الفقر صوره شتى . .
فمنها اليباب الفقر الذي تلتهب رماله بوقدة الشمس ، حتى لتنقلب حبات الرمل على سطحه جمرات من نار ، وتهب عليه الريح السموم فإذا هي ألسنة من اللهب تنفثها جهنم ؛ هذا اليباب إذا ما شاء له القدر يوما أن يصيبه شئ من المطر ، غاص المطر في جوفه وغاب كان لم يكن ؛ فهو قفر كما كان ، لا زرع فيه ولا ضرع ، إلا أشواكا تنشب على وجهه هنا وهناك فتزيده فقرا على فقره .
ومنها الصخر الأجرد الذي تصلد صدره وتصلبت أطرافه ، فلا يتفجر جوفه عن قطرة أو تبتة ؛ إذا سال عليه الماء انحسر عنه لأنه مغلق أصم عبوس مخيف ؛ فلا هو يخرج من جوفه شيئا ، ولا هو يفتح مغاليقه ليتقبل مماحوله شيئا ؛ لا أمل فيه لمسافر ولا رجاء عنده لضال .
* ومنها السماء لا تجود بالغيث ، تيبس الأرض من تحتها وتتشقق ، ويجف الزرع ويموت ، وتشخص الأبصار إليها ضارعة ، وتصعد الدعوات إليها مسترحمة ، لكنها كالحة مصفرة الوجه لا تجود .
ومنها الوردة تذبل وتذوى ، طار عنها الشذى وجف من عرقها الماء تفركها بين إصبعيك فإذا هي رماد تذروه الريح مع التراب والعفر ؛ ومنها الجدول غيض ماؤه ، تعبره ماشيا على قدميك ، فترن اصداء خطاك بين صخوره لخلائه وفراغه .
ومنها الجيوب تخلو من المال ، فيمضي صاحبها بين اكداس الطعام في الدكاكين وهو جائع ، لأنه لا يملك أن يستجيب للمعدة تناديه ولبائع الطعام يغريه .
لكن لا اليباب الفقر الذي تلتهب رماله بوقدة الشمس ، ولا الصخر الأجرد الذي صلد صدره وتصلبت أطرافه . ولا السماء اليابسة ولا الوردة الذابلة ولا الجدول غيض ماؤه ولا الجيوب الخالية من المال ، بمستطيعة أن تعبر عن الفقر بأبلغ مما تعبر عنه النفوس الفقيرة ١.
فقيرة هي تلك النفوس التى يعيش أصحابها فيما تعيش فيه ولا تتأثر ، كأنما تنظر العين ولا ترى ، وتسمع الأذن ولا تعي ، وكأنما قد القلب من صوان ، فتجري في شعابه " مجاري السماء ، لا تترك وراءها ثمرا ولا اثرا ، كالماء
يهبط على رمال اليباب البلقع فيغيض فيه بغير زرع ، أو يسيل على الصخر الأصلع فينحسر عنه ولا حياة ! إن القلب الفقير عضلة تصلح لمبضع التشريح ولا تصلح لريشة الشاعر ؟ وصاحب النفس الفقيرة كالمذياع التالف ، فيه المفاتيح والصمامات والأسلاك ، لكن الهواء من حوله يعج بموجات الصوت وهو ابكم ، لا يلتقط ولا يذيع .
فقيرة هي النفس التي تنظر إلى باطنها فتجد خواء ، فتمتد إلى خارجها لتقتني ما يسد لها ذلك الخواء ؛ وماذا تقتني ؟ تتصيد أناسا آخرين ذوي نفوس أخرى لتخضعهم لسلطانها ! إنها علامة لا تخطئ في تمييز أصحاب النفوس الفقيرة من سواهم ، فحيثما وجدت طاغية - صغيرا كان أو كبيرا - فاعلم أن مصدر طغيانه هو فقر نفسه ؛ إن المكتفى بنفسه لا يطغى ؛ إن من يشعر في نفسه بثقة واطمئنان ليس في حاجة إلى دعامة من سواه ؛ وإذا فماذا أقول ؟ أأقول إن الطغيان قد امتد بجذوره في ربوع الشرق لجدب نفوس أهله ؟ .
