الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1024الرجوع إلى "الرسالة"

في سنن الله فى الاجتماع

Share

الإسلام دين الفطرة . بذلك شهدالله سبحانه إذ يقول فى سورة الروم ( فأقم وجهك للدين حنيفا , فطرة الله التى فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله , ذلك الدين القيم ) فأحكام الإسلام إن هى إلا تطبيق محكم من الله للسنن التي فطر الله عليها الناس فى الاجتماع

والناس فى اجتماعياتهم لم يهتدوا بعد إلى قوانين الفطرة وإنا يحدسون ويظنون , فنجاحهم فى الكشف عن سنن الفطرة فى المادة لا يعادله إلا فشلهم فى الكشف من سنن الفطرة فى الروح , روح الفرد وروح الجماعة . وهم أنجح فى تفهم روح الفرد في علم النفس منهم فى تفهم روح الجماعة فى علوم الاجتماع . وآية ذلك الاختلاف السائد فى هذه العلوم فى حين أن لا اختلاف هناك فى العلوم الطبيعية , علوم المادة والطاقة , لا فى قوانينها ولا فى وقائعها وإن كان هناك طبعا اختلاف فى الفروض والنظريات المتعلقة بما لا يزال منها قيد البحث والنظر والتمحيص . فعلوم الاجتماع فىكثرة اختلافها وقلة اتفاقها تشبه العلوم الطبيعية فى جزئها المجهول وما تعلق به من فروض , أى أنها لا تزال فى دور التكوين , دور الحدس والتخمين

ودور الحدس والتخمين دور ضرورى يمر به كل علم وفي بحث ظواهره قبل ان يصل فيها إلى يقين . لكن علوم الاجتماع يعوزها ما ليس يعوز العلوم الطبيعية من معيار يفصل به بين الحق والباطل , ويميز به بين الخطأ والصواب . فالعلوم الطبيعية تحتكم إلى التجربة العلمية فى الفصل بين الفروض المختلفة التي يؤتى بها لتفسير الظاهرة الواحدة , أى تحتكم فى الواقع إلى الفطرة نفسها التي تجيب دائما

نفس الجواب عن نفس السؤال كلما أحسن العلم الطبيعى توجيهه . وهذا إن هو إلا مظهر لاطراد الفطرة فى سنتها ، ونتيجة لازمة لذلك الاطراد . لكن العلوم الاجتماعية لا تملك ما يملك العلم الطبيعى من التجربة العلمية التي يتحكم العالم فى إجرائها بالصورة التي يرى أنها أدنى أن تؤدى إلى الكشف عن الحق فى موضوعها . صحيح أن علماء الاجتماع يستعينون أيضا بنوع من المشاهدة , ولولا ذلك ما كانت هناك علوم اجتماعية قط . لكن شتان بين المشاهدتين : بين مشاهدة يكيفها ويضبط ظروفها المشاهد كما فى العلم الطبيعي , وبين مشاهدة لا يكاد يكون هناك سبيل إلى التحكم فيها او ضبط ظروفها وتكييفها كما فى العلم الاجتماعى . وهذا الفرق الأساسى هو سبب نهوض العلوم الطبيعية , وقعود العلوم الاجتماعية عن ان تبلغ من الدقة والإصابة المبلغ الذى يليق

هذه النتيجة ليست راجعة إلى فضل فريق من العلماء على فريق , وإنما ترجع إلى طبيعة الموضوع فى كل علم . فموضوع العلم الطبيعى هو المادة والطاقة والحياة فى غير الإنسان . وما نفقد أو نخسر من ذلك اثناء التجارب لا يكاد يهم لأنه يمكن تعويضه . كلما تلفت أثناء التجربة الفاشلة كمية من المادة مثلا أعدنا التجربة بكمية جديدة فى ظروف جديدة حتى نهتدى إلى ما نريد . لكن مادة العلم الاجتماعى هى الإنسان متفرقا أفرادا أو مجتمعا بطونا وشعوبا . ومن المحظور أن تعرض الفرد أو الجماعة إلى تجربة تؤدى إلى التلف أو حتى إلى ضرر ملحوظ , بل نفس احتمال الضرر فى التجربة يكفي لمنعها و تحريمها قانونا . فليس أمام العالم الاجتماعى إلا أن يشاهد ما يجرى فى حياة الجماعات من غير أن يكون له سلطان على تكييف ظروف الحياة تكييفا يصل من خلاله إلى ما يريد من اختبار فرض او اختيار الأرجح من رأيين والأصح من نظريتين . وهذا معناه أن سيطويل الأمد على العلم الاجتماعى أو الفلسفة

