كل من قرأ الجزء الثالث من كتاب " ضحي الإسلام " لشيخنا العلامة الأستاذ أحمد امين بك ، مر في حاشية الصفحة المائتين والثانية والخمسين منه باسم عالم غير معروف في كتب هذا العصر ، ولا مفصل تاريخه فيما مضي من الدهر ، هو " النقيب أبو جعفر " ، وإليه أشار شيخنا مؤلف الضحي بقوله : " هذا مختصر من اقوال أبي جعفر النقيب ، حكاه بطولة ابن أبي الحديد ( عز الدين عبد الحميد ) في نهج البلاغة 4 : ٤٥٤ وما بعدها " . ومن يرجع إلى مظنة ذلك من شرح نهج البلاغة يجد أن مؤلفه يقول في خلال كلامه ما هذا نصه : " وحضرت عند النقيب أبي جعفر يحي بن محمد العلوي البصري سنة إحدي عشرة وستمائة ببغداد وعنده جماعة وأحدهم يقرأ في الأغاني لأبي الفرج ، فمر (1) ذكر المغيرة بن شعبة وخاض القوم ، فذمه بعضهم وأثنى عليه بعضهم وأمسك عنه آخرون .
فالنقيب أبو جعفر بن أبي زيد البصري كان أستاذ ان أبي الحديد وغيره من العلماء والأدباء . وإذ كان القياس بين الأستاذ وتلميذه ، والفقه وصاحبه ، والعائم وغلامه (١) داخلا في حيز الإمكان ، مؤديا في الأحيان إلى المقارنة بينهما والمساواة ، علمنا بعض العلم ما كان عليه شيخ ابن أبي الحديد من الاتساع في الأدب والفقه والكلام والأخبار والأنساب ، وسمة الرواية وبراعة الدراية ؛ لأن شرح نهج البلاغة دائرة معارف ، ورياض آداب ، وكنوز اخبار ، وركاز بلاغة ، ومعين محاضرات ، ومظنة ثقافة إسلامية وعربية ، وفذلكة نعته انه أحسن كتاب تركته الدولة العباسية في آخر عصورها ، وأكمل شرح لذلك الكتاب العظيم - أعني نهج البلاغة - مفخرة العربية .
من هذا النقيب أبو جعفر يحيي بن أبي زيد ؟ من هذا العلامة الأديب الأخباري النسابة الذي كانت داره ببغداد مجمع الأدباء والفضلاء ، والطالبين لقراءة كتب العرب وأحاديثها ؟ من هذا الذي كان حيا في سنة ٦١١ ه ، وكيف كان عصره من حيث الثقافة والدين والسياسة وما يسمونه الاجتماع ؟ إنا عازمون علي أن نبسط لقراء " الثقافة " الكلام في ترجمة هذا الرجل الكبير الإمام الخطر ، وفي عصره النير المزهر في كل أسباب الحياة والعلوم ؛ وسيجد الذين تهمهم معرفة الثقافة الإسلامية العربية في العصور المستبهمة ، ما يضيف إلى الفوائد استمتاعا ، وإلى الإطلاع انتفاعا ، ولسنا نعني بالمستبهمة إلا قلة الاطلاع عليها ، وندرة التحدث بأخبارها وأسرارها . فنحن مختصون بتاريخ العراق ومتحققون لتراجم المشاهير من رجاله ، ونري خدمة عظيمة للثقافة العربية الإسلامية في الإبانة عن حقيقة ذلك الفهامة العلامة ، الذي كان ركنا من أركان المعارف في القرن السادس وأوائل السابع .
هو شرف الدين أبو جعفر يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد ( ٢ ) العلوي الحسني البصري المعروف بابن أبي زيد ، نقيب
البصرة ، ابن نقيها الأديب الشاعر الأخباري البارع ، الراوي الثقة . ولد بالبصرة في خلافة امير المؤمنين المقتفى لأمر الله سنة ثمان واربعين وخمسمائة ، وقرأ فيها الأدب على أبي محمد بن الأحمر ( ١ ) الحماني ؛ وسمع الحديث النبوي كالذي في سنن الدارمي من أبيه أبي طالب محمد بن محمد نقيب البصرة ومن غيره ، ووافق زمانه أعظم خليفة عباسي في العدل والسياسة والديانة ، والعلم والقوة والتدبير ونفوذ الكلمة ، وهو امير المؤمنين أبو العباس الناصر لدين الله . وقدم بغداد سنة توليه الخلافة - أعني سنة ٥٧٥ ه ، قدحه بقصيدة لامية يقول فيها .
