الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 188الرجوع إلى "الثقافة"

في الميزان الجديد:، سوء تفاهم، وفن الأسلوب

Share

لعل دراسة الأساليب أشد أبواب النقد تخلفا في ادبنا الحديث ، ولعل تأثرنا بالأدب الأوربي كان اضعف في هذا الاتجاه من تأثرنا بالتفكير الأوربي والذي يبدو لي أن هذه الظاهرة كانت من أكبر الأسباب التي عمت معنى الأدب عندنا وأنزلت الاضطراب بمنهجه ؛ وذلك لأن الأدب كما قال لانسون : " هو المؤلفات التي تكتب الكافة المثقفين ، تثير لديهم بفضل خصائص صياغتها صورا خيالية أو انفعالات شعورية أو إحساسات فنية "

فهو إذا غير التفكير الفلسفي ، وهو غير التاريخ وغير النظريات الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية ، وإذا كان النقاد بجمعون على أن محاورات أفلاطون مثلا أو كتب برجسون أو تاريخ فرنسا لمثليه تدخل في الأدب ، فذلك لأن في " صياغتها ما يثير صورا خيالية او انفعالات شعورية او إحساسات فنية ؛ وهذه حقيقة هامة يجب ان تستقر في نفوسنا حتى لا يذهب جهد ادبائنا فيما لا ادب فيه ولا ضمان معه للخلود . الأدب صياغة

والناظر في ادبنا الحديث بجد عدة أنواع من الأساليب : فثمة أسلوب طه حسين الذي يعرفه الجميع أسلوب سمح تسلم الصفحة منه عند أول قراءة كل ما تملك فلا تشعر بالحاجة إلى أن تعود تستوحيها جديدا ، ولكنك رغم ذلك تحمد للكاتب يسره . اسلوب واضح للموسيقى يكشف في سهولة عند اصالته ، فيقلده الكثيرون بوعي منهم أو غير وهي ، ولكنه مع ذلك موسيقى نفس أسلوب عذب .

" إن السعادة خير ما يحقق مذهب " أنشتين " في النسبية . فكل شئ في الحياة من لذة وألم نسبي وليست اللذة والألم يعتمدان على الشئ الخارج ، بل هما نتيجة تفاعل بين الشئ الخارج ، ويختلف هذا التفاعل اختلافا كبيرا بإختلاف النفوس ، فليس الألم من الحر والبرد يعتمد علي درجة الحرارة وحدها ؟ بل إن صح ان يكون الترمومتر مقياسا لحرارة الجو فلا يصح ان يكون مقياسا لالم النفس من الحر ؟ وليس لهذه الحال ترمومتر

مشترك بتساوي فيه الناس ، إنما لكل إنسان في الألم من الحر والبرد ترمومتره الخاص ، ولذلك نري من يموت من الحر ومن يموت من الضحك من الحر " ) فيض الخاطر ج ١ ص ٣٤٢-٤٣ ( . تقرأ هذه الأسطر لأحمد أمين فتخرج منها بفكرة " ان الآلم واللذة أمران نسبيان وانهما نتيجة لتفاعل بين النفس وما يحيط بها " ثم تنظر فإذا الكاتب يعرض لك نفس الفكرة بعدة طرق ويحتال على نقلها إليك بكافة اوجهها ، فتهم بأن تصيح : وما عملي أنا إذا ولم لا يترك لي حظ تنمية فكرته فأشاركه عمله

وأجد من لذة الجهد الشخصي ما يغريني بقراءته ؟ لم لا يترك فكرته مركزة فتحتفظ بقدرتها على الايحاء إننا لا نريد " الفكة " بل تريد " جنيهات صحيحة ؛ وفي هذا التشبيه على ابتذاله ما يوضح حقيقة هذا الأسلوب ، فالجمل بسيطة صغيرة ليس فيها من التماسك أو التداخل ما يجدي في التفكير ، وفي العبارة ذلك السبل الموسيقي "

الذي ميز بين الأساليب تبعا لطبيعته . أسلوب يترك القارئ في موقف سلبي لان الكاتب لم يترك له شيئا أسلوب جزئيات فلا موج فيه . اسلوب واضح ، ونحن في حاجة إلي ظلال واسرار ولو من حين إلى حين . أسلوب مجاور لا بناء . أسلوب تعليمي

ثم أسلوب الزيات : " نشأ بين لذاته من أطفال القرية كما ينشأ الرنبور بين النحل أو التعبان بين الحمام ،