عموما قبل أن يصل او تصل إلى إثبات سنة من سنن الفطرة فى الاجتماع كما قد وصل العلم الطبيعى إلى إثبات الكثير من سنن الفطرة فيما هو موضوعه من مادة الكون عدا الإنسان من حيث هو إنسان

وعجز العلم الاجتماعى عن الوصول إلى الحق , مهما تكن أسباب ذلك العجز , لن يعفى أحدا من عواقب الخطأ أو التخبط فى الحياة الاجتماعية نتيجة لجهل سنن الله التى طبع عليها الفطرة فى الاجتماع . فليس ميدان الروح والحياة الإنسانية بأقل خضوعا لنواميس الفطرة من ميدان المادة والطاقة , وليست نواميس الفطرة فى ناحيتها الإنسانية الاجتماعية بأقل دقة وصرامة من نواميس الفطرة فى ناحيتها المادية وإن خفى ذلك على الأكثر الأغلب من الناس . فالفطرة فى حقيقتها كل شامل متصل وإن جزأه الإنسان ميادين وعلوما متباينة لعجزه عن دراسة الفطرة دفعة واحدة . إن الإنسان مضطر إلى التحليل أولا ليتوصل بعد إلى التركيب ؛ مصطر إلى دراسة الجزء قبل أن يستطيع إدراك السكل فى أمر من الأمور . فإذا قدر للانسان فى علومه المختلفة أن يحيط بالفطرة أجزاء منفصلة فسوف يستطيع إذا اهتدى إلى فلسفة غير فلسفته الحاضرة أن يبصر الطريق إلى ضم بعض تلك الأجزاء , على تباينها , إلى بعض ضمان يجعل منها كلا متصلا تتحلى فيه الفطرة وحدة موحدة يجلوها علم عام جامع لشتات العلوم كلها هو علم الفطرة . عندئذ يرى الإنسان أن سنن الله فى الكون واحدة فى اطرادها وتناسقها ، وفى دقتها وصرامتها , لا سبيل إلى تغييرها ولا إلا لإفلات من عواقب مخالفتها سواء فى ذلك ناحية المادة والطاقة منها وناحية النفس والروح فى الأفراد والجماعات

ومهما عذر الناس فى جهل أن الفطرة وحدة واحدة فى طبيعياتها واجتماعياتها فالذون من بينهم لا عذر لهم ؛ لأن كتاب الله فاطر الفطرة قائم بينهم يخبرهم من ذلك بما جهلته الفلسفة و لم يدركه العلم , فى آيات هي فى أيدى المسلمين واأسفاه كالمصابيح فى أيدى العميان , من نحو

قوله تعالى من سوء تبارك ( ما ترى فى خلق الرحمن من تفاوت ) ومن سورة فاطر ( فهل ينظرون إلا سنة الأولين ! فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا )

والعجيب أن هذه الآية الكريمة و أمثالها فى القرآن لم تنزل فى سنن الله فى المادة وإنما نزلت في سنن الله فى الاجتماع لتنذر الناس عواقب كفرهم إن كفروا بالدين الذى هو دين الفطرة , وليبين لهم أن لله فى هذه الناحية سننا لا تتخلف جرت فى الأولين بالإهلاك حين عصوا واتبعوا أهواءهم ، وهى جارية لا شك فى الآخرين إن هم عصوا أيضا وخرجوا عن سنته سبحانه التي فطر عليها الناس , سواء أكان خروجهم ومخالفتهم عن جهل أم عن عناد

