الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 189الرجوع إلى "الثقافة"

في الميزان الجديد :، الشعر المهموس

Share

١ - أخي لميخائيل نعيمه

أظن أنه قد حان الحين لنوضح ما نبغي من تلك الألفاظ العامة التي كررناها غير مرة طالبين إلي شعرائنا وكتابنا أن يأخذوا بها إذا أرادوا أن يمسوا نفوسنا ، ونحن إلي اليوم لم نقف عند شيء موقف الرضي ، وفي ذلك بلا ريب ما يدعو إلي التساؤل .

تريد ادبا مهموسا أليفا إنسانيا ، وها نحن اليوم نعرض نموذجا له .

الهمس في الشعر ليس معناه الضعف ، فالشاعر القوي هو الذي يهمس فتحس صوته خارجا من اعماق نفسه في نغمات حارة . ولكنه غير الخطابة التي تغلب علي شعرنا فتفسده ، إذ تبعد به عن النفس ، عن الصدق ، عن الدنو من القلوب . الهمسي ليس معناه الارتجال فيتغني الطبع في غير جهد ولا إحكام صناعة ، وإنما هو

إحساس بتأثير عناصر اللغة واستخدام تلك العناصر في تحريك النفوس وشفائها مما تجد ، وهذا في الغالب لا يكون من الشاعر عن وعي بما يفعل وإنما هي غريزته المستنيرة ما تزال به حتى يقع على ما يريد . الهمس ليس معناه قصر الأدب أو الشعر على المشاعر الشخصية ،

فالأديب الإنساني يحدثك عن أي شئ يهمس به، فيثير فؤادك ، ولو كان موضوع حديثه ملابسات لا تمت إليك بسبب .

دعنا ننظر في " أخي " قصيدة ميخائيل نعيمه ، فعنده سنجد ما نريد ، كنوزا لا مثيل لها في لغتنا ، كنوزا تثبت في المقارنة لأروع شعر أوربي

قصيدة وطنية قومية قيلت في أواخر الحرب الماضية أو بعدها ، فهي إذا مما نسميه أدب الملابسات الذي كثيرا ما نتناقش في إمكان اعتباره ، ادبا خالدا أم لا ، وفي فنائه بإنقضاء ظروفه أم بقائه بعدها ، بل وفي طبيعة هذا البقاء اهو على نحو ما تبقي الوثائق التاريخية مغيرة في دور المحفوظات أم كأدب دائم الحياة دائم الهز للنفوس .

أخي : إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله

وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش ابطاله

فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت عن دانا

بل اركع صامتا مثلي بقلب خاشع دام

لنبكي حظ موتانا

نفس مرسل وموسيقي متصلة ، فالمقطوعة وحدة تمهد لخاتمتها ، وفي هذا ما يشبع النفس ، الا تراه كيف يعدك للصورة التى يدعوك إلى مشاركته فيها . إذا ضج الغربي بأعماله وقدس موتاه وعظم أبطاله . فلا تهزج للمنتصر ، ولا تشمت بالمهزم ، لأنه لا فضل لك في هذا

ولا ذاك ، وما أنت بشيء ، وانت أحق بأن يحزن ، وأجدر بأن يخشع قلبك فتركع صامتا لتبكي موتاك أي ألفة في الجو ، وأي قوة في إعداده ؟ اي نفاذ وأي صدق ؟

" أخي : " فأنا إذا شريكه في الانسانية ، وأنا قريب منه وهو مني ، ومتى قربت استطاع ان يهمس لأنني سأسمعه ، وسيشجيني صوته الرفيق القوي المباشر وهو ينقل إلى قوة إحساسه بفضل قدرته على اختيار اللفظ الذي يستنفد الاحساس . " إن ضج غربي بأعماله "

والضجيح لفظ بالغ القوة لجرس حروفه وقوة إيحائه وهو يضج " بأعماله لا " بالمبالغات الكاذبة " الغربي " يقدس ذكر من ماتوا " وهذه ألفاظ لينة جميلة مؤثرة غنية . فيها قداسة الدين فيها نبل الوفاء . فيها جلال الموت ، مشاعر شتى تجتمع إلي النفس ثروة رائعة وهو