فكان لا ينفك ضاربا هذا بعصا أو قاذف ذاك بحجر ، او خالفا لعبة من بنت او سارقا شيئا من بيت ! فلما جاوز حد الطفولة دخل في خدمة الفجار والمجان ، فكان يخدم أولئك في تدبير الجرائم ويخدم هؤلاء في إعداد الولائم " ) الرسالة عدد ٤٦٤ ( شئ اشبه ما يكون بأسلوب " المقامات " وانا لا أ كره المقامات بل اعدها كنزا

ثمينا في تراثنا الأدبي لم نعرف بعد كيف نتذوقه ؛ ولكن الزيات لم يقصد إلي كتابة " مقامة بل " مقالة " يصور فيها رجلا لقيه فعلا في الحياة . فما هذه الصنعة التي تخرج التصوير من الواقع الحي إلي الأدب المصنوع ؟ ومن منا يقرأ جملا كهذه ثم يتصور أو يصل إلى أن يتوهم أن هذا الرجل موجود ؟ ولو أن ذلك كان ممكنا ما سأل القراء الزيات عن حقيقة ذلك الرجل كما رأيناهم يفعلون على صفحات الرسالة " واين هذا من الأسلوب القصصى

أو التصويري الذي يجعلك تتوهم الخيال حقيقة أراد المؤلف أم لم يرد ؟ ولكم من روائي قاضاه الناس لانهم رواوا انفسهم فيما صور ! ولكم من روائي يصر قراؤه على انه هو نفسه بطل روايته رغم احتياله على الواقع وحرصه على تعميته بل إن من الروائيين الخياليين من يحتال بعدة طرق حتي يعطيك ما يسمونه بالفرنسية " وهم الحقيقة Lillsion du reel فما بال الزيات إذا يأبي إلا أن يفسد بالصنعة

نغمات الواقع ؟ ثم لم كل هذه " السمترية " وفيم اصطناع " البرجل والمسطرة ومتى كان الأسلوب هندسة من هذا النوع عم التخطيطى اما من نزوة في شيطان الادب تكسر هذا الاتساق ؟ أما من نقضة فلم تتلف قليلا من هذا الكمال المضئ " زنبور بين النحل أو ثعبان بين

الحمام " ضاربا هذا بعصا قاذفا ذاك بحجر " خاطفا لعبة من بنت او سارق شيئا من بيت " في خدمة الفجار والمجان ، يخدم أولئك بتدبير الجرائم وهؤلاء في إعداد الولائم " . بالله ! ولم لا يخطف لعبة من ولد وهو مجرم

كبير ؟ ولم لا يسرق من جامع وذلك أيسر من السرقة من بيت ؟ وهل هو حقيقة لم يخطف إلا من " بنت " و لا يسرق إلا من " بيت " ؟ أم هو مجرد ادب وصناعة ؟ وهو يخدم المجرمين بتدبير الجرائم ، ولكن لم لا يخدم العجان بإعداد المقاصف ؟ وهل الوليمة اشهي من المقصف ام هي ضرورة السجع ؟ أسلوب الريات مصنوع صنعة محكمة ،

صنعة كاملة ؛ ولكن الصنعة تبعدنا عن الحياة ، ولكن الكمال يمل . وهناك في أساليب كبار الكتاب ما يحسبه البلاغيون والنحويون ضعفا وعيبا ، ولكنه أمارة الأصالة ودليل الطبع . وإذا كان في جلال اسلوب " شكسبير " أو " فليري " ما يسمونه كسر البناء Ruplure de syataxe فكيف لا يطمئن جهد الزيات حتى يقيم الموازين ويقيس المسافات ؛

وبعد فهذه كلها وغيرها أنواع من الأساليب . وأنا وإن كنت أعتقد أن أيا منها لم يبلغ بعد ما نرجوه في لغتنا من خلق أساليب تجمع بين الموسيقي والإيحاء والطبيعية ، على ان تكون الموسيقى خفيفة دقيقة عميقة لا يحاكي ، وأن يكون الإيحاء عن غني وتركيز لا عن غموض وعجز عن تملك الفكرة ، وان تكون الطبيعية نتيجة لجهد طويل وصناعة مستقرة وتثقيف محكم ، كالضوء الداخلي يشع دون ان يغشي الابصار او كالرجل اللبق

يعرف كيف يلقي الناس ويحيهم ويحادثهم في يسر طال إلفه له حتى أصبح كالطبع المفطور - أقول إنني رغم ذلك مغتبط بوجود هذه الأساليب المختلفة مؤمن بأن أصحابها قد ساهموا وسيساهمون في تربية إذواق الناشئين ليحققوا ما يمكن أن يكون جيلهم قد عجز عنه ، وما قد يعجز عنه جيلنا نحن ايضا ، لاننا لا نزال حديثى عهد بفن الأساليب ، ولا بد لنا من ان نتتلمذ في ذلك زمنا ما لكبار كتاب أوربا الذين لم نأخذ عنهم كما فات سوي التفكير .