ولقد بين الله سبحانه هذه الحقيقة فى كتابه الكريم بشتى صور البيان . فتارة يحمل كما فى نحو قوله تعالى من سورة الحج ( وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتتهم فكيف كان نكير . فكأين من قرية أهلكناها وهى ظالمة فهى خاوية على عروشها ). وتارة يفصل ثم بدل على موضع الحجة والعبرة فى التفصيل كما تجد فى سورة القمر مثلا إذ قص سبحانه ما أجر التكذيب بسننه ورسله على قوم نوح وعاد وتمود وقوم لوط و قوم فرعون , حتى إذا بين سبحانه من ذلك ما شاء تفصيله التفت إلى كفار قريش مخاطبا بقوله ( أكفاركم خير من أولئكم ؟) فدل بذلك على أن سنته فى الكافرين المكذبين بكتبه ورسله سنة عامة لا استثناء لها ولا منجى منها إلا بالإيمان والعمل بالدين الذى تتمثل فيه قوانين الدين فى الفطرة , وتتضمن أحكامه التطبيق المحكم لسنته سبحانه فى الاجتماع ؛ تلك السنن التي على الله ان السبيل إليها وإلى تطبيقها غير ميسور للناس على الزمن ولا مضمون خلافا لسنته سبحانه فى المادة والطاقة وما إليهما فأمرهم أن يطلبوا هذه بأنفسهم ومن عليهم

بتلك مطبقة محكمة فى أحكام الإسلام

ونحن اليوم نرى صدق عموم تلك السنن رأى العين فيما جاق بمخالفتها فى الغرب وفى الشرق ؛ فالعرب قد نال من العلم الطبيعى عن طريق البحث التجريبى مانال حتى ظن أنه قد ملك الارض يفعل فيها ما يريد غير مراقب فى الناس إلا ولا ذمة , ولا مراع فى اجتماعياته شرعا لله ولا سنة . فإذا بنفس علوم المادة تنقلب عليه نقمة , وإذا بأمواله تتحول بتلك العلوم مناجل وقنابل تحصد أهله , وتمزق شمله , وتترك دياره العامرة بلا قع ومدنه الزاخرة حطاما ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة , إن أخذه أليم شديد ) وسيان أن يهلك العاصون لله وسنته بحجارة من سجيل يمطرونها على أيدى الملائكة , أو بقنابل زرية وغير ذرية يمطرونها على ايدي أمثالهم من الناس مصداقا لقوله تعالى ( وكذلك نول بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون )

ومن عجب أن الغرب لاقى ببغيه ومعصيته حربين هائلتين أنسته أولاهما حروب التاريخ , وأنسته أخراها اهوال الأولى , وكان فى كل منهما يبكى ويستبكى , ويدعو ويتضرع ، ويعد ويمنى , حتى إذا خرج من الاولى نسى ما عاهد عليه الله ونقض ما عاهد عليه الناس فأذاقه الله بالثانية لباس الجوع والخوف فلم يعتبر ولم يرتدع ورجع إلى بغيه الذى ألف كما تشهد أعماله فى مصر وفلسطين , وفى المغرب الأقصى وإيران وفى كينيا وكوريا وما إليهما . فلم يبق إذن إلا الثالثة تأتيه فلا تبقى منه ولا تذر . وأبى له أن يتجنبها وهو ينحدر إلى هاويتها بالاستعداد لها - زعم - كالمنزلق من جبل لا يستطيع إلا أن يزداد انطلاقا حتى يهلك . فكان الغرب فى ماضيه وحاضره مثلا آخر مرعبا مؤسفا للمكذب المغتر الظالم لنفسه ولغيره ؛ فهو يوشك أن تحق عليه كلمة الله فيلقى ما لاقاه قوم قال الله فيهم ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين . فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين )

وأعجب من أمر الغرب أمر هذا الشرق الإسلامى الذي لايزال يتخذ الغرب فى اجتماعياته إماما , كأن فشلها وخطلها لم يثبت بما اشاعت فى الغرب من فرقة وبغض , وما جرت عليه من ويل وحرب . أو كأن هذا الشرق ليس بيده نور الله يهديه ودين الله يعتصم به . فلئن لم يتدبر قوله تعالى ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء تم لا تنصرون ) وقوله سبحانه ( وأتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن ياتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ) فيسمع لأول كل منهما ويطيع , ليوشكن أن يحق عليه سائرهما ؛ فإن رأس سنن الله أن يطاع , وأن من لا يطيع يهلك . وسنن الله لا تتخلف كما يشهد به العلم فى المادة , وكما يشهد به القرآن فى الاجتماع

اشترك في نشرتنا البريدية