فترات الفوضى وعصور العظمة
كان من معقبات ذهاب عاهل الصين ومنشئ دولتها الأمبراطور الأصغر الأول شي هوانج تي " أن ارتفعت القبضة الحديدية التي كانت تخمد الطمع في صدور الطامعين . فنشبت الحروب الأهلية على اشدها بين المتنافسين ، إلى أن وصلت إلي متبوأ الحكم اسرة " هان " ومدتها نيف واربعمائة سنة ) من ٢٠٦ قبل المسيح إلي ٢٢٠ ميلادية ( . ولقد بلغت الآداب والفنون ورواج التجارة وصلاح الأداة الحكومية على يد ملوكها
مبلغا لم يعهد له نظير قبلها ، كما اتسعت رقعة ملكهم فبلغت بنودهم المظفرة إلي منشوريا ومنغوليا وكوريا ولم يلبثوا بعد قهرهم للتتر أن امتد سلطانهم إلى تركستان الشرقية ، فانفتحت أمامهم طرق التجارة البرية إلى غربي آسية ، وأخذت المنتجات الصينية سبيلها إلى الشام والديار المصرية وإيطاليا ، وعاد التجار الصينييون يحملون فيما يحملون إلي بلادهم طرفا من أخبار دنيا غير دنياهم ، وحضارة تختلف عن حضارتهم . وفي أيام هذه الأسرة كان أول دخول الديانة البوذة إلى الصين . ولسنا نجد إشادة بأسرة هان وعظمة ملكهم ابلغ من انتساب ابناء الصين إليهم حتى اليوم فتراهم عند التفاخر يتسمون " ابناء هان " .
وبسقوط أسرة هان الحاكمة ، عمت الفوضى وشاع الاضطراب مدى اربعة قرون ، وانقسمت اسباب الملك وانحلت عراه ، وانقسمت الأمبراطورية العظيمة إلى دويلات متدابرة متنافرة ما برحت تتناحر على السيادة
وإحراز الغلبة . واغتنمت الشعوب الهمج المجاورة فرصة هذا الانقسام فأقامت لها سلطانا في الصين الشمالية ولم يعد في يد الحكومات الصينية غير الجنوب مما يلي النهر الأزرق . وكان من أثر هذه الغزوات أيضا ما لا يزال قائما ملحوظا حتى اليوم من الاختلاف في السحنة واللغة بين أهل الشمال وأهل الجنوب .
على أن هذه الغاشية الطويلة من الفوضى والانقسام انتهت بقيام أسرة " تانج " ومدة حكمها من ٦١٨ م - ٩٠٧ م . وفي عهدها أصبحت الصين أعظم دول العالم اتساع رقعة وضخامة سلطان ، وأعزها جانبا وأقواها شوكة . فبلغت حدودها إلى فارس وبحر قزوين غربا ، وبلغت برما وجبال الهملايا جنوبا . واستفاضت إلي ما وراء ذلك شهرتها ، فسارت بذكرها الركبان في الآفاق وتردد اسمها في الخافقين . وتوافدت على بلاط الملك ) تاي تسونج " رسل الملوك وسفراؤهم من أقاصي الأقطار من أقبال نابال ومجادها في الهند ، ومن شهنشاء الفرس ، ومن امبراطور بيزنطة ، كما قدم إليه من بلاد العرب رسول النبي محمد عليه الصلاة والسلام .