وليت وعام الناس أحمر ماحل
فجدت وجاد الغيث فانقشع المحل
وكم لك من نعماء ليس بمدرك
لها حاسب إلا إذا حسب الرمل ( ٢ )
قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي ، وهو أحسن من ذكره بعد ابن أبي الحديد ممن رأينا له قولا في التاريخ : " وكان رقيق الشعر مليح النظم ، وأجاز لي شعره ، وهو القائل :
هذا العقيق وهذا الجزع والبان
فاحبس ( ٣ ) فلي فيه أوطار وأوطان
آليت - والحر لاتثوي أليته -
ألا تلذ بطيب النوم أجفان
حتى تعود ليالينا التي سلفت بالأجر عين وجيراني كما كانوا
يا حبذا شجر الجرعاء من شجر وحبذا روضه المخضل والبان
إذا النسيم سري مالت ذوائبه كأنما الغصن المطور سكران
فللنسيم على الأغصان هيمنة وللحمام علي الأفنان أغصان
وبارق لاح والظلماء ، داجية والنجم في الأفق الغربي حيران
هذا يذكرني عيفياء ضاحكة فلم أثم وعذابي هم وأحزان
كتمت حبك والاجفان تظهره
وليس للحب عند العين كتمان
غادرت بالقدر في الأحشاء نار جوي
وقد هجرت ففيض العين غدران (1)
ذكره المؤرخ المذكور في وفيات سنة ٦١٣ ه . ونقل قوله ابو شامة في " ذيل الروضتين ، والإمام شمس الدين الذهي في تاريخ الإسلام ، وقال : " وكان ذا معرفة بالنسب والأدب وأيام العرب ، وله شعر رائق وترجمه بالنقل من كتب هؤلاء ابن تغري بردي وذكروا أن وفاته كانت ببغداد في شهر رمضان من السنة المذكورة ، ودفن بمقابر قريش ، وهي مقبرة الإمام موسي الكاظم بن جعفر الصادق المعروفة اليوم ببلدة الكاظمية .
والظاهر أنه قدم بغداد غير مرة حينما كان يسكن بالبصرة ؛ فقد ذكر أحد المؤرخين انه قدمها متظلما من ناظر البصرة في وزارة معين الدين أبي المعالي سعيد بن علي بن أحمد البندادي الأنصاري الحنبلي المعروف بابن حديدة ، وكان تولي الوزارة لأمير المؤمنين الناصر لدين الله سنة ٥٨٤ ه ؛ وانشد هذا النقيب وزير الخليفة قصيدة من جملتها قوله
وقبائل الأنصار غير قليلة لكن بنو غنم هم الأخيار
منهم أبو أيوب تحل محمد في داره واختاره المختار
أنا منه في النسب الصريح وأنت من ذاك القبيل فلي بذاك جوار
ولقد نزلت عليك مثل نزوله في دار جدك والنزيل يجار
فعلام أظلم والنبي محمد أنمى إليه وقومك الأنصار ؟
فلما سمعها الوزير ابن حديدة رق له وبكي ، وخلع عليه ووصله ، وقضى حوائجه وانصفه من ناظر البصرة وعزله ( ١ ) فما كان أعظمهما شاكيا ومشكيا ، ومستجيرا ومجيرا ، ونقيبا ووزيرا ! وتجد في الأخبار الأدبية ومجاميع الأشعار ان النقيب ابا جعفر بن أبي زيد تشرف بالحضور في حضرة الإمام الناصر لدين الله في ليلة من الليالي ، والتجمل محادثته ولو قليلا ، فان مقرب البحراني العيوني الشاعر المشهور يشير في شعره ( ٢ ) إلي أن أحد أرباب دولة الناصر لدين الله المكني بأبي على الملقب بأبي علي المعروف بابن الدوامي ، كان سببا في توصل النقيب شرف الدين أبي جعفر يحيي بن أبي زيد إلي الخليفة المذكور وتشرفه بالحضور ، ويظهر لي انه أبو على الحسن ابن هبة الله بن الحسن ، وكان أحد الأعيان الفضلاء ، تولى للناصر لدين الله حجابة الحجاب ، ثم صدرية المخزن التي هي كوزارة المالية مع وزارة التموين ، ووكالة الخليفة نفسه في أموال الخاصة ، وتوفي سنة ٦١٦ ه ( ٣) . ولما حضر بين يدي الناصر لدين الله أنشده :
ليلتي هذه كليلة موسى حين ناجى الإله فوق الطور
