الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 155الرجوع إلى "الرسالة"

في النقد, في النقد

Share

عزيزي الأستاذ الزيات: أثرت في أعداد   (الرسالة)  الأخيرة حواراً طريفاُ حول      (النقد)   بمقالك الذي نشرته في عددها الذي صدر في ١٨ مايو  الماضي، والذي عقب عليه الأستاذان أحمد أمين وطه حسين.  وإنني أغبطك كصحفي لما صادف موضوعاً أثرته من هذا النجاح.  وأي نجاح أكبر من أن يدخل حلبة الحوار صديقان من كبار  كتاب مصر وأدبائها، فيقلبان من المواضيع في     ((النقد))    ما كان ركد، ويشيران إلى مواضع ضعف في كتابنا وأدبائنا،  شيوخاً وناشئين، ويصفان علة ركود النقد مع يقظة الأدب؛  ويدعوانني بذلك للاشتراك في حديث بعد العهد بيني وبينه؛  وما كنت أظنني أعود من بعد أليه

ولم يكن انصرافي عن النقد عن إيثار للسلامة، أو مداراة  للجمهور، أو اندفاع في تيار هذا الجمهور بعد أن كنت أريد جذبه  إلى تياري. كلا! وإنما كان انصرافي عن النقد وعن ألوان غيره  من الكتابة أنني أيقنت أن فيما أنا بسبيله اليوم من مباحث  في سيرة النبي العربي وفي عصره ما هو أجدى على القراء وعلى  الغرض الذي أرجو للجماعة الإنسانية أن تبلغه مما كنت بسبيله  من قبل. ولست أريد الآن أن أصف كيف حدث هذا التطور  في نفسي فذلك أمر يطول بيانه. وإنما ذكرت منه ما ذكرت  لأبين به السبب الذي انصرفت من أجله عن النقد وما يتصل به.  وما أحسب منصفاً إلا أن ما يستنفده البحث في  السيرة والاتصال بعصرها وبيئتها من وقت وجهد كاف ليشغل  الباحث عن غيره من الأمور؛ هذا ولو أنه كان منقطعاً لهذا  البحث. ما بالك إذا شغل بالصحافة وبغير الصحافة من شؤون  لا تدع له فرصة التنقل من قراءة إلى قراءة، وتدبر كل ما يقرأ  تدبراً يسمح له بنقده وتقديره نقداً عادلاً وتقديراً نزيهاً؟

ولست أريد بهذا الذي قدمت أن أعتذر عن انصرافي عن  النقد ورغبتي عنه. فأنا أرى هذا الانصراف طبيعياً في شأني

وشأن كثيرين غيري ممن عنوا بالنقد وتوفروا عليه منذ عشرين  أو خمس وعشرين سنة مضت؛ أي في بدء حياتهم في الكتابة  والأدب. وهو طبيعي إلى حد لا يجوز معه توجه اللوم إلينا.  فأكثر الكتاب يبدءون حياتهم في الكتابة بالنقد ثم ينصرفون  عنه. هذا شأنهم في أوربا اليوم. وذلك كان شأنهم في غير أوربا  من قبل. وهذا شأنهم لأنهم يقرءون يومئذ وهم شبان ليستزيدوا  من العلم، وهم ينقدون ليمحصوا هذا العلم، وهم يفتنون في النقد  ليكونوا لأنفسهم ملكة التقدير. لعلهم لا يفعلون ذلك متعمدين.  لكن ذلك هو الواقع في أمرهم؛ فشأنهم في ذلك شأن الشجر،  وشأن كل كائن حي أول نشأته، هو يمتص من الغذاء كل ما حصل  عليه أو اتصل به، وهو يصفي هذا الغذاء ويتمثله لينمو بالبقية  الصالحة منه للنمو، وهو يفرز ما ينقده ولا يسيغه؛ فإذا بلغ حد  النمو قل ما يتناوله من الغذاء، ودقق في اختيار هذا الغذاء القليل  الذي يتناوله، لأنه يكون في شغل عن النقد والتمحيص والإفراز  بالإثمار والإنتاج، وإن استنفد بأثماره وإنتاجه قوته حتى ينتهي  من ذلك إلى استنفاد حياته

فالنقد الذي يبدأ به الناشئون من الكتاب والأدباء حياتهم  هو هذا التمثل للغذاء الذي يتناولونه، وهم يعرضون هذا النقد  على الجمهور ليسمعوا حكم الجمهور على نقدهم، وليطمئنوا إلى  أنهم أحسنوا التمثل. والجمهور يطرب لما يراه من آثارهم  طربه لترعرع الناشئ وفتوة شبابه. فإذا انقضت هذه الفترة  من الحياة مال الكاتب أو الأديب مع سجيته، واختار الطريق  الإيجابي الذي يسلكه في إنتاجه. وقد يتفق هذا الطريق وماضي  حياته الأدبية، وقد يكون اتجاهاً جديداً في هذه الحياة يحسبه  بعضهم منقضاً لها بينما هو أثر محتوم من آثارها، لم يكن لصاحبه  مفر من الاتجاه فيه ما دام سليم المنطق حسن التقدير

