك القصيدة التى عرضنا عليك أبياتها الأخيرة ، كانت هي القوة الدافعة عند هذه المدرسة من مدارس الشعر العربى ، فأبو نواس يطلب المال بأية طريق ، سواء أكان ذلك بأن يغشى مجالس الخلفاء ، أو بأن يقطع الطريق على فجرة يملكون المال ولا ينفقونه . وذلك نفسه هو الشعور الذي يصفه شيكسببير حين يصور شخصية من أكبر الشخصيات الروائية عنده وهو " فولستاف "  Falstaff. ففولستاف شخصية تشبه أبا نواس فى استمرائها الطيبات وفى تحليلها المحرمات وفى شرب الخمر وفى الامعان فى الفسق ، وفى مقتها لأولئك الذين يضنون بأموالهم ، وفى مجالسة الملوك والأمراء ؛ بل هو يشبهه فى قطع السبيل

على الموسرين ؛ ولعل الاثنين يتشابهان أيضا فى فهمهما لمعنى " الشرف " . وكذلك ترى أن أكبر صورة صورها شيكسبير للإباحة تنطبق بكثير من تفاصيلها على أكبر شخصية إباحية قامت فى تاريخ الأدب العربى .

ولعلك قد رأيت معى أن الحرية التي أعطيت لكتاب النهضة ، قد انقلبت إلى إباحة ، وكذلك قد انقلبت الحرية التى أعطيت لشعراء الأمويين المتأخرين ولفريق من شعراء العباسيين ؛ وعلي الرغم من أن هذه الاباحة قد زادت التحلل الخلقى ، فإنها قد أنتجت كثيرا من آيات الفن الأدبى . وسنذكر شيكسبير وأضرابه من فنانى النهضة ، وكذلك سنضع شعر أبى نواس فى الطبقة الأولى بين آثارنا الفنية . والحق أن الحرية كانت دائما الأساس الأول لنماء الفن . وأن ينمو الفن ولا الأدب ولا العلم حلي تعيش فى جو حر . وإنما دفع المتفننين والأدباء والعلماء إلي الاباحة طبيعة النفس البشرية التى لا تعرف حدا للتعبير عن عواطفها وغرائزها . والفن من وجوه كثيرة هو نفس هذا التعبير .

اشترك في نشرتنا البريدية