وخطت الحضارة الصينية في عهد هذه الأسرة خطوة جديدة . فقد دخلت على الثقافة القديمة مؤثرات ثقافية من الهند وأواسط آسية ، فتهيأت من هذا المزاج نهضة جديدة في الأدب والفن ، وارتقي التصوير خاصة إلي ابعد غابات الاحكام والاتقان . وجمعت القوانين ودونت ، وأخرجت للناس اثار كونفشيوس كاملة صحيحة . كذلك أنشئ معهد " هان لين " وهو أكبر مجمع علمي في الامبراطورية ويضم اربعين عضوا وقد جري الأباطرة على اختيار الوزراء من بينهم ، وكان سائر المرشحين للمناصب العليا من المتخرجين فيه . وفي هذا العهد البعيد صدرت اقدم صحف العالم ، وهي " جريدة بكين " لنشر الأوامر والمراسيم الملكية ، وغيرها من
الوثائق الرسمية . ثم إلي هذا جميعه عملت أسرة تانج " على رفاهة البلاد ماديا وتوفير الرخاء لها ، فخفضوا الضرائب على الأهلين ، وسهروا على إبطال الرشوة وإقامة العدل ، وعملوا على مد القنوات الكثيرة لتقوم هذه المسالك المائية مقام الطرق المعبدة في دولة الرومان ، لتيسير نقل التجارة في داخل الامبراطورية . وكانت المتاجر ترد من فارس والعراق والشام ، وسائر الأقطار الاسلامية علي ميناء كانفو ، ولعلها المعروفة اليوم باسم كانتون ، وقد خصصوا لها سوقا كبيرة ، ووكلوا بها من يحسبها ويتقاضي منها الثلث عينا . وكان التجار المسلمون أول من توطنت لهم جالية في ميناء كانتون ، وكان لهم فيها قاض منهم ومسجد للعبادة . وفي أيام أسرة " تانج " كان يصنع ألطف أنواع الخزف وانقاها لونا وأشفها مادة ، وكذلك المنسوجات وسائر الطرائف والتحف . ولقد طبعت الصين بحضارتها جميع من حولها من الأقوام ممثلي الكلموك والتنجوس في سهوب سيبيريا ، والمنشوبين في سيفي نهر آمور ، ومثل أهل التبت وأنام وكوريا ، بل تأثرت بحضارتها اليابان نفسها فأخذت عنها لغة الكتابة والفن والديانة البوذية والنظام السياسي .
ثم صارت الصين مرة أخري إلي الإنحلال والفوضي ، وبقيت أمدا غير قصير تهب الفتن والحروب الأهلية ، حتى غلبت على الحكم اسرة جديدة هي اسرة " سونج " فأقرت النظام وردت على الأمة الطمأنينة والرفاهية ، وامتدت أيامها إلي أكثر من ثلثمائة عام ) ٩٦٠ م - ١٢٨٠ م ( . وكان ملوكها في قتال مستمر لا ينقطع مع القبائل الهمجية من التتر الشرقية . إلا أنه لا القوة أغنت في صدهم ولا المال كفي البلاد شرهم . وانتهي الأمر باستقرار هؤلاء النتر في اقاليم الصين الشمالية ، وانتشار سلطانهم حتى النهر الأزروق فلم ينقض من القرن الثاني عشر نصفه ، حتى كانت أسرة سونج لا حكم لها إلا على الصين الجنوبية .
دولة المغل :
ولم يلبث أن هب من الصحاري المعروفة اليوم باسم منغوليا الشمالية ، إعصار من ابنائها لا يحصي عددهم كثرة ، وكلهم فرسان محاربون ذوو بأس وجلد ، وقد اجتمعوا تحت زعامة جنكز خان سيد العالمين . فوقع أول وقوعه في الصين على أقاليم النتر الشمالية ، فاجتاحها بعسكره العارم الكثيف الذي لا يغالب ، ودك آثارها وخرب أمصارها ، فلم يبق منها معلم قائم ، وكانوا بذلك جد فخورين ، حتى ليقول قائلهم مزهوا مدلا : ) إن للفارس أن يركض فرسه في حيث كانت هذه الأمصار دون أن يخشى العثار " . وبعد أن دالت دولة النتر في الشمال ، تدفقت جحافل المغل إلي ما يلي النهر الآزرق ، فدالت دولة سونج في الجنوب ، واجتمع أمر الصين كلها في يد قبلاي خان حفيد جنكز خان ، وقامت في الصين أسرة " بوان " المغلية ) ١٢٨٠-١٣٦٨ ( .
