" قد تسألنى أليس في مصر طبقة من المستنيرين ؟ نعم في مصر بيئة مستنيرة ، فيها كثيرون عاشوا في أوربا وعرفوا الثقافة الأوربية وفيهم من يعرف الفن الأوربي ويتكلم عن المصورين والتصوير ، ومن يتكلم عن برامس وباخ . وهاندل . ولكن النادر أن نجد بين هؤلاء ، من عرف أن الثقافة الحقيقية شيء والكلام فيها شيء آخر . وقليل من هؤلاء من أدرك أن الثقافة العقلية وحدها ليست كل الثقافة ، وأن الثقافة الكاملة شئ أوسع من ذلك بكثير . إن أكثر هؤلاء المتكلمين في الموسيقي والتصوير والفنون يعرفونها برؤوسهم ولا يدركونها بحواسهم . إن المطلوب للثقافة ليس مجرد المعرفة ، بل الإحساس والتذوق والتغذي بمختلف الفنون . ما قيمة الكلام عن بيتهوفن إذا كانت أعماله لاتهز نفسك هزا ؟ ! وما معنى الحديث في رفايبل ، أو مملنج أو روبانس أو بونيتشيلي إذا كانت صورهم لا تعمر رؤوسنا ليل نهار ، وتحدث ألوانهم وأصباغهم في نفوسنا الأحداث ؟ ! الثقافة ليست كلاما تملأ به الرؤوس ، ولكنها يقظة الملكات كلها والحواس إذا سلمت بقولي هذا فلا أبالغ إذا قلت لك أن ليس في مصر عدد أصابع اليدين من المثقفين . . " ) ص ٢١٣ ( .
هذه الحقائق الكبيرة هي الدرس النهائي الذي تتمخض عنه " زهرة العمر " ولكى تدرك معناه البعيد يجب ان نحدد المرحلة التي وصلنا إليها اليوم ، وان نتبين العناصر المكونة لثقافتنا الحالية ، والأمر واضح ؛ فهناك منبعان كبيران لتفكيرنا الحالي ، بل لحياتنا الروحية كلها .
أما المنبع الأول فهو بعثنا لثقافة العرب في عصورها الأولى ، فمصر المعاصرة ليست استمرارا لمصر الإسلامية .
وهذا أمر لا يحتاج إلي دليل ؛ فأجيالنا الناشئة أكثر معرفة وتغذية اليوم بامريء القيس وجرير والبحتري مثلا منها بالبوصيري والبهاء زهير وابن نباته المصري ؛ ونحن أكثر قراءة للأغاني والأمالي منا لنهاية الأرب أو صبح الأعشى . نعم إن مصر الإسلامية قد آوت الثقافة العربية يوم فرت من وجه المغول ، ولكنها كانت ثقافة فاترة منحلة سطحية . ولقد كان في ظروف مصر السياسية والاجتماعية ما زاد تلك الثقافة ضعفا ، حتى أصبحت إما دراسات وحواشي وتعليقات وتصانيف أو أدبا إنشائيا متكلفا لفظيا لا تدب فيه الحياة إلا بمقدار . والذي لاشك فيه أننا لم نفتش إلا عندما بدأت حركة البعث للقديم ، ولعل البارودي أن يكون أول ثمرة لذلك البعث إن لم يكن رائده بمختاراته وديوانه ، وذلك في مجال اللغة وفن الشعر ؛ كما أن الشيخ محمد عبده قد جدد من شباب الإسلام بدعوته إلي الرجوع إلي التقاليد الصحيحة والعدول عن الخرافات التي كانت قد أوشكت أن تقضي على حياتنا الروحية . لقد حدث في مصر في النصف الأخير من القرن التاسع عشر ما يشبه إلي حد ما حركة البعث العلمي التي أزدهرت بأوروبا في القرن التاسع عشر ، حدث رجوع إلي القديم وبعث له ؛ وكما أحيا الأوربيون تراث روما واثينا كذلك أخذنا نحن نحيي تراث مكة والمدينة ودمشق وبغداد . وكذلك الأمر في المجال الروحي ، فحركة جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام قد صدرت عن روح شديدة الشبه بالروح التي صدر عنها لوثر وكلفن وزونجلي . هذا هو المنبع الأول نشير إليه ولكنه ليس موضع حديث حديث