صحيح أن من الكتاب من يجعل النقد رسالته الأدبية طيلة  حياته، وقد تتصل سائر آثاره بالنقد ولو بمقدار. ولقد كان من  هؤلاء في فرنسا عدد غير قليل أمثال سانت بيف وجول لمتر.  لكن هؤلاء إنما جعلوا النقد رسالتهم في الأدب غير مكتفين  بما يظهر من الكتب في عصرهم. وهم قد جعلوا النقد رسالتهم  البقية على صفحة ١٠٣٩

بقيه المنشور علي صفحة 1004

على أنه لون من ألوان التصوير لتاريخ الحياة الأدبية في عصرهم  وفيما سبقهم من العصور. فهم في عصر النضوج أدنى إلى  المؤرخين منهم إلى النقاد. وما كتبه سانت بيف عن القرن  السابع عشر وعن   (بور رويال)  لا يطلق عليه عنوان النقد بمعنى  النقد المعروف للآثار الفنية بمقدار ما هو تحليل تاريخي دقيق  لصورة من صور الأدب وأسباب نشوئها، وما تأثرت به في  نموها وحياتها. ولهذا السبب تختلف آثار هؤلاء النقاد في أيام  النضوج عنها في أيام النمو ونشاط تمثل الحياة. نقدهم أيام النضوج أثر كامل لحياتهم ونضوجهم. أما نقدهم حين النمو  ونشاط التمثل فشأنه شأن النقد حين يتناوله غيرهم من الشبان؛  هو تناول لمواد الحياة العقلية والأدبية وهضم وتمحيص إياها،  وتمثل للصالح منها، وإفراز لزيفها

وكلنا يعرف طائفة من كبار الكتاب في فرنسا وفي غير  فرنسا بدأوا حياتهم بالنقد، ثم انصرفوا عنه لغيره من ألوان  الأدب. ويكفي أن يذكر الإنسان أناتول فرانس وبول بورجيه  وهما من أعلام أدبها القصصي في القرنين التاسع عشر والعشرين  ليقدر أن الكاتب كثيراً ما ينصرف بعد فترة من حياته إلى  ما يحسبه رسالته الصحيحة في الحياة بعد أن يكون قد استقى  بالنقد من رحيق الحياة صنوفاً وألواناً. وهؤلاء قد حمد الناس لهم  ما اختصوا بالكتابة فيه، ولم يطالبهم أحد بالعودة إلى ميدان  النقد. ولو أنهم عادوا إلى هذا الميدان لعادوا مؤرخين ولم يعودوا  نقادا على طريقة الشبان الناشئين.

لهبوليت تين الفيلسوف الفرنسي الكبير في القرن الماضي  ثلاثة مجلدات في النقد والأدب، تناول فيها طائفة من معاصريه  من الفلاسفة والكتاب تناولاً دقيقاً غاية الدقة، بديعاً غاية  الإبداع. وهي مع ذلك ثمرات شبابه، فلما تقدمت به السن شغل  بكتابة تاريخ فرنسا وبوضع كتب في الفلسفة والأدب ككتابه عن  الذكاء، وكتابه عن تاريخ الأدب الإنجليزي. ولقد وضع كتاباً  فريداً جعل عنوانه   (مذكرات عن باريس)  هو آية في التهكم

اللاذع بحياة عصره، والنقد لطرائق أهل فرنسا في مختلف  ألوان حياتهم. وكم تمنى كتاب أن لو سلك تين هذا المسلك  ووضع على هذا النحو كثيرا من الكتب. لكن أحدا لم يوجه  أليه اللوم لأنه آثر الفلسفة أو التاريخ، علماً من هؤلاء الكتاب  بأن الفلسفة وبأن التاريخ هما جوهر الرسالة التي هيأ القدر  ذهن هبوليت تين لأدائها في الحياة