لم يكن خوفه كخوفي ولأسر ( م ) بلقيا الإله مثل سروري (4) وذكره مكرر في ديوان ابن مقرب العيوني ، ففي ص ٩٧ منه ما هذا نصه " وقال وقد اقترح عليه يحيى النقيب بن أبي الحسين بن أبي القاسم على بن أبي العباس محمد بن أبي زيد العلوي الحسنى ، وقد عرض عرضا خفيفا أبياتا من الشعر فأنشأ هذه القصيدة" ، وذكر الشارح القصيدة وفيها يقول جزي الله تاج الدين خيرا فإنه به تدفع الجلي وتكفي الهنابث مشيرا إلي تاج الدين إسماعيل النقيب أبي جعفر المذكور ( 5 ) ومنه نعلم انه خلف من الذكور .
وقد قرأ كثير من الأدباء والأخباريين كتب الأدب
والاخبار والنسب كالاغاني والمغازي وجمهرة النسب على الشريف أبي جعفر المذكور .
وأكثر الفضل في بيان مقالات أبي جعفر وأقواله ورأيه هو لتلميذه ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة المذكور ، فإنه حفظها في كتابه مرة في المعنى ومرة في اللفظ ، وأخري منهما معا ؛ وضمها بعضها إلي بعض أو اختصارها أو اعتصارها بدل علي ما يسمونه بروح ذلك العصر الدينية والاجتماعية . قال ابن أبي الحديد في نقله خبر وفاة النبي ( ص ) واختلاف الناس وقول الحباب ابن المنذر : " تخاف أن يلي الأمر بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم " ، ما هذه صورته : " قرأت هذا الخبر على أبي جعفر يحيي بن محمد العلوي الحسبي ( كذا ) المعروف باب أبي زيد نقيب البصرة - رحمه الله تعالى في سنة عشر وستمائة من كتاب السقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري ، قال : لقد صدقت فراسة الحباب ، فإن الذي خافه وقع يوم الحرة ، وأخذ من الأنصار ثأر المشركين يوم بدر . ثم قال لي - رحمه الله - : ومن هذا خاف أيضا رسول الله ( ص ) على ذريته وأهله ، فإنه كان عليه السلام قد وتر الناس وعلم أنه إن مات وترك ابنته وولدها سوقة ورعية تحت أيدي الولاة كانوا بعرض خطر عظيم . فما زال يقرر لابن عمه قاعدة الأمر بعده حفظا لدمه ودماء أهل بيته ، فإنهم إذا كانوا ولاة الأمر كانت دماؤهم أقرب إلي الصيانة والعصمة ، مما إذا كانوا سوقة تحت يد وال من غيره ، فلم يساعده القضاء والقدر ، وكان من الأمر ما كان ، ثم أفضي أمر ذريته إلي ما قد علمت " ( ١ ) . وهذا يدل على أن أبا جعفر بن أبي زيد كان شيعيا إماميا في العقيدة ، يؤمن بالنص على خلافة علي ابن أبي طالب . ونقل عنه تلميذه ابن أبي الحديد أيضا في أثناء شرح النهج ما يؤكد مقالته ، قال : " وسألت أبا جعفر يحي بن محمد العلوي نقيب البصرة وقت قراءتي عليه . . وكان رحمه الله - على ما يذهب إليه من العلوية - منصفا وافر العقل ؛ فقلت : من يعني ( علي بن
أبي طالب ) عليه السلام بقوله : " كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس اخرين" ؟ ومن القوم الذين عناهم الأسدي بقوله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به . هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشوري ؟ فقال : يوم السقيفة . فقلت : إن نفسي لا تسامحني أنسب إلي الصحابة عصيان رسول الله - ص - ودفع النص فقال : وأنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول - ص - إلي إهمال أمر الإمامة ، وأن يترك الناس فوضى سدي مهملين ، وقد كان يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميرا ، وهو حي ليس بالبعيد ، فكيف لا يؤمر وهو ميت ...." ( ١) .