وإنما نريد أن نتمهل عند المنبع الثاني الذي ينقلنا كتاب الحكيم إلي مرحلة جديدة من مراحله ، ونعني به المنبع الأوربي الغربي . والملاحظ في تاريخنا الطويل أن مصر كانت بؤرة للثقافة اليونانية لمدة عشرة قرون كاملة ) من ٣٣٠ ق م إلي ٦٤٠ م ( أعني مدة البطالمة والرومان
وبزنطة ، وهذا زمن طويل حتي في حياة الأمم . ومن المعلوم أنه خلال تلك المدة كلها كانت لغة الثقافة والإدارة هي اللغة الإغريقية ، وان اللغة اللاتينية لم تستعمل إلا في الجيش ومراسلات الحاكم مع الإمبراطور أيام الحكم الروماني ولقد كان لنا أن ننتظر انتشار الثقافة الإغريقية بمصر بين المصريين ، ومع ذلك فإن شيئا من هذا لم يحدث ، فمصر لم تصبح ) اغريقية في يوم ما كما اصبحت فيما بعد عربية بسرعة مدهشة فلقد ظل المصريون بعيدين عن الإغريق ، ظلوا يتكلمون اللغة المصرية ويكتبون الكتابة الديموتيفية ، كما ظلوا متمسكين بدينهم وثقافتهم الموروثة ، وهم لم يتخلوا عن شئ من خصائصهم الروحية إلا أمام المسيحية ولا غرابة في ذلك ، فقد كان الشعب المصري طوال هذا الزمن في بؤس مادي وبؤس روحي بالغ الفقر ، ولقد كان المصريون يبغضون الإغريق والرومان قدر بغض هؤلاء لهم ؟ ولم يحدث قط إن امتزج الشعبان كما امتزج المصريون والعرب فيما بعد .
وفي الحق إنها لظاهرة عجيبة ، فألف عام كانت كفيلة بأن تبذر بذور الثقافة اليونانية في بلادنا ، ولكننا لا نجد اثرا لتلك البذور ؛ ولقد انقضي ذلك الزمن بفتح العرب لمصر وإذا بنا نري الدواوين تعرب بعد ستة وستين عاما فقط من هذا الفتح ، وسرعان ما اختفت اللغة الإغريقية بل واللغة المصرية ، وأصبحت مصر بلدا عربيا وإسلاميا وإذا كانت مصر لم تتأثر بالثقافة الإغريقية عن طريق مباشر فإنها لا ريب قد ورثت هذا الأثر فيما ورثت من ثقافة العرب ، ومن المعلوم ان العرب قد نقلوا فلسفة اليونان وبخاصة فلسفة ارسطو ودرسوها بل ونموها ثم أعادوها إلي أوروبا خلال القرون الوسطى
ورثت مصر إذن الفلسفة الإغريقية مع ما ورثت من تراث عربي ، ولكنها لم تضف إلي هذا التراث خلقا جديدا يعتد به فليس لدينا فلاسفة مصريون نذكرهم مع الفارابي أو ابن رشد أو الغزالي .
والأمر في الأدب كالأمر في الفلسفة ، فأدبنا المصري العربي كان قد انفصل عن التفكير الإنساني ، بل والحياة الإنسانية بمعناها العميق
ولقد استمرت تلك الحالة إلي سنة ١٧٩٨ ، وتلك سنة خطيرة في تاريخنا السياسي والروحي معه ، وذلك لأننا خرجنا فيها عن وحدتنا وابتدأنا نتصل بأوروبا ونفتح نوافذنا على العالم الحي . لقد كان للحملة الفرنسية في حياتنا من هذه الناحية أبلع الأثر . ولا شك أنها كانت من الأسباب التي وجهت نظر محمد على إلى الغرب عامة وفرنسا بنوع خاص ، فأوفد إليها البعثات ، وكانت حركة مباركة في الترجمة نهض بها رفاعة الطهطاوي وتلاميذه في مدرسة الألسن ؛ ولقد استمرت تلك الحركة إلي يومنا هذا ، بل لعلها أخذت في التزايد ، كما انتشرت معرفة اللغات الأجنبية بيننا حتي رأينا من شعرائنا وكتابنا من يجيدها كشوقي ، وإسماعيل صبري وغيرهما ؛ ولكنه بالرغم من ذلك لم تتغير حياتنا الروحية الثقافية حتى السنوات الأخيرة