وأما الأسلوب الذي لا استطيع أن أقبله والذي

ارجو ان نحيد عنه فهو الاسلوب الذي يشبه اسلوب بشر فارس في " سوء تفاهم وانا إذا اقول الاسلوب أقصد إلي كل هذا النوع من الأدب ، وهو بعد أسلوب له نظائره في كل الآداب ، ولقد حاربه دائما خير النقاد والكتاب . هو اسلوب الشويمر بريسونان Trissotina  في كوميديا موليبر " النساء العالمات اسلوب المتحذلقات

في كوميدياء الآخري المتحدثات المضحكات " ، وهو قد يسمو قليلا فيصل إلي اسلوب " ماريغو " المسمى " بالمار يقوديةMarivacdae- ولقد يبلغ بأصحابه الغرور أن يسموه الأسلوب الفني ، كما فعل جونسكور واخوه . النظر إلي هدن الأخيرين يقولان في وصف مدام جرفزيه Gievaisals بطلة رواية لهما وهي في مجلس أصدقاء : " هنالك وقد احست في دلال الجهد من حمل

رشاقة قدها : أكتاف مضناة ورقبة فرعاء ، أخذت تنصت في رفق ويليها شرود ، حتى لكأنه لا ينصت منها غير ابتسامة وجهها ، إلى ذلك الحديث الهشم الذي كانت تتبادله له تلك الحلقة الضيقة التي جلست على مقاعد كستها طنافس صورت عليها فضائل الدين .

تنظر في القصة الأولى من المجموعة ، وعنوانها " قصة ستكمل ؛ على نحو ما كتب شوبيرت " سمفونية ناقصة ؟ ؟ ؟ " وهي قصة رجل كافة متسكع مغرور ، تحس ان الكاتب يسلم له بأنه ملك مسيطر على قلوب النساء ) وانه يستطيع بتصنع البرود والقسوة والسفسطة أن يسبى الحسان ، ثم امرأة يشعرنا بأنها ستخضع لهذا الرجل رغم أنفها ، لأنه واسع الحيلة خبير بالفتيات

الرجل في عقلية ما يسمونه بالفرنسية " بالجيجولو المرأة ( والقصة تبتدئ بالمرأة تنظر فيها المرأة ، وكم في المجموعة كلها من مرايا ؟ وعند بطل القصة ان روح الرجل مصباح كهربي زره تحت ضغط إصبع المرأة " و " الصباح الكهربي " و " الزر " أشياء

حديثة رأيناها جميعا ، ولكن ماذا نقول في " البطلة التي ارسلت خادمها إلي صندوق البريد بأسفل السلم لينظر هل جاءها خطاب من صاحبها العزيز أم لا ، و هبط الخادم ومعه قلب هبط ثم صعد الخادم واجما فلم يصعد القلب " أين ذهب ؟ ذلك ما لم يحدثنا عنه المؤلف . أهذا هو اسلوب القصة التى هي حنية من صدر الحياة تنتزع "

كما يقول الكاتب نفسه في أحد أحاديثه ، وقد حرص على أن يصدر كتابه ببعض من فقرانه بعد ان " نشرته مجلة الكشوف " البيرونية العدد ٣٣٢-١٩٤١/١١/٤ . ونقلت صفوته " المقتطف " عدد فبراير سنة ١٩٤٢ و " الثقافة " العدد ١٦٢-١٩٤٢/٢/٣ ، وفي الفرنسيةLe Joural d Egypte القاهرة ١٤-٢ - ١٩٤٢ . " ما هذا القلب الذي يهبط ثم يجرؤ أن

لا يعود فيصعد ؟ والمؤلف يستطيع بلا ريب أن يحمل بعله على ان يطلب إلي المرأة ان تكون برفا بلنوى في سماء مغيرة " وأما ان يلعب بالقلب كرة القدم فهذا ليس أدبا ولا أسلوب أدب .

