قرأت في العدد (٨٧٦) من الرسالة الغراء قصيدة رائعة الأستاذ الأديب محمد سليم الرشدان، وقد أطلعت عليها متأخراً، وهي بعنوان: (في ليلة عيد) ولا أتفق مع الأستاذ الشاعر في قسم مما جاء في قصيدته. والنقد النزيه لا يرتضي الذوق كتمانه، فهو آية التعاون الفكري وسبيل التقدم والقصيدة عدتها خمسون بيتاً كل خمسة أبيات على قافية واحدة. قال فيها:
فأصحابه مسرقات الصفاء وأمساؤه ضاحكات السمر
والذي أدريه أن المساء وقت غروب الشمس والسمر حديث الليل، فكيف جمع الأستاذ بين شيئين متباعدي الزمن. فالسمر لا يكون مساء.
وقال:
تسير الهناءة في ركبه فينهل منها بشتى الصور
أما أن الهناءة تسير معه لينهل منها الشخص المعني بالقصيدة فهذا مما يتسع له الشعر، ولكن قوله: (فينهل منها بشتى الصور) وردت فيه (الباء) زائدة في قوله: (بشتى) والصواب أن يقول فينهل منها شتى الصور؛ لأن نهل لا تحتاج (الباء) وأعيذ الأستاذ أن يقول (فينهل منها بشتى الصور) كما نقول فيشرب منها بالإناء لما في هذا المعنى من تفاهة.
وقال.
ففي أم طفلته ما أفاء عليه الحبور وبرد الحياة
وبرد الحياة من إضافة الصفة إلى الموصوف أي حياة باردة والأستاذ - كما افهم من معاني القصيدة. . . يقصد بها حياة الرغد وليست (الحياة الباردة) حياة الرغد بل هي حياة الضجر والسام
وقال الأستاذ:
وكسر الزمان وئيد الخطى وطفلته شغله الشاغين
وقد مرت عشرة أبيات من القصيدة، كلها في الفرح والحبور فلا نزال في القسم المصور لحياة الرغد؛ إذن فكيف يمر الزمان (وئيد الخطى) وهو لا يمر وئيدا إلا في الأحزان والفجائع؟ وارى أن الصواب. فمر الزمان سريع الخطى كعادته في الأفراح ليسهو الإنسان عن مروره
ووصف الأستاذ فتاة الرجل المعنى بالقصيدة بان والدها أفاض عليها من ضروب النعيم وغمرها بالعطف وتجاوزت (صباها الغرير) فهي تميس في عجب.
وتقبل في خطوات الشباب كظبي تأثره الحابل
والحابل هو ناصب الحبالة أي الشرك وتأثره أي تتبع أثره ولم أجد علاقة بين المشبه والمشبه به؛ فالفتاة أقبلت في شبابها كأنها (ظبي) تتبع أثره الصياد الذي ينصب الشرك، والأثر لا يتبع إلا بعد غياب صاحبه. فلوا اكتفى بما معناه: وكأنها (ظبية) لكان المعنى واضحاً، أما هذه الإضافة: (تأثره الحابل) فهي بؤرة الغموض واللبس، ولا أدري إن كانت الظباء مما يصاد
وقال الأستاذ:
ومرت خطوب تشيب الوليد بما حل من هولها المفزع
فيوم حصاد كيوم الوعيد أقضوا يه ساكن المهجع
ويوماً يساق أباة الرجال إلى محشر دافق مترع
والذي أراه أن كلمة (يوما) في أول البيت الثالث تقتضي قواعد النحو رفعها، فهي ليست منصوبة على الظرفية في هذا الموضع.
وقال الأستاذ:
فشيخ يعض على راحتيه ويندب في القوم صرعى بنيه
والشيخ هذا فلسطيني منكوب بتجبر اللئام؛ ولكن القريض لم يؤد من المعاني ما يرتضيه النقد، فالراحة هي باطن الكف وليس من المألوف أن يعض الإنسان على راحتيه في الأحزان. والمألوف أن بعض الإنسان سبابته من الندم أو الغم (وسبابة المتندم) شهيرة قال فيها الشاعر:
غيري جنى وأنا المعذب فيكم فكأنني سبابة المتندم
ولكن الأستاذ الشاعر في تقديمه القصيدة يقول أنها واقعية فلنصدق
ذلك. أما قوله (ويندب في القوم صرعى بنيه) فلا تدري أهو يندب بنيه الصراع أم يندب من صرعهم بنوه من الأعداء. إن القرينة المعنوية تمنع المعنى الأخير أي يندب الشيخ الصرعى من أعدائه ولكن عبارة الشاعر تتسع لكلا المعنيين.
وقال عن الفتاة:
ولم تك تعلم أن الزمان يداهم بالحادث المطبق
وقوله:(يداهم) خطأ صوابه يدهم فلم أجد فيما راجعت من المعاجم الفعل (داهم) وليس هذا مما يتسع له باب القياس.
وقال:
وأن البلاد انتهت للعدو بكيد امرئ قط لم يتق
وانتهي إليه الشيء أي وصل إليه فأستعمل اللام عوض إلى وهو عوض لفظي مقبول في الشعر ولكن المعنى غير مقبول، فلا يقال.البلاد وصلت إلى العدو لأن البلاد ليس مما ينقل. أما قوله
(بكيد أمري قط لم يتق) فقد ذكرني بشطر ابن جني. (قط لا يدفع عن السبق عراب) عوض قول المتنبي. (غير مدفوع من السبق العراب) ألا قاتل الله مواقف يغلب فيها رصف النحو ملكة الذوق.
وقال:
فيا ليته امتد هذا الرقاد وظلت بافاقه حالمة
فقد جعل ليت اسماً هو (الهاء) وجعل لها أسم آخر بدلا منه هو (هذا) وهو شبيه بلغة (أكلوني البراغيث) . وآفاق الرقاد ليس مما يستسيغه الذوق، وليس كل استعارة سائغة.
وقال الأستاذ في البيت الأخير: -
وبادر عدوك في وكره ... وإلا أرتقب يومك الأغبر!
فقد شبه العدو بالطير على سبيل الاستعارة المكنية بدلالة قوله (وكره) والعدو لا يشبه الطير، وليس في القصيدة ما يدل على أن يقصد الجوارح من الطيور. والتشبيه هذا فيه توهين للهمم من حيث لا يقصد الشاعر. فما دام الشاعر يريد أن يشحذ من همة الشعب المفتخر، فينبغي أن يكشف عن قوة العدو ومكره. وبعد فالقصيدة - على كل هذه ألهناه اليسير رائعة الطلعة كريمة الهدف والعاطفة، فياضة بالشعور الحي، وللأستاذ الشاعر إعجابي بشعوره وصرخته الحارة. الحلة . (العراق)
