الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 578الرجوع إلى "الثقافة"

في ضوء المصباح, الطاغية الصغير

Share

كتب هيجل - الفيلسوف الألماني في النصف الأول من القرن الماضي - يقول في مجرى عبارة له عن تطور الحرية : " . . . إن أهل الشرق لا يعرفون حتى اليوم ( ١٨٤٠ ) أن الإنسان حر لمجرد كونه إنسانًا عاقلًا ؛ إنهم لا يعرفون إلا أن تكون الحرية لرجل واحد ، ثم لا تكون حرية هذا الرجل الواحد إلا اندفاعه وراء نزواته . . ."

وقد مضى على هذا الذي كتبه هيجل قرن أو يزيد ، وتبدلت أحوال الشعوب الشرقية في كثير جدًا من الجوانب والأوضاع ، فصدرت لها الدساتير وقامت فيها مجالس النيابة وما إليها من مظاهر الحكم الديمقراطي الذي يعترف للإنسان العاقل بحريته ، ولا يقصر الحرية على رجل واحد يندفع وراء نزواته - كما يقول هيجل - لكنني برغم ذلك كله ، ما كدت اقرأ لهيجل هذه العبارة ، وأدير فيها الفكر ، أو أديرها في الفكر بتعبير أصح ، حتى تبينت صدقها إلى اليوم ( ١٩٥٠ ) .

نحن أهل الشرق لا نعترف بالحرية إلا لرجل واحد من كل هيئة أو جماعة ، ثم لا تكون حرية هذا الرجل الواحد إلا أهواءه ونزواته . هذا قول صادق في الأسرة المصرية الصيمة ، وفي ديوان الحكومة المصري الصميم ، وفي كل

علاقة تنشأ بين جماعة من الأفراد كائنًا ما كان شأنها ولونها .

المثل الأعلى في الأسرة المصرية الصميمة ، أن يكون الزوج صاحب الكلمة النافذة على زوجته ، ثم أن تكون هذه الكلمة النافذة متقلبة مع أهوائه ونزواته . . .

فقد عرفت زوجين ، أراهما يمثلان وجهة النظر المصرية تمثيلًا صادقًا دقيقًا ، فالزوج مستبد طاغية ، والزوجة لا يطوف برأسها ، ولو على سبيل الأحلام العابرة ، أن تنكر على زوجها حقه في استبداده وطغيانه ؛ كلاهما من الريف . لكنهما أنفقا في حياة المدن أربعين عامًا ؛ وهما من الطبقة المتوسطة التى تعتقد أنها إلى أصحاب العوز أمثل منها إلى ذوي اليسار .

جاءا إلى المدينة محملان في أصلابهما تقاليد الريف كلها ، أعني التقاليد المصرية الصافية الخالصة من أخلاط الثقافة الأوربية ، ولم يكن للزوجة نصيب من التعليم كائنًا ما كان ، أما الزوج فيكتب ويقرأ ويحسب ويناقش ويجادل ويفكر على نحو بدعوك إلى الاعتراف بحدة ذكائه اكثر مما يدعوك إلى احترام دقة تفكيره وصدق خبرته .

كان للزوج حقوق على زوجته ، وكادت أن تكون

هي صفرًا من كل حق إزاءه فهو يحاسبها وهي لا تحاسبه ، البيت بيته هو لابيتها ، والأبناء أبناؤه هو ، حتى ليوشك أن يظن أنهم أبناؤها بالمصادفة ؛ من حقه أن يدعو من شاء من الضيوف ، ولا وزن إطلاقًا لقبولها أو رفضها ؛ أما هي فيستحيل عليها استحالة قاطعة أن تدعو زائرًا أو زائرة إلا بعد استشارته وموافقته .

وحدث في ليلة ليلاء ، من ليالي الشتاء ، أن تأخر الزوج عن موعده المألوف ، فنامت الزوجة ونام الأبناء ، وكان أكبرهم في نحو العاشرة ؛ حتى إذا ما انتصف الليل ، نهض هذا الغلام - وهو الذي قص علي قصة والديه بعد أن شب واكتمل - نهض من نومه فزعًا ، لأنه سمع أمه تبكي ؛ وتسلل من غرفة نومه خائفًا مرتعشًا ، مشوقًا متطلعًا ؛ كان يرتعش خائفًا لأن أباه في الدار ، وحسبه هذا باعثًا على الرعشة والخوف ، فما بالك وأبوه هذا يقرقع بصوته غاضبًا ثائرًا ؛ ثم ما بالك والغضب والثورة قد جاء في هذه الساعة من الليل ، التى يسكن فيها الإنس وينشط الجن ؟! وكان مشوقًا متطلعًا لأنه يسمع بكاء أمه نحيبًا قويًا حزينًا ، ويود لو يعلم فيم بكاؤها في مثل هذه الساعة التي يخلد فيها المحزون فينسى حزنه في غمرة من أحلام الظلام ، حتى تعود الشمس فتستيقظ لتوقظ في الناس أحزانهم من جديد .