وقد اتخذ قبلاي خان " قاعدة ملكه في بكين بدلا من تانكين ، وكانت تعرف لعهده باسم كامبالوك أي أقصي الشمال . وكانت في أيامه من أغني مدن الدنيا عظيمة العمران كثيرة السكان ، غاصة بالقوافل امبراطور الصين المغولى قبلاي خان لا ينقطع ورودها من هذه الآفاق ، وقد أعدت لها المناخات والخانات وأمنت المسافرين الطرقات . وبلغ من رواج التجارة والأخذ والعطاء بين الناس أن ابتدع قبلاي خان للتعامل في البيع والشراء قطعا من الكاغد كل قطعة منها بقدر الكف مطبوعة بطابع السلطان . وإذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان حملها إلي دار كدار السكة فأخذ عوضها جددا ودفع تلك ، ولا يعطي على ذلك أجرة أو
سواها ، فهي في حكم ورق النقد المتداولة عندنا سواء بسواء كما أنه أجري ماء البحيرات إلي قنوات اصطنعها لوصل الأنهار ، ومد تفاريع منها إلى المدن ، جريا علي السنة المتبعة في هذا البلد الشاسع المترابي الأقطار وإليه يرجع الفضل في حفر القناة الكبرى الواصلة ما بين النهرين التاريخيين عند بكين ونانكين عاصمتي الامبراطورية وقد اشتهر عهد قبلاي خان في التاريخ بما نالت الفنون والعلوم على يديه من تكريم وتشجيع وفي أيامه كانت زيارة الرحالة البندقي ماركو بولو للصين وقد وصف عظمة هذا الفنان العظيم في كتابه أروع وصف . وتدل الشواهد على أن الصين كان لها بأورية اتصال كبير في عهد دولة المغل .
انتصار الوطنية
على أن أبناء الصين لم ينسوا قط أن المغول الذين بحكمونهم إنما هم علوج غرباء عنهم . فطردوهم قبل ان يتم لهم في ولاية الحكم قرن على أثر ثورة وطنية ناجحة . وولوا أمرهم أسرة منهم هي أسرة منج الباهرة ) ١٣٦٨ - ١٦٤٤ ( ولم يكن يشمل سلطانها في الواقع اكثر من الأقاليم الصينية الثمانية عشر . وفي أيامهم زاد وفود التجار الأوربيين على الصين ، وخاصة البرتغاليين والاسبان ، على أثر استكشاف الطريق إلي الشرق الأقصي بحرا .
من الأسرة المنشوية إلى قيام الجمهورية
إلا أن عدوان القبائل الهمجية في شمال الصين وشمالها الغربي كان خطرا ملازما للصين من مفتتح تاريخها . وآخر هؤلاء المغيرين قبائل منشو النترية وهم من منشوريا الجنوبية . وكان قدومهم بدعوة الحكومة الوطنية لإخماد الفتنة والضرب على أيدى المفسدين الذين استولوا على عاصمة بكين وخلعوا الملك . فأبلي المنشويون أصحاب النجدة البلاء كله في قمع الثورة وإخضاع الثائرين ، ولكنهم لم يرحلوا مشكورين بل آثرو البقاء . وأقاموا على عرش الصين واحدا منهم . وتعرف هذه الأسرة المنشوية باسم
تاشنج أي الأسرة العظيمة الخالصة .
