لا تزال حالة الحرب قائمة بين مصر وإسرائيل بالرغم من تلك الهدنة التي عقدت بينهما والتي لا تغني ولا تسمن من جوع ، وهذا ما حدا بالحكومة المصرية أن تشدد الرقابة على السفن التي تمر بقناة السويس وتمنع ما يكون منها حاملا للبترول إلى إسرائيل الدولة المعادية . ومن هنا قامت مسألة ناقلات البترول التي هزت ولا تزال تهز كيان الصحافة وكيان البرلمانات والنواب وخاصة برلمان انجلترا ونواب الإنجليز ، وتستحوذ على لب الساسة الذين يهمهم الأمر كساسة بريطانيا ، وبالتالي تتالت الاحتجاجات وتوالت البلاغات ، وماعتمت حكومة مصر متمسكة بموقفها مصرة على سياستها تجاه هذه المسألة وتجاه تلك الناقلات
وقبل أن تنشب حرب فلسطين في عام ١٩٤٨ كانت السفن تمر في قناة السويس حسب النظام العادي دون رقاية ، حتي كان إعلان الاحكام العرفية في مصر ؛ إذ صدر من حاكم مصر العسكري امر يدعي برقم ٥ لعام ١٩٤٨ ينص على أن السلاح البحري الملكي سيقوم بتفتيش السفن التي تمر في المياه المصرية ؛ وذلك لكي يمنع منها ما قد يكون مرسلا فيه أسلحة وذخائر لإسرائيل ، وقد صدر أيضا أمر
رقم ١٣ في نفس عام ١٩٤٨ ينص على أن تقوم سلطة الجمرك المصري بتفتيش تلك السفن للنظر فيما قد يكون مهربا فيها من بضائع وحاجيات . وألغت الأحكام العرفية في عهد وزارة الوفد الأخيرة التي أصدرت أمرا في شهر فبراير سنة ١٩٥٠ يقضي بتفتيش السفن والطائرات التي تأتي إلى المواني المصرية كي يضبط ما قد يوجد فيها من المواد والبضائع التي تهرب إلي إسرائيل ، وظل هذا الأمر ساري المفعول .
وقد تضامنت مصلحة الجمارك المصرية مع شركة القناة في تنفيذ أمر الحكومة المصرية سواء في زمن الأحكام العرفية أم في عهد إلغائها ، وأصدرت مصلحة الجمارك هذه تعليمات مشددة إلى غرفة الملاحة الدولية والشركات البحرية في منطقة قناة السويس تنص على أنه من القمين بها أن تبلغ إدارة الجمرك نبأ أية ناقلة من ناقلات البترول تمر في قناة السويس في أي اتجاه كي يمكن مراقبتها وتتبعها والوقوف على الجهة التي تنقل إليها حمولاتها من البترول ، كما ألقت مصلحة الحمارك المصرية مسئولية إفلات أية ناقلة من هذه الناقلات التي تخل بالنظام الموضوع ، على عاتق تلك الهيئات البحرية . .
. . وبالرغم من كل تلك التعليمات المشددة التي جنحت إليها حكومة مصر ، فقد تبين أن كثيرا من ناقلات البترول تصل إلى إسرائيل عن طريق غير طريق القناة ، فأحيطت وزارة الخارجية المصرية علما بذلك من مذكرة رفعتها إليها إدارة الجمارك العامة ، واجتمع مجلس الوزراء المصري واخذ إجراءين حاسمين بشأن هذه المسألة . .
فأما الإجراء الأول فينص على أن كل ناقلة بترول تمر في فتاة السويس متجهة جهة الشمال إلى أي بلد محايد يجب تعهدها رسميا بالإتبان بشهادة رسمية من جمارك البلد الذي ستصل إليه وتصدق عليها السلطات السياسية المصرية في هذا البلد بإثبات أن الشحنات التى تحملها الناقلة قد أفرغت فعلا في نفس البلد ، وأن هذه الشحنات قد اتخذت سبيل الاستهلاك المحلى فيه . .
وأما الإجراء الثاني فيقضي بأن تمنع ناقلات البترول التي تفرغ شحنتها في مواني إسرائيل ، ويتضح ذلك لمصلحة الحمارك المصرية ، من شحنها في المواني المصرية ، فضلا عن منعها من التزود بالمؤن في هذه المواني . .
ولا أنس أن أذكر أن الحكومة المصرية قد رفضت تقديم آية تسهيلات في موانيها للناقلات التي تمر بقناة السويس وتكون ضمن ما وضعته مصر في قائمتها السوداء التي تضم الناقلات الأثيمة التي خالفت أوامر الحكومة المصرية وأفرغت شحناتها البترولية في إسرائيل :
وبذلك نري أن الغرض الأساسي الذي تسعي إليه حكومة مصر هو ان تمنع كل إمداد يصل إلى دولة إسرائيل التي تعادي مصر وتحاربها منذ توترت المشكلة الفلسطينية على أثر إعلان التقسيم بين العرب واليهود . .
. . على أن موقف الحكومة المصرية من هذه المسألة قد حدا بالحكومة البريطانية إلى أن تحتج لديها ، وأن توعز إلي حكومات اخري بالاحتجاج أيضا ، والعلة التي دعت إلي ذلك أن السفن التي تنقل البترول إلي إسرائيل عن طريق الفناة لا تتكلف أجرأ كبيرا ولا مجهودا شاقا ، ولكن حين تدور هذه السفن عن طريق جنوب أفريقيا ثم إلى مضيقي جبل طارق جنوب أسبانيا إلى البحر التوسط ثم إلى
إسرائيل ، تكلف الكثير من النفقات والباهظ من المتاعب والأجور . .
