الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 585الرجوع إلى "الثقافة"

في ضوء المصباح, 9 شارع الكرداسي

Share

بمناسب انتقال لجنة التأليف والترجمة والنشر إلى دارها الجديدة ، ١٢ شارع سعد زغلول

منذ سبعة عشر عاما ، وفي نحو هذا الموعد من السنة جائني خطاب يفيد بقبولي عضوا في لجنة التأليف والترجمة والنشر ؛ وكان اليوم يوم اربعاء - فيما أذكر - وكنت ما أزال مترع الرأس بالأحلام ، عامر القلب بالآمال الضخام في مستقبل تجيء أيامه مثقلات بالثمر !

قضيت عصر ذلك اليوم قلقا ، أرقب غروب الشمس أو ما بعده بقليل ، لأذهب إلى دار لم أكن قد رأيتها أبدا من قبل ، ٩ شارع الكرداسي ، لجنة التأليف والترجمة والنشر التى أصبحت يومئذ واحدا من ابنانها ! ترى كيف تكون هذه الدار التي تسكنها آلهة الأولى ؟ وكيف يمكن أن أكون واحدا من هؤلاء الجبابرة الذين يقبضون على ناصية الحركة الأدبية في هذا البلد ؟ غدا سنذكر في المحافل كما يذكرون ، وستعرف في الأوساط الأدبية كما يعرفون ؛ أما والله  إنه لحظ موات سعيد أن أجلس حيث يجلسون وأبادلهم الحديث ويبادلون ؛ سيغرقنى أئمة الأدب وأنا بهذه المعرفة مجدود . .

قم الآن واذهب في ضوء النهار ؛ لماذا ترقب ظلمة المساء ؟ لا ، بل اصبر هذه الساعات القلائل ، لا تكن خفيفا أرعن . إنك اليوم عضو في هيئة من أعضائها فلان وفلان وفلان ؛ وأمثال هؤلاء لا يتحركون من دورهم قبل غروب الشمس ، من تظنهم يكونون ؟ أتظنهم من أمثالك لا يعرفون في يومهم فرقا بين ظهر وعصر ومساء ؟ .

وصبرت على جمرات من القلق حتى مضت ساعة بعد الغروب ، وارتديت احسن ما عندي من ثياب ، وذهبت إلي ٩ شارع الكرداسي . كان الليل قد أظلم ، وأنا أعلم من الوصف أن الطريق إلى دار اللجنة يبدأ قبالة قسم عابدين ، فألقيتني هنالك أنحدر في طريق هابط مظلم ، وبعد خطوات قليلة ، رأيت بوابة ضخمة لا تبشر وراءها بعمران ! فتثاقلت خطاي ، أيكون هذا الفناء المظلم بإرباء مهبط الوحي لأرباب الفنون ؟ كلا ، هذا محال ، امض قليلا وستري بناء يلمع بالضوء ، ضوء المصابيح وضوء العلم على السواء ، وسيكون ذلك هو ٩ شارع الكرداسى

لكي ما مضيت عشرين خطوة حتى وجدتني محاطا بسيارات ضخمة قديمة بعضها كامل البناء ، وبعضها منثور الأجزاء.

اللهم إني أعوذ بك من اشباح الشياطين ؛ ماذا عسى هذا المكان أن يكون ؟ ولم أكد أري صورة رجل تنبثق من وراء كومة من العدد القديمة الملقاة حتى بلعت ريقا جافا ، ونطقت بالشهادتين سرا ، ثم حبيت :

- السلام عليكم - وعليكم السلام - أين أجد لجنة التأليف والترجمة والنشر ؟ . - لجنة ماذا ؟ - لجنة التأليف والترجمة والنشر ، أما سمعت بها ؟ - لا والله يا سيدي ، لا تؤاخذني .

- إنها ٩ شارع الكرداسي - شارع الكرداس ؛ اخرج من هذه البوابة التي دخلت منها ، ومل إلي يسارك

وفعلت كما أشار ، وأنظر إلى شارع الكرداسى ، فإذا هو " حارة ، تجمعت فيها ألوان كثيرة من الحياة البلدية ، وأنقل بصري في لمحة من أول الشارع إلى آخره . فلا أجد بناء واحدا يلمع بشيء يمكن أن يكون ضوءا جديرا بأبناء الآلهة ، جبابرة الأدب . .

وبلغت ٩ شارع الكرداسي ، فإذا الواقع يصم الخيال صدمة عنيفة قوية أهاهنا إذا يقيمون قل الحمد له رب العالمين ، لأن ذلك معناه تواضع فيهم ابلغ ريقك الآن رطبا طريا ، واصعد الدرج ، تجد من تجده منهم مستعدا للقاء العضو الجديد في ترحيب كريم ؛ فلا يمكن لساكن هذه الدار أن يأخذه شئ من كبرياء ، خصوصا إذا كان يستقبل زميلا جديدا .

وأخذت أصعد السلم ، فمر بي رجل يهبطه ؛ إنه لم يسأل من ذا أكون ، لأنه بالطبع يعلم أنني الزميل الجديد ؛ صعدت ودخلت مكتبا مقابلا ، وحييت وجلست ؛ ولم يكن في الغرفة إلا رجل يجلس إلى المكتب ووجهه إلى ورق أمامه ؛ لم ينطق كلانا بكلمة مدى نصف ساعة أو نحوها . ولا دخل الغرفة في هذه الفترة إنسان ، فاستجمعت قواي وسألت :

أليس في اللجنة أحد من أعضائها ؟ . - لا ، لكنهم قد يأتون غدا ، الخميس ؛ من ذا تريد ؟ .