والقصة الثانية " طبق قول تبتدئ أيضا بالمرأة . هكذا " كانت المرأة لا يعوزها سوى الصفاء ، وفي الأشياء ما يعوزه الاهم . فيعجب كيف يكون . . إني اعرف برلمانا  يفتقر الحين بعد الحين إلى ثقة الامة " وانت تعجب لهذه المهارة المسرفة التي تجمع بين صفاء المرأة وثقة الآمة بغير رابطة إلا أن تكون هذه النقط الدقيقة التى وضعها

المؤلف بين جملتيه . والمرأة العاشقة توحي إلي المؤلف " بأن الاحساس السخي ولد في زرقة سماء لم يرد وصفها في كتاب ، ثم هبط على جناح النقدية حتى سمرة الأرض ، فضاع خبره في الأزفة القائمة والسهول البائرة بين برائن الجشع وقهقهات الاستخفاف وهذا لا ريب بؤس بشري يدعو إلي الحزن ، إذ فيه اكبر " استخفاف بالمعنويات ، فقد كنا نقول " السماء الزرقاء " و " الأرض

السمراء " فأصبحنا اليوم نسمع " زرقة سماء " وسمرة الأرض " ولم لا ؟ أليس في ذلك تجديد ؟ اليس فيه تجريد للصفة وإضافة للموصوف ؟ ألم نر له شبيها عند الفحول أليس هو " الأسلوب الفني العزيز المنال ؟ ومع ذلك يمجه كل ذوق سليم ! ثم إن بطل القصة يركز اوتاد نهاره في المطعم وينصب خيمة الليل في القهوة " أي أنه

بلغتنا ( ينفق نهاره في المطعم وليله في القهوة . ولقد تكون لليل خيمة وإن كنت أظنها أكبر من أن تحويها قهوة وأرفع من أن تطمئن إلى الصخب ، وأما " اوتاد النهار " فذلك ما لا علم لي به وإن كنت أعلم أن الخيمة هي التي تحتاج إلي أوتاد .

ومؤلفنا لا يكتفي بالإسراف والتكلف والجمع بين ما لا صلة بينه وزج الملاحظات الاجتماعية او الاخلاقية أو السياسية حيث لا محل لها ، بل يأبي إلا أن يعقب علي معظم فقراته مستخرجا الغير النادرة ، فبطلة  طبق فول " تلبس " معطفا منزعجا على كتفها وحذاء له كعب طوله طول أنفها . التناسب من شرائط الفتنة " وهكذا

تدرك فن الكاتب في حرصه على التفاصيل وإقامة النسب بين طول كعب الحذاء وطول الف امراته المسكينة ، وتحس بسخريته اللطيفة الفنانة تطالعنا من ثنايا تعقيبه الرائع " المنزعج " - " التناسب من شرائط الفتنة " . ونظر لطيف افندي إلى المرأة ) طبعا ( " بمؤخر عينه يلومها على عكس وجهه وقد تنبه ان الماء لم يحبي بعد ومعنى الجملة الأخيرة فيما أظن " أنه لم يكن قد غسل وجهه "

وفي القصة الثالثة " السفينة " يصف المؤلف أثاث حجرة فإذا بها " طنافس لو قصدت بها إلى امريكة الشمالية فبعتها لرجعت وفي قبضتك ما يجذب فريقا من نواب أمة راقية " فانظر إلى المرور من الوصف إلى هذه الحقائق السياسية الدفينة ، ثم تصور قيمة هذه الطنافس

أليست غالية جدا ؟ و أمينة " بطلة القصة تستند إلي " شطء " النيل : أمينة " نيل آخر " وبودي أن لو جعلتها " جدولا " ليستريح الكاتب فلا يعود يدهش عند ما بري سفينة تسير في النيل وتساءل : " هل تستأذن الماء في الجريان أو تعتذر إليه عن شقه ؟ " وهذه أشياء ما أشك في أنها قد فاتت السفينة ، وأملى ان تقفوت السفن كلها إلي يوم الدين وأن لا يلاحظ ذلك أحد

ولقد يغلب الكاتب شعوره الإنساني فيشرك القارئ معه " انها القارئ الجوعان مع رقة حال . انت ادري بفضل الخبز الكثير والماء الكثير " فأي رقة وأي ظرف وأي إنسانية وأي فهم لحقائق النفوس " والبورش " التى هي شرب روسية " حساء

تلتقي فيه ألوان البقول بعد تبعثرها في الحقل - تلتقي هاكم في لحد واحد " ، واللحد هو " القدر " أو " الصحن الذي تقدم إليك فيه ، ولكن الصحن البائس أصبح " لحدا " يشعرك بيؤس صاحبه وينشر في الجو تلك الرومانتيكية النادرة المؤثرة .