" يعظم بطش أبطاله " . أي قوة في تتابع هذه الحروف المطبقة ظاء ثم طاء ثم طاء . أعد هذه الجملة على سمعك ثم أنصت إلي قوتها التي تملا ذلك كما تملأ أذني . ثم إن التنظيم غير التحية أو التبجيل ، والبطش غير الشجاعة أو الأقدام . البطش شئ يصعق . وهو يدعوني إلى " ألا أهزج لمن سادوا " والهزج غير الفرح الهزج عناء ،

والسيادة لفظ حبيب إلي النفس ، مثل أعلى تهفو إليه ، ولهذا فهو يحركها  وله فيها اصداء مدوية " ولا تشمت عن دانا " والشماتة شعور خسيس تركز في هذا اللفظ لكثرة مروره بنفوسنا جميعا . لفظ يحمل شحنة من الاحساس . وما احقرها شماتة تلك التي تستشعرها لمن دان !

نعم ما أحقر ان نشمت من جثة هامدة ، بل مالي اضعف من قوة الشاعر وفي قوله " من دانا " ما يثيرني فوق ما تثيرني الجثث والآشلاء ؟ لأن " من دانا " قد ذل والذل أشق على النفس من الموت ، والموت كرامة إذا لم يكن يد من الهوان .

ليس لي إذا أن أهزج لمن ساد ، أو أن اشمت بمن دان ، وإنما على أن أركع مثل الشاعر مثل أخي الشاعر . صامتا . بقلب خاشع . دام ، لنبكي حظا موتانا وهذه نغمات دينية ، ونحن بشر تستطيع أقلامنا أو ألسنتنا أو عقولنا ان تهذي كما تشاء ، واما قلوبنا فمؤمنة ، واللهفة إلى الله لا تكاد تفارفنا حتى نعود إليها ، وبخاصة إذا قست

علينا الحياة أو قسونا نحن على أنفسنا ، وها نحن اليوم يقودنا الآلم إلى كنف الله . الغربي يقدس ذكر موتاه ويعظم بطش أبطاله ، فمالى أنا أهزج لمن ساد واشمت بمن دان وما أنا بشئ ؟ وإنه لعزيز على كل نفس ألا تكون شيئا ، وما أخلقني عندئذ أن التمس رحمة ربي أنا وأخي

الذي يجمعني به الآلم الانساني المشترك ذلك الذي لا يعرف وطنا ولا قومية . ونحن سنركع صامتين خاشعة قلوبنا الدامية . أنصت إلي كل هذه الكلمات . أنصت إليها

واستشعر جلالها . استشعره بقلبك ثم تصور الصورة ومافيها من جمال التصوف ورغبة الدين ونبل الخشوع الصامت الدامي . سنركع صامتين لان الله سيعمر قلوبنا وقد خلت إلا منه . صامتين لان خشوع الموت سيملأنا رهبة . وهو بعد موت قد حرم حتى العزا .

موت يدمي القلوب ويعقد اللسان لأن إخواننا لم يصيبوا مجدا ولا رفعوا للوطن ذكرا . الموت محنة فكيف إذ لم يخلف عزاءً . كيف إذا لم يرفع من قلب او يخلد اثرا . تعال إذا نبك حظ موتانا حظهم المؤلم التعس المحزن

هذا هو الشعر الذي لا أعرف كيف أصفه فيه غني صادر عما تحمل الألفاظ من احساسات دقيقة صادقة قريبة من نفوسنا اليفة إليها . إحساسات ركزناها منذ أجيال عزة الغربي المجاهد الشجاع اليقظ ، ثم المنا وقد أصبحنا لا نجد أمامنا سوى الركوع خاشعين والبكاء في صمت على إخواننا المهدرين . وتتجاور المشاعر المختلفة