أى والله لقد ضرب الطغيان بجذوره في ربوع الشرق منذ آماد بعيدة سحيقة ، حتى أصبحت لفظتا الشرق والطغيان مترادفتين أو كالمترادفتين ، فهما تصادفانك متجاورتين متلاصقتين في كثير من الآداب الأوربية ؛ لا ! إني أرى الكلمة على شفتيك فلا تقلها ! لا تقل دهشا : أى طغيان ؟ لا تقل إن لنا دستورا يجعل الناس سواسية ويحرم الطغيان ، فالطغيان في دمائنا : الحاكم الشرقي طاغية ، والرئيس الشرقي طاغية ، والوالد الشرقي طاغية ، والزوج الشرقي طاغية ، والموسر الشرقي طاغية - طغاة هؤلاء جميعا ، لأن في نفوسهم هزالا يعوضونه بمظاهر الاستبداد بسواهم . . قال أمامي وزير مصري لست في حل من ذكر اسمه ، قال ذات يوم وكنا في لندن ، وكان مؤتمر سياسي منعقدا هناك ، وجاء مستر بيفن - وزير خارجية انجلترا إذ ذاك - جاء إلى المؤتمر السياسي يمثل بلاده ، مشيا على قدميه ، وليس وراءه ولا أمامه " زفة " تطبل وتزمر ، فقال الوزير المصري على مسمع مني : كنت أتصور في الديمقراطية الأنجليزية شيئا كثيرا ، ولكنى لم أكن مع ذلك أتصور أن يبلغ بها المدى هذا الحد البعيد ، أوزير خارجيتها يجيء إلى مؤتمر كهذا
وسط الزحام راجلا ؟ فكدت عندئذ أصيح في وجه الوزير المصري قائلا : استحلفك الأهل والولد يا معالي الوزير أن تذكر ذلك عند عودتك إلى بلادنا ، أن تذكر لأصحاب المعالي الوزراء ، حتى يتذكروا شيئا منه وهم راحلون إلى حمامات الاستشفاء للمتعة والتنزه ، وحتى يتذكروا شيئا منه وهم عائدون من شطئان البحر وجنات الأرض إلى بلادهم ليستأنفوا " العمل " .
العظمة في الشرق معناها الطغيان ، والطغيان من معانيه كسر القوانين ، فيستحيل أن يكون العظيم عظيما عندنا إن أطاع القانون ، حتى لو كان هذا القانون من وضعه هو ، لأن العبث بالقيود هي عندنا الحد الفاصل بين السيد والمسود ؛ فقل لي إلى أي حد تستطيع في الشرق أن تعبث بالقانون والنظام ، أقل لك في أي مرتبة أنت من مراتب المجتمع ، فأعلاها منزلة أكثرها عبثا ، وأدناها أقلها .
ولعل هذه الفكرة قد بلغت أقصاها تطرفا ، حين أرادوا أن يتصوروا كمال الله ومطلق سلطانه وسيادته ، فتصوروه فاعلا للمعجزات ، والمعجزة هي إيقاف قانون من قوانين الطبيعة وتعطيله ؛ فلما كان الله أكمل ما يكون الكائن جبروتا وسلطانا ، فلا بد أن يكون أقدر ما يكون الكائن على تعطيل القوانين الطبيعية كيف شاء وحيث شاء ؛ أما أن يكون كمال الله - كما تصوره سبينوزا - هو في أن تظل قوانين الكون قائمة مطردة ، فذلك تصور بعيد جدا عن تصورهم لمعنى العظمة والجلال .
فقيرة هي النفس التي لا تستطيع أن تقف موقف سواها ، لترى ما ترى وتحس كما تحس ؛ وهيهات عندنا أن نجد صاحب النفس الغنية بخيالها الخصبة بشعورها ، ذلك الذي في مقدوره أن يحس الألم مع من يحسه ، وينظر إلى الناس في ظروفهم ؛ هل رأيت الأطفال في القرى كيف يجرون الجراء مشدودة من أعناقها بالحبال ، وكيف يمسكون الهررة من أذنابها ثم يجذبونها جذبا ويديرونها في قسوة وعنف ، والجراء تئن والهررة تموء مواء المتألم المستغيث ، والأطفال يضحكون لأنين الجراء ومواء الهررة ، والآباء والأمهات يقهقهون لضحكات أطفالهم ؟ إذا فاعلم ياسيدي أن هذه هي المدرسة التى نتلقى فيها أول دروسنا في التعاطف
والمشاركة الوجدانية بعضنا مع بعض ؛ اعلم ياسيدي حق العلم أن قصة الجراء والهررة المسكينة تتكرر حولك مائة مرة في اليوم الواحد ؛ لكنها ليست هذه المرة بين الأطفال من ناحية والجراء والهررة من ناحية اخرى ، فيشد الأطفال الجراء من أعناقها ويحذبون الهررة من أذنابها بل هي الآن بين أصحاب النفوذ - ايا كان نوع النفوذ - وبين العاجزين وأرزاقهم !