وكان لابني في كتابه يصف النقيب أبا جعفر بالإنصاف ، فهو حيث استعظم مدح على بن أبي طالب لرسول الله استعظام المستحسن ، قال : " سألت النقيب أبا جعفر - رحمه الله - وكان منصفا بعيدا عن الهوي والعصبية ، عن هذا الموضع فقلت له : قد وقفت على كلام الصحابة وخطبهم ، فلم أر فيهم من يعظم رسول الله - ص - تعظيم هذا الرجل ( له ) ولا يدعو كدعائه " ( ٢ ) ، وبعد إتمام السؤال ذكر تعليل النقيب لذلك ، وكان عنده العارف لبواطن الأمور المحلل لمشكلات الأحداث
وإذ كان لكل مؤرخ قول أو حكم ، لم يسعنا إلا وصف النقيب أبي جعفر بالإنصاف والاعتدال والاقتصاد في اختيار الأقوال ، قال ابن أبي الحديد بعد نقله أخبار المقارنة بين الرسول - ص - وعلي بن أبي طالب وأحوالها : " وكان النقيب أبو جعفر - رحمه الله - غزير العلم ، صحيح العقل منصفا في الجدال غير متعصب المذهب ، فإنه
كان علويا ، وكان يعترف بفضائل الصحابة ويثني على الشيخين ويقول : إنهما مهدا دين الإسلام وأرسيا قواعده ، ولقد كان شديد الاضطراب في حياة رسول الله - ص - وإنما مهداء بما تيسر للعرب من الفتوح والغنائم في دولتهما وكان يقول في عثمان : إن الدولة في أيامه كانت على إقبالها وعلو جدها ؛ بل كانت الفتوح في أيامه أكثر ، والغنائم أعظم ، لولا أنه لم يراع ناموس الشيخين ولم يستطع أن يسلك مسلكهما ، وكان مستضعفا ( ١ ) في أصل القاعدة ، مغلوبا عليه وكثير الحب لأهله ، وأتيح له من مروان وزير سوء أفسد القلوب عليه ، وحمل الناس على خلعه وقتله . وكان أبو جعفر - رح - لا يجحد الفاضل فضله وكان لا يعتقد في الصحابة ما يعتقده أكثر الإمامية فيهم ، ويسفه رأي من يذهب فيهم إلى النفاق والتكفير ، وكان يقول : حكمهم حكم مسلم مؤمن عصي في بعض الأفعال وخالف الأمر ، فحكمه إلي الله إن شاء آخذه وإن شاء غفر له . قلت له مرة : أفنقول إنهما من أهل الجنة ؟ فقال : أي والله اعتقد ذلك . . لا أستريب في ذلك أصلا ولا أشك في إيمانهما برسول الله - ص - وصحة عقيدتهما . فقلت له : فعثمان ؟ قال : وكذلك عثمان . ثم قال : رحم الله عثمان ، وهل كان إلا واحدا منا ، وغصنا من شجرة عبد مناف . ولكن أهله كدروه علينا وأوقعوا العداوة والبغضاء بينه وبيننا " (9) .
ونحن قد عجبنا من قول ابن أبي الحديد في أبي جعفر : ولم يكن إمامي المذهب ، ولا كان يبرأ من السلف ، ولا يرتضي قول المسرفين من الشيعة ، ولكنه كلام أجراه على لسانه البحث والجدل بيني وبينه ؛ علي أن العلوي لو كان كراميا لابد أن يكون عنده نوع من تعصب وميل على الصحابة وإن قل " ( ٣) . فقد قدمنا قوله فيه : " وكان
لا يعتقد في الصحابة ما يعتقده أكثر الإمامية فيهم . فلو لم يكن من الإمامية لكانت الإشارة باردة والتكتة باطلة ! ألاترى أنك لا تقول في وصف عمران بن حطان الخارجي القعدي " كان لا يعتقد اعتقاد السبئية " لبرودته وخروجه عن مقتضى الموضوع .
