الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 316الرجوع إلى "الرسالة"

في طرسوس، على قبر الخليفة العظيم

Share

هذه مدينة أذنة (أطنة) قدمتها البارحة وسيمر بها اليوم قطار طوروس السريع ذاهباً إلى الشام ، وهو يمر بها ثلاث مرات في الأسبوع . فإن فاتني قطار اليوم فلا مفر من الانتظار في أذنة إلى السبت . إن هواء أذنة حار ، وليس فيها ما يشغل الزائر ثلاثة أيام فنيم التلبث ؟ إن لى في طرسوس أرباً ولا بد لي أن أزور طرسوس . إنها قريبة بينك وبينها مسيرة ساعة للقطار . ولو كانت بعيدة لما ترخصت في القعود عنها . إن لم يتيسر لى العودة منها قبل موعد القطار فليذهب قطار الأربعاء وليذهب قطار السبت ما عن زيارة طرسوس معدى. إن في القلب الحنيناً إنها ومنيتي وقفة فها :

أأجاوز أذنة صوب الجنوب دون أن أرى طرسوس ؟ أعظم به من عقوق ، وحرمان للنفس مما تمنت سنين طوالاً

وقفة بالعقيق نطرح ثقلاً       من دموع بوقفة بالعقيق

ما شأن طرسوس ؟ ما الذى يشوقني فيها ؟ إنها مدينة صغيرة

كتيبة المنظر ما حببني إليها ؟ الله أى كثر في طرسوس دفين ! وأى تاريخ كبير في تراب هذه المدينة الصغيرة !

حاولت أن أبكر إليها فأعود فأدرك قطار طوروس ، ولكن فاتني قطار ست ونصف من الصباح وكان على أن أختار إحدى النيتين : إما قطار طوروس وإما طرسوس

أخذت القطار إلى طرسوس والساعة ثمان ونصف هذه طرسوس أحد الثغور القديمة بين المسلمين والروم طرسوس التي فتحها الرشيد ومات فيها ابنه المأمون غازياً كمامات الرشيد في طوس ومات ابنه في طرسوس . الله همة أبعدت بهذين السهمين من بغداد إلى طوس وطرسوس . من كان يظن أن الرشيد والمأمون كانا مترفين من أبناء النعمة وأخدان القصور فليمي أن الرشيد كان همة لا تفتر بين الحج والنزو :

فمن يطلب لقاءك أو يرده      ففي الحرمين أو أقصى الثغور

وأن المأمون لم يقعد عن قيادة الجيش إلى ثغور الروم ، وأنه لقى حتفه غازياً فى هذه المدينة النائية طرسوس :

ما رأينا النجوم أغنت من المأ      مون في ظل ملكه المحروس

غادروه بمرصتی طرسوس        مثلما غادروا أباه بطوس

يقول ياقوت :  وينها وبين أذنة ستة فراسخ، وبين أذنة وطرسوس فندق بقا والفندق الجديد . وعلى طرسوس سوران وخندق واسع ولها ستة أبواب . ويشقها نهر البردان .

وما زالت موطناً للصالحين والزهاد يقصدونها لأنها من ثغور المسلمين، ثم لم تزل مع المسلمين في أحسن حال؛ وخرج منها جماعة من أهل الفضل إلى أن كان سنة ٣٥٤ الخ )

كانت طرسوس ثغراً تتكسر عنده زفرات الروم وفى إقليمها غزا أمير العرب وشاعرهم سيف الدولة وأبو الطيب المتنبي

واستولى عليه الروم سنة ٣٥٤ حين مرض سيف الدولة لخربوا مساجدها وجلا كثير من أهلها . يقول ياقوت : ( وملك تغفور البلد فأحرق المصاحف وخرب المساجد وأخذ من خزانة السلاح ما لم يسمع بمثله مما كان جمع من أيام بني أمية إلى هذه الغاية ....