لا أريد أحدا بذاته ، ألا عضو في اللجنة جديد ، أنا فلان . - تعال غدا ، وقد تجد بعض الأعضاء .

ومنذ ذلك الحين ، ليثت ما يقرب من سبعة عشر عاما أتردد على هذا البناء ، ٩ شارع الكرداسى . . ولست

أريد أن أفيض القول ها هنا كيف وجدت الزمالة عيرة الأسباب ؛ إن آلهة الأولب لا يهبطون من فمنهم الشامخة بما ظننت من يسر ؛ إنهم أعضاء اسرة واحدة ، لكنهم كجزر الأرخيل ، تقوم كل جزيرة وحدها ويحيط بها الماء من أقطارها جميعا ؛ كلا لم أجد ما أوهمني الخيال عصر ذلك اليوم يأتى واجده ، لم أبادل الأرباب حديثا ولم يبادلوا ،

وجلست معهم لا كما يجلس الزميل مع الزميل ، فكما اصطدم الخيال بالواقع صدمة عنيفة حين رأيت مهبط الوحى لأول مرة : أين هو وكيف يبدو ، كذلك اصطدم الخيال بالواقع صدمة أشد عنفا لما تبينت أن الآرباب أشد من سواد الناس حرصا على أن يظل الأمر بينهم درجات ، فلا يصغر الكبير من أجل الصغير ، ولا يكبر الصغير ليستوي مع الكبير ، وأوشك كل أن يضرب حول نفسه نطاقا من حراس وحجاب ، حتى لا يظن ظان أن الملتقي سهل يسير .

لكي لبثت سبعة عشر عاما اختلف إلي ٩ شارع الكرداسي حتى بات جزءا من حياتي ... الا ما اعجب اختلاط الناس بالبناء ؛ من ذا يستطيع أن يقص قصة حياته دون أن يجد شطرا كبيرا منها مرتبطا بهذا البناء أو ذاك  فمنزل ولد فيه ونشأ بين جدرانه . ومدرسة تلقي فيها العلم وهكذا . إن هذه الجدران الحجرية جزء حي من حياتي ، في هذه الغرفة سلخت كذا ساعة ، وفي تلك الغرفة بذرت بذور هذا المشروع أو ذاك ، وفي هذه الردهة نبتت الفكرة الفلانية لأول مرة ، فكان من نتاجها كذا وكيت . . إني لا أعجب لشعراء العرب أن يقفوا عند الأطلال الدوارس يستوحونها ولأن الأحجار تنطق كما ينطق الأحياء ورب حجر يظل أبد الدهر ناطقا يقص على الناس القصص جيلا بعد جيل ، والناس أنفسهم يحضون إلي حيث يعلم الله ولا يعلم الناس .

٩ شارع الكراداسي بناء قديم كسبح تكاد تقوس جدرانه وتهوي سقوفه . لكنه جزء لا يتجزأ من حياتي

ومن حياة رجال كثيرين ؛ بل إنه جزء لا يتجزأ من تاريخ الأدب المصري الحديث ؛ فكما ترتبط الحركات الأدبية أحيانا بهذا " الصالون " أو ذاك المنتدي ، فسترتبط الحركة الأدبية المصرية من بعض وجوهها بهذا البناء المتهافت . ٩ شارع الكرداسي ؛ ففي حجراته قامت مشروعات وصدرت مطبوعات واجتمعت حلقات الأدباء والمتأدبين يسمرون وينقدون .

لكن دار الزمان دورته ، وضاق البناء على أصحابه . أو قل ضاق أصحابه به . فهجروه منذ قريب إلى بناء آخر أجمل وجها وأفسح صدرا وأرقي موقعا .

وذهبت بعدئذ إلي ٩ شارع الكردسي لأقضي بعض شأني ، فأخذتني وحشة ، لأن المكان قد خلا إلا من المطبعة ترن بأصدائها في البناء الخالي كأنها حشرجة المحتضر ؛ وغدا أو بعد غد تزحف المطبعة إلي مكانها الجديد ، ويصبح9 شارع الكرداسي قطعة من التاريخ ، ومن يدري ماذا

سيكون من أمره بعد ذلك ؟ من يدري ماذا أثبت في أم الكتاب لهذا البناء الذي دوت جنياته حينا من الدهر يجد لا هزل فيه ؛ قد نزول عنه الكتب ليحل محلها أكياس الفحم أو صفائح الزيت ، قرب بيت صار بيتا مرارا ، ضاحك من تتابع الأضداد ! .

ليتني استطيع التفاهم مع هذا البناء الذي هجرناه ، إذا لأرضيته بما أرويه من حق : وذاك أني ذهبت إلي بديله الجديد ، فأحسست برودة عجيبة ندب في عظامي ، ولا أعني برودة الجو ، وإنما أعني برودة الروح ، فأثرت أن اعود إلى العمل في ٩ شارع الكرداسي حتى اللحظة الأخيرة ؛ أين أبن جمال الجسم من خفة الروح ؟ لقد كان سقراط دميم الخلقة ومهبط الحكمة في آن معا .

فلو جاز لصداقة أن تنشأ بين إنسان وبناء ، فلا شك أن صداقة حميمة قد توثقت عراها بيني وبين هذا البناء .

اشترك في نشرتنا البريدية