ماذا بعد هذه المقدمات؟. . . نتيجتها الطبيعية أنه إذا وجب  أن يوجه اللوم عن فتور النقد في هذه الآونة من حياتنا العقلية  والأدبية، فإنما يوجه إلى شباب هذا العصر الذين لا يجدون من  أنفسهم إقداماً على تمثل الآثار الأدبية وتمحيصها بنقدها،  وإشراك الجمهور بذلك في الحياة الأدبية، وحمل الشيوخ الذين  ينتجون على تحري الغاية من الاجادة؛ ثقة منهم بذوق الشباب،  حرصاً منهم على تقديم الغذاء الصالح لجمهور القراء. أما والشباب  لا ينقد فمعنى هذا أنه لا يقرأ، وأنه إذا قرأ لا يمحص، وأنه إذا و محص لا يثور فينقد. وقيمة الحياة الثوره بالحياه , فهذا الثوره   هي وحدها وسيلة التطور الهادئ. أما حيث لا تكون الثورة،  فالركود والجمود، وهذا الذي يشكو منه الأستاذ أحمد أمين،  والذي يوجه اللوم من أجله إلى رجال قطعوا مرحلة النقد إلى  مرحلة غيرها لعلها خير منها ولعلها شر منها

وإذا وجهنا اللوم إلى الشباب فجدير بنا أن نوجه اللوم إلى  الذين يتولون تهذيب الشباب وإلى الذين يتولون تثقيفه. والساسة  يتولون تهذيب الشباب والأساتذة المعلمون يتولون تثقيفه. أي  هؤلاء أجدر بأن يوجه اللوم اليه؟ لقد أصبح شبابنا لا يعنى  بنقد أثر أدبي لأن نقد الأثر الأدبي قد يدل على علو الكعب في  العلم أو في الثقافة أو في التهذيب. ولكن ما قيمة ذلك في مصر  اليوم؟!. . أهو يجر مالاً؟! أهو يجر جاهاً؟! أهو يجر احتراماً  وتقديراً؟! سل الشباب عن ذلك يجيبوك إنما يجر المال شئ  آخر غير العلم أو الثقافة أو التهذيب. والمال اليوم هو الذي يجر الجاه والاحترام والتقدير. ذلك رأى الشباب أو كثرته مع  الشيء الكثير من الأسف. لذلك توجه الشباب إلى أقرب  الموارد إلى المال وإلى الاستكثار منه، فبعد بذلك عن   الثقافة وعن التهذيب، وبعد بمن كان مهذباً أو مثقفاً من الشبان

عن النقد الذي يريد الأستاذ أحمد أمين أن يراه فتياً قوياً ناهضاً

بعد بهؤلاء الشبان عن النقد واصطناعه، لأن النقد أول  شروطه الحرية، الحرية العقلية والحرية العلمية والحرية الأدبية؛  فهو لا يعرف الصداقة، ولا يعرف الإكبار والاجلال، ولا يعرف  المجاملة والمداجاة؛ وهي فضائل يجب أن يتحلى بها الشباب  في كل أمر وفي كل عصر؛ ويجب أن يتحلى بها الناس جميعاً  وإن وجب أن تكون في الشباب أكثر وضوحاً وظهوراً.  أفتريد هذا الشاب الناشئ أن ينقد كتاباً لهيكل أو لطه حسين  أو لأحمد أمين أو للعقاد أو المازني أو لغيرهم ممن شئت، وهؤلاء  قد يكونون وسيلته إلى الوظيفة وإلى مال الوظيفة وجاهها وما لها  في أعين الناس من احترام وتقدير؟ لذلك آثر الشباب الراحة  وجرى وراء الدعة وتعلم المداجاة والرياء حتى في العلم والأدب.  والراحة سم الشباب القتال. والدعة والمداجاة مرضان لا يقلان  عن الراحة فتكاً بالشباب. فإذا اجتمعت هذه الأدواء فتكت  بحرية الشباب وحالت بينه وبين نقد الآثار الأدبية لقعودهما به  عن الأيمان بالثورة. وهذا سبب العلة وموضع الداء.

فليلتمس الأستاذ أحمد أمين شباباً حراً يؤمن بالثورة وأنا  ضمين له بعودة النقد إلى نهضته وفتوته. أما هؤلاء الشيوخ  الذين يتوجه لهم بالنقد فقد رغبوا إلى لون من الأدب غير النقد.  لم يبق منهم إلا صديقي وصديقه الدكتور طه حسين الحريص  على أن يبقى مع الشباب حرصه على أن يكون في طليعة الشيوخ.  ليلتمس الأستاذ أحمد أمين هؤلاء الشبان، فان لم يجدهم فليلق

التبعة عن ركود النقد على الذين يتولون تهذيبهم والذين يتولون   تثقيفهم من الساسة والمعلمين. عند ذلك تنكشف له العلة فيما  أصاب النقد من ركود، وعند ذلك يكون أدنى إلى الإنصاف إذ  يلقي التبعة على من يجب أن تكون عليهم التبعة.

اشترك في نشرتنا البريدية