وفي هذا العهد الأخير اشتبكت الصين بالمصالح الأوربية والأمريكية واليابانية ، وقامت الحروب بينها وبين هذه الدولة وتلك ، ونالت منها المنازعات والمعاهدات ، وامتدت إليها مناطق النفوذ الأجنبي . وعلى اثر ذلك قامت بين أبناء هذه البلاد القديمة حركات ودعايات انقلابية عصرية كان روحها الدكتور سن بات سن ، وهو طبيب صيني مسيحى ؛ فشبت ثورة في اواخر سنة ١٩١١ ، انتهت بقيام الجمهورية ، وكان أول قيامها في الجنوب . وقد عاد سن بات سن من منفاه ليكون أول رئيس للجمهورية الصينية ، ثم انضم إليها الشمال ، فنزل الزعيم الوطني عن الرياسة - إيثارا لوحدة البلاد شمالها وجنوبها . لقائد من قواد الحرب المشهورين المشتغلين بالسياسة من قديم . وتقلبت منذ ذلك الحين أحوال وأحوال على الصين ، وتداول عليها الزعماء مرة من السياسيين ومرات من العسكريين
عبرة التاريخ :
في تاريخ الصين أدوار تتكر وتتكرر ، حتى ليرد على بالنا في كل دور منها ذلك القول المأثور " التاريخ يعيد نفسه
فنحن نشهد للصين في عنفوان الشوكة وأوج العظمة يتولى أمرها عاهل قدير ، يعاونه وزراء من اذكي دهائين السياسة ، وقواد من أبرع رجال الحرب ، وقد تحقق على يديه تركز الحكم وحسن الادارة داخلا ، والتوسع وامتداد رقعة السلطان خارجا . ويستتب الحال على هذا المنوال ردحا من الزمن ، إلي ان يستوطئ خلفاؤه من بعده حياة الدعة ، ويشتغلوا بالشكل دون الجوهر في شؤون الدولة ومسائل الدين ، أو يشتغلوا من الدين والدولة بمناعم القصر بين الحسان والخصيان ، منغمسين في اللذات والشهوات وسائر أنواع الترف . فلا يلبث الملك أن يفسد ، وتفشل الإدارة وتختل أحوالها ، وتنحل الامبراطورية وتتفكك اوصالها . فاذا الصين غير الصين ،
وقد أصبحت أقاليمها وأعمالها نهب كل من غلب من رؤساء الجند وأصحاب العصابات والمغامرين ؛ ثم لا مندوحة تشتجر الحرب بين هؤلاء المتملكين ، فإذا صحت الغلبة لأحدهم فذلك إلي حين ؛ فان ما استنزفته الحرب الأهلية من قوي الأمة كفيل باندحارها تحت ضربات المنيرين من جيرانها . وتمضي السنون على ذلك تتلوها السنون ، طوالا أو قصارا ، خفافا أو ثقالا . . ثم تعود الدورة سيرتها الأولى ، فتعود إلى الصين وحدتها السياسية بفضل ما لها من وحدة الحضارة ، وتسترد رفعتها وعظمتها ، حتى إذا تطرق الوهن إلى حكومتها المركزية ثانية ، وضعف قلبها عن إيصال دم الحياة إلي أطرافها المديدة ، ساء حالها كما ساء من قبل ، ووقعت فيما سبق أن وقعت فيه . وهكذا وهكذا حقبة بعد اخرى . فخلاصة القول أن الصين بتاريخها المسترسل الأمد المتطاول الحقب خير مصداق لما يورده القائلون بأن التاريخ يعيد نفسه ، ولكن بمعنى واحد يحقق العبرة ، وهو أن الأسباب الواحدة تكون آثارها لا محالة واحدة .
خاتمة
وبعد ، فلقد تعرضت الصين كما تعرضت مصر في تاريخها الطويل إلي غزوات الفاتحين ؛ ولكنها كما يري الناظر في التاريخ - كانت أعرق مدنية وأقوي شخصية من أن تنسى نفسها أو يتغير سيرتها أو تتوقف حضارتها ، بل كانت في كل مرة تستغرق غزاتها ، وتطوي العادين عليها ، كما يغني المحدود في غير المحدود ، أو على حد قولهم " الصين بحر عظيم يغلب على ملحه جميع ما يصب فيه " ثم هي بعد أن تسلب الفاتحين شخصيتهم كلها أو جلها ، وتنحلهم عاداتها وخصالها وعبادتها ، تعود فتحق حقها وتجلوهم من عرشها وتسترد أمرها . ولعلها صفة في الحضارات القديمة الأصيلة ، مهما يعكرها الدهر وتعتورها النائبات فلا تفصل صبغتها ولا تحول طبيعتها .