والمؤلف يري رجلا جالسا إلي جواره على مقعد بأحد شوارع باريس أمام مسرح ، فيخيل إليه " ان يحمله إلي داخل الاوبرا لأن ذلك يكون اخف عملا على سمعه و - ضربانا في قلبه " من أن ينقل الرجل فيقص عليه مأساته . ثم يري في الاقصر بائع عقود ،  في عينيه سليم أضواء من الأبيض حتي الأرجواني ، فكانما طول

بحديقه إلي عقوده وهو يزينها للناس ترك في مقلتيه بريق الأحجار . إلا أنه بريق كاذب " فهل رأي أحد بصرا أحد من هذا البصر الذي يري سلم اضواء في عيني هذا البائع النصاب ؟ وهل نفذ أحد إلي نفسية هؤلاء الباعة نفاذ مؤلفنا الذي ترجم لنا نفاقهم وكذبهم وخداعهم بألوان اعينهم ، وفسر وجود كل تلك الالوان

بها هذا التفسير الرائع ؟  ؟ .

وأخيرا كم جلس مؤلفنا مع صديقه زكي في قهوة " تعدت على استقلال الشارع وليس فيها امراة " وذلك لأنه قد وضعت بعض كراسيها على الرصيف ، وهذا طبعا اعتداء علي ) استقلال الشارع وما نسمع نحن بالاعتداء على الاستقلال حتى نغضب وتثور عزتنا القومية ، وخصوصا لأنه ليس لهذه القهوة اللعينة ما يشفع لها وقد خلت من النساء

وبعد فقد قال الأديب الصادق الذوق المرحوم طه إبراهيم في كتابه القيم " تاريخ النقد عند العرب " في معرض الحديث عن مذهب اصحاب البديع كأبى تمام ومن بنحا نحوه إن صاحب البديع يفكر مرتين مرة للفكر ومرة لتحويرها والتلطف بها حتى تسكن للبديع ، ومن العلوم ان الصياغة حركة ذهنية عند الكاتب والشاعر ، فان تعقدت هذه الحركة لم يكن لنا ان ننتظر إلا عبارات

معقدة وإلا نفسا فائرا ، كما هم بالاطراد وقف به الحرص على الزخرف ، وحال بينه وبين الجيشان والاسترسال تلمس المحسنات ، ولذلك فان التكلف أول ظاهرة في مثل هذا الشعر " ؛ وهذا الحكم دون ما يستحق اسلوب بشر فارس وأدبه ، وذلك لأنه لا يفكر مرتين فقط بل عشر مرات ، والأصالة ليست في الإغراب ولا في تسمية الأشياء بغير أسمائها ، ولا في تضخيم النوافه ، ولا في التكلف الثقيل

المغيب ، وإنما الأصالة في النفس وموسيقاها ، الأصالة في الطبع واسترساله . فهل ترانا ادينا خدمة إلى بشر فارس عند ما نقول له هذه الحقائق التي يجب أن يسمعها من رجل مخلص كان يود أن يستمتع بما في قصصه أمثال " خريف " و " مبروك " من واقعية مؤثرة ، وبما في " قيئارة مغترب " من جو شعري نافذ ، واخيرا بما في " رجل " من رمزية موحية ، وموضوع هذه القصة جدير

بالنظر لما يحسه جميعا من أن التطلع إلي ما لا قبل لنا به خليق بأن يقتل فينا العنصر الانساني ثم يقتل بعضه بعضا . نعم كنت أود أن أستمتع بكل ذلك وحاولت أن اتمتع ولكن التكلف أتلف على متعتي . التكلف البادي في كل شئ حتى في عناوين القصص وطريقة كتابتها " بخط المؤلف " ووضع " المشتمل " اي الفهرست ، وحتي في استشهاد الكاتب بنفسه وتقفيته عنوان الكتاب يجعلة من

روايته " مفترق الطرق " وكتابة عنوان المجموعة باللغتين العربية والفرنسية ، ثم في الاهداء إلي " من عذبتني ، فشعرت ثم في شرح مذهبه في القصة نقلا عن حديث له أوردنا أسانيده في أمانة كما أوردها المؤلف نفسه . هذه توافقه يجب أن يسمو فوقها الأدب . وأنا لن أمل تكرار ما سبق ان قلته عن وجوب التواضع والاخلاص وصدور الاديب عن طبعه وترك الطنطنة إلى الهمس

الصادق ، كما أني علي ثقة من أنه ستظهر عندئذ في أسلوب بشر فارس تلك الموسيقى التى حطمها التكلف واحتباس النفس والانتقال من المحسوس إلي المعنوي انتقالا مصطنعا ؛ كما ستظهر وحدة النسج ويختفي ما نراه عنده اليوم من تنافر بين الألفاظ البعيدة الهجورة الثقيلة النغمة والألفاظ التافهة المبتذلة التي تشبه العامية

اشترك في نشرتنا البريدية