فتزداد قوة . أو لا تري كيف أن ضجيح الغربي بأعماله وتقديسه لذكر موتاه وتعظيمه لبطش ابطاله قد زاد من حزننا مرارة ؟ وأخيرا فيه الموسيقى . الشعر من " الوافر " ولكنه متصل باتصال الإحساس حتي لا اكاد أري فيه ذلك الايقاع rythme الذي يفسد الكثير من موسيقي شعرنا عند ما تستقل الآبيات . موسيقاه مما يسميه الأوربيون ترنيما mglodie ، وفي هذا ما يماشى الحزن المتصل والألم الخشوع :

أخي إن عاد بعد الحرب جندي لأوطانه

وألقي جسمه المنهوك في أحضان خلانه

فلا تطلب إذا ما عدت للأوطان خلانا

لأن الجوع لم يترك لنا صحبا نناجبهم

سوي أشباح موتانا

وها نحن من جديد ، أنا وأخي ، نشهد الجندي يعود إلي أوطانه ، ومن اغترب يعرف معنى هذه العودة ، فما

بالك إذا كانت عودة تستنقذك من مخالب الموت ؟ والجندي يعود مكللا بعزة النصر ، فيلقي جسمه المنهوك في " أحضان خلانه ؟ . لست أدري ما مصدر التأثير في البيت ، أهو في هذه المدات الثلاث : " منهوك "

" أحضان " خلان " التي توحي بالتأسى والرفق والحنان ، أم هو في إلقاء المنهوك جسمه بين احضان خلانه ؟ جسم منهوك " يلقي " بين الأحضان . اي صدق في العبارة ، وأي صدق في التأثير ؟ ثم اي تجسيم للصورة التى تكاد نراها ؟ وأما نحن فسنعود إلي الحرب منهوكين كما يعود كل الجند ، ولكننا لن نلقي خلانا تتلقانا

أحضانهم ، وأنى لنا بهم والجوع لم يترك لنا صحبا نناجيهم سوي أشباح موتانا ؟ يالله : أبعد هذا تختلف في حقيقة الشعر ، وروح تهذي في فحولة العبارة وجدة المعاني وإشراق الديباجة ؟ ابعد هذا نتخبط في معنى الادب ، فيذهب البعض إلي أنه الحث على مكارم الأخلاق والعدل الاجتماعي وإصلاح النظم ، ويذهب آخرون إلي أنه الأفكار العظيمة والتفكير الكبير والصنعة المدهشة والأسلوب الفني

أخي : إن عاد يحرث أرضه الفلاح أو يزرع

ويبني بعد طول الهجر كوخا هده المدفع

فقد جفت سواقينا وهد الذل مأوانا

ولم يترك لنا الأعداء غرسا في أراضينا

سوى أجياف موتانا

أي بساطة في التصوير ؟ وأي قرب من واقع الحياة تلك التي تعضني وتنعضك : حياة الفلاح الذي يحرث ويزرع بعد ان يبني " كوخه " من جديد ؛ واما نحن فقد " جفت سواقينا " عبارة ساذجة ، ولكن كم لها في النفس من أثر . سواقينا التي سواقينا العزيزة التي خلفها لنا الآباء . ولقد " هد الذل مأوانا " ثلاثة ألفاظ قوية نافذة جبارة ، لا تستطيع أن تستبدل بأي

منها غيره دون أن تفسد الشعر وتذهب بقوته ، " هد الذل مأوانا " فهو لم يهدمه والهدم شئ مبتذل . " هد " لفظ موجز مركز موح مصور . وهو قد هد مأوانا ، فلم يهد بيتنا ولا دارنا ولا منزلنا ولا قريتنا بل ولا وطننا . هد مأوانا الذي نحتمي به ونستر خلف جدرانه آلامنا . ثم ما الذي هد هذا المأوى ؟ إن الحرب لم تهده ،

وإلا لبنيناه من جديد كما سيبني فلاح الغرب كوخه . هده الذل ، والذل لفظ دال ثقيل ، ثقيل كالصخر . لفظ بغيض مخيف مثير . هد الذل مأوانا ، ولم يترك لنا الاعداء غرسا في أراضينا غير أجياف موتانا . وما آلمه من غرس ! تلك الجثث الهامدة ، التى ترقد تحت التراب في غير مجد ولا عزاء