وقف الغلام في ردهة الدار دقيقة أو نحوها ، يتسمع . ويبني مما يسمعه قصة فاته نصفها الأول ؛ وإذا بأبيه يناديه دون أن يراه ، فأسرع الغلام إلى سريره ليجيب على النداء من فراشه ؛ وأجاب الغلام من مخدعه نداء أبيه ، وجاءه مسرعًا إلى حيث كان ؛ وإذا بالغلام الصغير - وهو في العاشرة من عمره !! - يري عجبًا ويسمع عجبًا .

فقد عاد الوالد إلى الدار ومعه سمك ، وأمر الزوجة التي استيقظت كالباهلة الحالمة في تلك الساعة من الليل ، وأمرها أن تعد له من هذا السمك عشاء ! وهمت الزوجة أن تعترض على هذا الأمر الشاق العسير ، فكان ما كان من ثورة وغضب وصياح.

ولو وقف الأمر عند هذا الحد ، لما كان في الأمر ما يقتضي الحككاية والرواية ، في كل دار زوج يثور ويغضب ويصيح ؛ لكن الرجل الطاغية ، أقسم بالطلاق

ليقذفن بالسمك في النيل ومن ثم كانت دعوته للغلام الصغير أن ينهض من نومه ليحمل له السمك ويصحبه في هذه الساعة من زمهرير الليل . . . إلى النيل ! والشر بعضه أهون من بعض ؛ خروج الصبي مع أبيه على هذه الحال ، أهون شرًا من خراب الأسرة وانفصال الوالدين .

ويمضي الصديق في حكاية ذكرياته عن هذا الحادث العجيب ، فيقول دفاعًا عن أبيه ، إنه كان مفرط الذكاء ولولا اندفاعه لكان خيرًا من ذلك حالًا؛ ويروي كيف أن أباه قد أحس لدعًا قويًا من ضميره على ما فرط منه ، وراح يلتمس لنفسه الغفران عند ابنه الصغير وهو يسير إلى جانبه يحمل مقطفًا صغيرًا ، يحمله بيمناه مرة وبيسراه مرة ، حتى لم يسع الغلام عندئذ إلا أن تدمع عيناه إشفاقًا على أبيه!.

ووصل الوالد والولد إلى مكان من ضفة النيل ، وإن الفتى ليذكر جيدًا كيف اضطرب جسمه كله عندئذ حين خيل إليه أنه يسمع حفيفًا في أعشاب الشاطئ ، وتوهم أن عفريتًا من الجن قادم إليهما من مكمنه ؛ لكن الوالد طمأن ولده، وتناول مقطف السمك وقبله قبلة أحس فيها الغلام كل ما ينطوي عليه الوالد الطاغية من حنان الأبوة الذي استحال على طغيان الشرق أن يمحوه من القلوب .

تناول الوالد من ولده مقطف السمك وأفرغه في النيل عند شاطئه ووقف قليلًا ، وعاد مع ابنه خطوتين ، ثم رجع إلى كومة السمك يعيدها إلى وعائها ، قائلًا لابنه الغلام الصغير ، إنه لم يعد يري مانعًا من أخذ السمك إلى الدار بعد أن نفذ اليمين ؛ والغلام لم يفهم بعد ما تلك اليمين التي تدعوهما معا أن يخوضا في هذا البرد الشديد وفي تلك الساعة التي لا يخرج فيها الناس من بيوتهم .

لما قرأت قول هيجل إن أهل الشرق لا يعرفون إلا أن تكون الحرية لرجل واحد ، وإن حرية هذا الرجل الواحد لا تكون إلا اندفاعه وراء نزواته ، ارتسمت في ذهي صور لرجال ثلاثة : منهم هذا الوالد الذي قص علي الفتى قصته.

بل إني بعد قليل من تفكير وتدبر وتذكر ، لم ألبث أن أتبين أننا - أهل الشرق - قد أقمنا على أنفسنا من أنفسنا ، في كل منعطف من طريق حياتنا ، طاغية صغيرًا .

اشترك في نشرتنا البريدية