إننا يا سيدي أمة تحيا وفق الحكمة التي استنها لها شاعر من شعرائها الأقدمين . وهي " إنما العاجز من لا يستبد ؛ بل إن الشاعر لم يخلق من عنده شيئا ، إنما لاحظ أخلاقنا وسجل ؛ فكم ألف سنة لابد أن تمضي قبل أن يجيء شاعر آخر يلاحظ أخلاقنا ويسجل فإذا ما يسجله هو : " إنما القادر من لا يستبد ؛
كم ألف عام لابد أن تمضي قبل أن يجد الطفل في القرية ابوين يربيانه على أنه لا ينبغي أن يعبث بالام الكلاب والقطط ؟ لو بدأنا هذه البداية ، جاز لنا أن ننتهي إلى أن يعطف الإنسان منا على الإنسان .
لقد تفضل أستاذنا الدكتور أحمد أمين بك فوجه إلي الحديث قائلا : " إن كل مدينة فيها مزاياها وفيها عيوبها ، ومزية المدينة العربية بناء الحياة على العلم ، ومن عيوبها خلوها من الإنسانية احقا ياسيدي أن المدينة العربية قد خلت من الإنسانية ، تلك المدينة التي لا يستطيع الإنسان في ظلها أن يفرك زهرة بين أصابعه على مرأى من الناس ، ولا أن ينزع البذور عن أمها لأنها بمثابة الآجنة التي تضمن
استمرار الحياة ، تلك المدينة التي يستحيل على إنسان في ظلها أن يوقع الأذى بقط أو كلب ، حتى لقد أصبح ذلك " الضعف ، فيهم مصدر كثير من تندرنا وفكاهتنا ؟ لقد وقعت على هذه الصورة التى أنشرها وسط المقال ، في جريدة انجليزية حديثة الصدور ، وهي تصور الشرطي ، قد أوقف حركة المرور حتى يتيسر لإوزة وفراخها أن تعبر الطريق الذي يفصل بين حديقتي سنت جيمس ويكنجهام
) وهما من الحدائق العامة في لندن ( . سيقول القائل ؛ لكنهم أقوام ترعى القطط والكلاب والأوزوتبطش بالأمم . فأقول ردأ على ذلك ؛ إن الفعل الأول صواب والفعل الثاني خطأ ، ولا تذهب السيئة بالحسنة ، وقد شاركناهم في البطش السياسي ولم نشاركهم في العطف على الأحياء . هل كان يمكن يا سيدي لهذا الغرب
أن ينتج ما أنتجه من فنون وآداب لو كان خلوا من الشعور الإنساني ؛ كم عائدا وكم عاملا وكم معدلا في ربوع الغرب لقوم النهار والليل لتخرج لنا ما نخفف به البلاء عن مرضانا ؟ انصف الغرب با سيدي فهو نفسه الغرب قد تركز في قنينة الدواء التي تبعث إلى الصيدلي في لهفة أن يسعفنا بها دفعا للألم .
فقيرة هي تلك النفوس التي لا يستطيع أصحابها أن ينظروا من وراء الأشخاص إلى حيث ظروفهم ، ولو قد فعلوا لاشتد بهم التسامح وشاع فيهم العفو والمغفرة ؛ إنك - كما يقول الشاعر الأنجليزي - لو عرفت كل شئ عفوت عن كل شئ ؛ وهو يعني بذلك أنك لو ألممت بكل الظروف التي تحيط بمن تعده آثما أدركت موقفه على حقيقته بما فيه من
مثيرات ودوافع ، وعندئذ ستراك أميل إلى المغفرة والتسامح . والإثم - كما يقول شاعر انجليزي أيضا من طبيعة البشر ، أما الغفران فمن صفات الله . . لكن أنى لنا العين التى تنظر إلى الظروف خلال الشخص الماثل أمامنا بجسده ؟ أنى لنا العين التي تنظر إلى " ع " - مثلا - فترى وراءه دارا ملئت أركانها وجحورها بالأنفس البشرية المقعدة العاجزة ، كلها تريد منه الطعام والدواء ؟ إن " ع " موظف صغير ، قد يعبس حينا وقد يبتسم حينا ، فإذا ابتسم ابتسمنا
معه ، وإذا عبس زجرناه على عبوسه ، لاننا خلو من النفوس العاطفة التي في مقدورها أن تنظر إلى العابس القانط . فتقول : لعل وراء ذلك ما يغفر .
فقيرة هي تلك النفوس التي تبطش بالأشياء والأحياء بطش الصبيان ، فقيرة - يا ابا العلاء - هي تلك النفوس التى لاتخفف الوطء ، لأنها لا تدري أن أديم الأرض هو من هذه الأجساد .