أخي ! قد تم ما لو لم نشأه نحن ما تما

وقد عم البلاء ولو أردنا نحن ما عما

فلا تندب فأذن الغير لا تصغي لشكوانا

بل اتبعني لنحفر خندقا بالرفش والمعول

                           نواري فيه موتانا

ودع عنك ما في قوله " ثم ما لو لم " فهذه أربعة أو خمسة مقاطع متلاحقة منفصلة كثيرة الممات صعبة النطق في انسجام والكمال لله وحده . ثم انظر فيما دون ذلك فالبلا قد عم الفاظ قوية تعبر عن احساس قوي . وما ينبغي انا أن نندب ، وإلا أضفنا الحمق إلي الألم ومتى أنصتت أذن الغير إلي شكوي الناس ، وبخاصة إذا كان هؤلاء الناس ممن لا ينفعون ولا يضرون ؟ وإذا

فليس لي إلا أن آخذ الرفض والمعول ، وأن أتبع أخي الذي يدعوني في أمتي إلي ان نواري موتانا . من منا لا يرمي هذه الصورة المحزنة ؟ من منا لا يحس بدعوة الاخ لاخيه كى يتبعه وقد سار إلي الجثث الملقاة بالعراء في خطى متثاقلة ، معوله على كتفه وأخوه من خلفه واجم النفس حزين الفؤاد ؟

والشاعر لا يكتفي بالأموات بل يهم بضم الأحياء

إليهم ، وقد تهيأ الجو وحميت الأنفاس فاذا به في القمة وتأتي القصيدة وحدة موسيقية نفسيه تنتظم مقطوعات موحدة ما يزال بعضها يكمل البعض ، وتنمو بنمو الاحساس المتصاعد إلى الاشباع حتى تستقر نفس الشاعر :

أخي : من نحن . لا وطن ولا أهل ولا جار

إذا نمنا ، إذا قمنا ، ردانا الخزي والعار

لقد خمت بنا الدنيا كما خمت بموتانا

فهات الرقش واتبعني لنحفر خندفا آخر

نواري فيه أحيانا

وهذه هي المقطوعة الأخيرة التى بلغت غاية الألم ؟ ولكني لست ادري هل توحي إلي القارئ بما توحي إلي أم لا ؟ إنى أحس فيها إثارة لهمتي وتحريكا لمعاني العز في نفسى فانا لا اؤمن بأن الدنيا قد خمت بنا كما خمت بموتانا ، وانا ارفض ان اواري التراب حيا . إن في هذه النغمات ما يلهب وطنيتي بل مايلهب إنسانيتي . وهكذا

تنتهي القصيدة إلي هذا الدرس النبيل والشاعر بعد لم يعظ ولم يشد بالوطنية ، ولا دعاني إلي شئ من تلك المعاني الضخمة التي نتشدق بها ، وإنما اشعرني ببؤسى و " مالى وطن ولا أهل ولاجار " وما ارتدي إن نمت أو قمت غير رداء الخزي والعار . لقد هم الشاعر بأن يدفنني حيا

فنفرت عزتى وهاجت شجوتي . إنني الان اقوى نفسا وأعز جانبا ، واحمى شجاعة وإن كنت قد ادركت بؤسي ، بل ربما لأنني قد أدركت مدى ذلك البؤس .

والآن أليس هذا هو الشعر المهموس الذي تدعو إليه ؟ أليس هذا هو الشعر الانساني الذي تهتز لنغماته إن بينه وبين الكثير من شعراء مصر قرونا ، وإنه لمن الإجرام أن يرتفع بعد ذلك صوت يحاول أن ينكر على هؤلاء الشعراء ، نعيمه وإخوانه بالمهجر ، انهم هم الان شعراء اللغة العربية ، وان شعرهم هو الذي سيصيب الخلود

اشترك في نشرتنا البريدية