أما الكلام الذي نقل ذروا منه شيخنا العلامة الأستاذ أحمد أمين بك في الموضع المذكور من ضحى الإسلام فلم يكن من كلام أبي جعفر النقيب بل كان من كلام بعض الزيدية والدليل على ذلك قوله فقال" أبو جعفر - رح - قد كنت منذ أيام علقت بخطي كلاما وجدته لبعض الزيدية في هذا المعنى نقضا وردا على أبي المعالي الجويني فيما اختاره لنفسه من هذا الرأي ، وأنا أخرجه إليكم لاستغني بتأمله عن الحديث على ما قاله هذا الفقيه ، فإني أجد ألما يمنعني من الإطالة في الحديث لا سيما إذا خرج مخرج الجدل ومقاومة الخصوم ، ثم أخرج من بين كتبه كراسا قرأناه في ذلك المجلس واستحسنه الحاضرون ، قال ( الزيدي)( : لولا ان الله تعالى أوجب معاداة أعدائه كما أوجب موالاة أوليائه . . ( ١ )
وهذا يثبت أن النقيب أبا جعفر كان من الثقات الأنبات وصادقي الرواة ، لأنه كان يرجع إلي اصول معروفة وكتب ممسخة وتقاييد مجردة ، على الضد من كانوا يقولون حدثنا فلان وفلان أو سمعنا فلانا يقول أو ينشد ، أو حكم عن فلان . ومما مدح به المحدثون الصادقون انهم كانوا لا يحدثون إلا من كتاب ؛ وكذلك فعل النقيب أبو جعفر في إخراج قصيدة أبي القاسم علي بن الحسين المغربي الوزير الأديب الكبير الشاعر المقتدر ، وهي قصيدة نادرة في موضوعها تدل على بقية من العصبية العربية الجاهلية العمياء في القرن الرابع وأوائل الخامس للهجرة ، وهو عهد انحلال العروبة واختلاف المذاهب اختلافا إيجابيا مبنيا علي النقص والرد والمناظرات والمقسامات ، قال ابن أبي الحديد : " وحدثني أبو جعفر يحي بن محمد بن أبي زيد (١ ) العلوي نقيب البصرة . " ( ٣ ) وذكر قدوم أبي القاسم المغربي
كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا
وهمين هما مستكنا وظاهرا (2) "
وذكر القصيدة إلا البيت الأخير منها ، قال : " فجعل أبو جعفر - رح - يهتز ويطرب ثم قال : والله لو مزجت هذه بشعر البختري لكادت تمتزج بسهولها وسلاسة ألفاظها وما عليها من الديباجة والرونق ؛ من يقول : " إن امرأ القيس وزهير أشعر من هذا ؟ هلموا لي فليحا كموني (3) وكان للنقيب أبي جعفر علم بجوهر القصيدة لبني علي بن أبي طالب حتى لقد قال ابن أبي الحديد في ذكره الأشعار الواردة في الإباء : " وسمعت
النقيب أبا زيدي يحيي بن أبي زيد العلوي البصري يقول كان أبيات أبي تمامفي محمد بن حميد الطائي ماقيلت إلافي الحسين - ع -
وقد كان فوت الموت سهلا فرده
إليه الحفاظ المر والخلق الوعر (1)
وذكر بعده ثلاثة أبيات . وأخبار هذا النقب العلامة كثيرة لا يمكننا سردها في هذا المكان ، على أننا تذكر أمرا مهما في تاريخنا الإسلامي ، وهو أن تعلم أن الثقافة بأنواعها وضروبها حتى الدينية والمذهبية منها تتلون وتتطور وتتحول وتتبدل بحسب اهواء الخلفاء والسلاطين
والملوك ( ١ ) وكثير من العلماء والأدباء والفقهاء والمتألهين ، كانوا يصبغون ما عندهم بصبغة حكام زمانهم ، مما يثبت أن المال والجاه والسلطان تأثيرا عظيم عظمها في مناحي الثقافة وألوانها وأطوارها . وإذ وجدنا في هذا العهد ما يسمونه حرية البحث والإنصاف في الجدال والاعتدال في العقائد ، والتساهل بين الطوائف بعضها على بعض ، وجب أن نعزو أكثر ذلك إلي عهد الإمام الخليفة الناصر لدين الله العباسي
(بغداد)