تغيرا يذكر ، والسبب في ذلك هو أن اتصالنا بأوروبا قد تم على نحو ما اتصل العباسيون بالثقافة الإغريقية ، فالذي استطعنا أخذه إنما هو التفكير الأوروبي ، وأما الأدب وغيره من الفنون فذلك مالم نستطع أن نتمثله . والذي لاشك فيه أن التفكير المجرد لا يكفي لأن يكون منبعا لثقافة جديدة دائمة التدفق . والأدب والفن على العكس من ذلك خليقان بأن يفجرا في النفس ينابيع جديدة ، وذلك لأن تمثلهما معناه تمثل نوع جديد من الحياة ، وليس أدل على ذلك مما نجد من صعوبة في ذلك التمثل . ونحن على ثقة من أن العباسيين لو أنهم استطاعوا نقل الأدب اليوناني وهضمه لتغير التاريخ الثقافي للعرب ، ولكن كيف كانوا يستطيعون ذلك وهم لم يقووا على غير أرسطو من الفلاسفة ؟ ! فأفلاطون نفسه لم يعرفوه معرفة عميقة ، وذلك لسبب بين هو أن فلسفة أفلاطون فلسفة حيوية شعرية من دعائمها الصور والأساطير
وذلك أشياء ، كانت بعيدة عن محيط العرب العقلي والشعوري . وأما ارسطو فيمثل الروح الرياضية روح التفكير المجرد الذي يستطيع كل عقل أن يدركه
ونحن في مصرنا الحاضر أن نستطيع أن نجاري التفكير الأوروبي أو أن نضيف إليه إضافات حقيقية إذا اكتفينا بنقل هذا التفكير ، وذلك لان الفكرة التي تبني علي فكرة أخري لا تلبث أن تفتقد متعثرة في فتات المنطق ، وإنما التفكير الخصب هو الذي نستمده من الحياة ونبنيه على الواقع ، وعلى هذا لا يكون لنا بد إذا أردنا أن نجدد حياتنا الروحية من أن نغير من مقومات تلك الحياة واتجهاتها وقيمها ، وهذا لن يكون إلا إذا تغذينا بالآداب والفنون الاوروبية من تصوير ونحت وموسيقي
هذا الغذاء الروحي الجديد هو ما يدعونا إليه توفيق الحكيم في زهرة العمر ، وهو بهذا يدعونا إلي مرحلة جديدة من مراحل حياتنا الروحية . ونحن لا ريب ندرك ما في هذا من مشقة ، فثمة طبائع متأصلة وعادات راسخة واتجاهات نفسية عميقة تنهض في سبيل تلك الدعوة ؛ ونحن لا نجهل ايضا ان كافة النفوس ليست في مرونة نفس الحكيم وغيره من النفر القليل الذين افادوا من إقامتهم
بأوروبا إفادة حقيقة . ومن حولنا عشرات منهم بل مئات ممن قضوا السنوات الطوال بالغرب ثم عادوا وقد تكون برءوسهم نظريات كثيرة وآراء لا تحصى ، ولكنهم لم يتمثلوا الحياة الأوروبية والإحساس الأوروبي والثقافة الأوروبية بمعناها الصحيح . هذه كلها صعوبات لاشك فيها ، ولكننا مع ذلك غير بائسين من الوصول إلي حالة خير من حالتنا الراهنة ؛ وأنا علي تمام الثقة من أن كتاب الحكيم سيثير في نفوس قرائه نشوة حارا للثقافة الحقيقية ، وبخاصة في نفوس الشباب الذين لا يزالون في دور التكوين ، وهذا هو سر انشراح صدري لهذا الكتاب
والذي أحرص عليه في خاتمة هذا المقال هو ألا يضيق القارئ بما يحس من تبرم الكاتب بحياتنا المصرية الراهنة ، فتلك حالة نفسية قد يصعب فهمها على من لم يتغذ من الثقافة الأوروبية إلي مثل ما تغذ إليه الحكيم . ولكنني أؤكد عن خبرة أن تبرم الحكيم له ما يبرره . وما ينبغي أن نطلبه إلي الكاتب إنما هو الإخلاص والإيمان بما يقول إيمانا قلبيا ، والحكيم هو ذلك الكاتب . فلنتركه إذن يأخذ بأيدي شبيبتنا الناهضة إلي حيث تغترف الثقافة الحقة