ثم دخلت في حوزة المسلمين حينما امتد سلطانهم على بلاد الروم من بعد

وبعد الحروب الصليبية استولى عليها المصريون ، ثم استولى

عليها بنو رمضان الذين حكموا أذنة وما حولها في القرن الثامن الهجرى إلى أن أديل منهم للعثمانيين

ذكرت كثيراً من وقائع الدهر في طرسوس وذكرت الرشيد والمأمون وسيف الدولة والتنى وقصيدته السينية التي مدح بها محمد بن زريق في طرسوس :

هذى برزت لنا فهجت رسيسا       ثم انثنيت وما شفيت نسيسا

ورثيت للشاعر حين ذكرت أن الممدوح أعطاه عشرة دراهم . فقيل له : إن شعره حسن . فقال : ما أدرى أحسن هو أم قبيح ولكن أزيده لقولك عشرة دراهم

ركبت في طرسوس عربة ومى رفيق من اسكيشهر ، وكان الحوذى يعرف العربية ، ولا تكلم أحداً في هذه النواحي بالعربية إلا أجابك

قلت : أبن منسج راسم بك؟ فذهب إلى معامل عظيمة للنسج لمحمد يك المصرى . ولم أجد البك هناك ولكني رأيت المناسج العظيمة وسرقى ما رأيت فيها وما سمعت

وسألت رجلاً هناك : أعرف قبر الخليفة الأمون ؟ المأمون ابن الرشيد مات هنا ودفن ، فهل عندكم علم عن قبره ؟ قال : لا . ولكن هنا شيخاً خبيراً بالآثار، لعل عنده علما . غاب عني قليلاً، وعاد يصف للحوذى الموضع | إنتهى السائق إلى جامع كبير له سور عال ضخم كأنه أعد للقتال ، وعلى مقربة منه خانات كبيرة ، وبجانبه تكية مغلقة . دخلنا الجامع إلى صحن واسع يحيط به أروقة تمتد على جدار الباب ، وعن اليمين والشمال، وفي وسطه حوض مظلل ؛ ويفصل الصحن والمسجد جدار دخلناه من باب ، ومنه إلى مسجد مستطيل فيه ثلاثة عقود تقوم على صفين من العمد

وفي الجدار الشرقي من المسجد كوة تطل على التكية المغلقة نظرت منها فإذا مصلى مسقوف ، وإذا ثلاثة قبور ، أشار خادم المسجد- وهو حلى الأصل – إلى أقربها إلى الكوة . وقال: هذا قبر المأمون . قلت : أرأيت عليه كتابة ؟ قال : أجل ! وقد سألت ناساً في طرسوس وأذنة ؛ فاتفقت كلمتهم على وصف القبر وموضعه ! وأما المؤرخون ، فقد أجمعوا على أن المأمون دفن في طرسوس . وأخبرني بعض علماء العرب والترك أنهم رأوا القبر وقرأوا عليه اسم الخليفة المأمون :

هنا الخليفة العظيم ! .. هنا الرجل العالم المحب للعلم والعلماء ! ... هنا الملك الصفو الذي قال : لو علم الناس حبى للعفو لتقربوا إلى

بالذنوب ! ... هنا عبد الله المأمون بن هرون الرشيد !

رحم الله أبا العلاء ) :

انتم بنو النسب القصير فطولكم باد على الكبراء والأشراف

والراح إن قيل ابنة العنب اكتفت

باب عن الأسماء والأوصاف

هنا أمير من أمراء المؤمنين يفتخر به تاريخ الإ- الام ، وحق على الأم الإسلامية كلها على اختلاف أجناسها أن تشيد بذكره ، وتعظمه في قبره ! ...

لقد درست قبور الخلفاء والعباسيين في بغداد وسامرا . فلا يعرف لواحد منهم قبر اليوم حاشا قبر هرون الذي طمس عليه عصبة الشيعة في طوس ؛ وحاشا قبر المأمون الذي طمس عليه النسيان في طرسوس أو كاد .

تمنيت أن أجلس إلى قبر المأمون ساعة فأسجل ما توحيه إلى نفسى عظمة الماضى ومصائب الحاضر ، وغير الزمان ، وتقلب الأيام ، وما يبعثه في النفس ذكر المأمون وجواره من وإعجاب ، وفخار وعبرة !

ثم جلست في طرسوس فرأيت مساجد عتيقة ، ولكنى أصغرت كل شيء فلم أبال به بعد أن وقفت على قبر الخليفة الكبير المأمون من الرشيد رحمهما الله !

اشترك في نشرتنا البريدية