والمفهوم أن السفن التي تصل إلى إسرائيل مشحونة بالبترول هي سفن بريطانية ، وقد رأت الحكومة المصرية أن تعلن في ١٢ من أغسطس سنة ١٩٥٠ أن القيود التي فرضتها على ناقلات البترول لا تنطبق على ناقلات البترول البريطانية التي تمر بقناة السويس إن ثبت أن حكومة بريطانيا تملكها . .
وبريطانيا متذمرة كل التذمر ، وتعتقد أن موقف مصر من هذه المسألة موقف يدل على التحكم المطلق في قناة السويس ، كما يدل على خرق المعاهدة التي عقدت في ٢٦ من أكتوبر ستة ١٩٨٨ والتي نصت على حرية الملاحة في هذه القناة
واعتقاد كهذا اعتبره خطأ من الأخطاء الكبرى ؛ إذ أن موقف مصر من هذه المسألة لاغبار عليه ، فكما بينت أن مصر في حالة حرب مع إسرائيل ، وكل محارب من جهته يعمل على الحد من تقوية مواجهه . فلا غرابة أن تقف مصر مثل هذا الموقف . . ثم إن هناك في المعاهدة المذكورة فقرات تنص على حق مصر والدولة العلية في اتخاذ أية إجراءات للدفاع عن مصر أو لإقرار الأمن العام فيها ، ومصر تريد ذلك لتدفع عن نفسها أخطار إسرائيل التي ترقى حربيا من جراء شحنات البترول من الناقلات التي تمر في القناة وتأتي من إيران والبحرين و بلاد العرب وسواها كل يوم وكل يومين . . إن مصر لو تركت مثل هذه الشحات البترولية تمر إلى أعدائها هكذا علي مرأي ومسمع منها لكانت أحمتى دولة في العالمين ) فلماذا إذا تلومها بريطانيا وتحتج عليها وتريد منها أن تعدل عن هذا الموقف وتدع القناة دون منع ودون رقابة ؟ . ومع هذا لا نجد من الدول إلا تأييدا لمثل هذا اللوم وترجيحا لمثل ذلك الاحتجاج لكأن مصر خاطئة في أي قرار تتخذه وفي كل موقف تقفه ، ولو كان لها الحق كل الحق في اتخاذ هذا القرار وفي الوقوف مثل ذاك الموقف ما دامت بريطانيا تري الفائدة في غير ذلك ، ولكأن يريطانيا محقة كل الحق في كل ما يحلو ( البقية علي صفحة ٦ )
( بقية المنشور على صفحة ٤ )
لها أن تفعل في مصر ، ولو كان في ذلك كل الضرر للمصريين ما دامت نري فائدتها في هذا وتشعر بجدواها في ذاك . .
. . لقد قامت في برلمان الإنجليز احتجاجات وأصوات تجأر باتخاذ قرار حاسم ضد موقف مصر من مسألة ناقلات البترول ، حتى لقد قامت وجهات ترى أن مصر ليس لها أن تقف موقف الدولة المحاربة ضد إسرائيل ، وتريد أن ترفع الأمر إلى هيئة الأمم ، أو إلى المحكمة الدولية في لاهاي ، أو إلى سواها من وسائل الاحتكام . . أليس من العبيب أن تصدر أمثال هذه الوجهات عن الإنجليز أهم يشكون في أننا دولة لها أن تتخذ اسم الدولة المحاربة ويستنكرون علينا موقفنا نقفه من ناقلات البترول إلى أعدائنا ، ويريقون الاحتكام معنا إلي الهيئات الدولية ، ونحن نراهم قد احتلوا ديارنا وامتلكوا سوداننا وسامونا الخسف وهوان التدخل والاحتلال ، ولا نريد أن نحتحكم إلي محاحاكم العدل ، ولا إلى هيئات الأم ، بل لو فكرنا في ذلك - وكثيرا ما فكرنا - لا نلاقي إلا المصاعب والعقبات ،
ولا نلاقي غير التبكيت من الإنجليز وغير الإنجليز حقا أن هذا العالم لا يعرف غير القوة ، ولا يفقه غير معني السلاح . .
وإن تركناهم يشكون في أننا دولة محارية ، وإن تركناهم يبررون خطأ موقفنا في مسألة ناقلات البترول حسب هواهم وأوطارهم ؛ فلا بأس من أن نذرهم ايضا يشكون في مقدرتنا على أن نكون أمة تستحق أن تحيا ، ولها الحق في أن نعيش -
. . وتأتي الأخبار بأن إسرائيل تزمع أن تعتمد مبلغ مليوني جنيه لكي تحول قرية ( إلات ) التي تقع على خليج العقبة إلى ميناء ، وتعبد له طريقا يصله بشبكة الطرق الرئيسية في إسرائيل مما يجعل هناك ميناء ينافس قناة السويس التي تعرقل فيها مصر - حسب رأي إسرائيل والإنجليز - تجارة إسرائيل وناقلات البترول إليها ، ومن مثل هذه الأخبار نستطيع أن نقول إن القمين بنا أن نظل على هذا الموقف الذي نتخذه . بل وأن نتمسك بمدبادئ قويمة تتخذها فقط للحفاظ على مصالحنا قبل غيرها من المصالح ، وبحظوظ رئيسية تكون غايتها فائدة مصر ومصلحة المصريين وقضايا المصريين . .

