الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 692الرجوع إلى "الثقافة"

في موكب العلم, الزراع، تصنيع الزراعة

Share

كان الشغل البدوي في البيت هو الأساس الذي بنى عليه إنتاج السلع فيما مضي إلى أن اخترعت الآلات ونمت قدرتها الإنتاجية بفضل التطور الصناعي ، فتقدم العمل في المصنع وازداد وفاق انتاجه كثيرا الإنتاج الزراعي بأطواره البدائية . ولولا الآلات الحديثة التي امكن بواسطتها وبدون تكاليف باهظة صنع بعض الأدوات التي تستعمل في الحفل لما تأثرت الزراعة بمدى التقدم الذي عم المدن في مائة عام . ولما قامت الحرب الأهلية الأمريكية فرضت الآلات علي

الزراع حيث كانوا يتجنبون العمل بها ، فاستعملوا أداة الحصد الميكانيكية التى كان قد اخترعها رجل يدعي مستر ما كورمك (McCormick ( قبل ذلك بسنوات ولم يتح له استخدامها إلا عندما جندت الولايات الشمالية في جيشها كثيراً من الأيدي الزراعية ولجأت إلى هذا الاختراع ثم تبعتها بلاد اخرى . منذ ذلك الحين فكر الفلاحون في الاستعانة بالآلات ، فبعد أن كان الواحد منهم يمضي طول يومه كاداً في الحقل اتجه إلى الخيل يشدها إلى آلة تقطع القمح وتدرس سنابله ،

كما تحصد محصول اثنى عشر فدانا إلى أربعة عشر يوميا ، وهو عمل يقوم به ثلاثة رجال أو أربعة في العادة ، بينما لو اتبعت الطرق القديمة لما تيسر لسبعة من العمال الزراعيين جني غلة فدانين اثنين في اليوم الواحد . وكان لهذا التطور الزراعي الصناعي اكبر الأثر في تسهيل جني حقول القمح الشاسعة في أراضي أمريكا وأستراليا البكر وبطلت حجة مالنوص (Malthus) في توقع قيام مجاعة بسبب ازديار الصناع في المدن ، لأنه لم يدخل مثل هذه الآلة أو غيرها في حسابه .

ثم جاءت الحرب الكبرى وما استنفذته من قوى بشرية وما فرضته الغواصات من حصار بحري أوشك أن يؤدي إلى حدوث مجاعة ، فخطت الصناعة في بريطانيا خطوة ثانية ، إذ أحلت الآلة ذات الاحتراق الداخلي محل الخيل ، ثم تابعت الولايات المتحدة هذا التقدم ، فأننتجت في عام ١٩٢٢ نحو مائة ألف جرار ميكانيكي Tracior مقابل ٤٥٠٠ في سنة ١٩١٤ . ويوجد اليوم في بريطانيا أكثر من مائة وعشرين ألف جرار ، وهذا قليل من كثير مما أصابته ، وستصيبه الزراعة من تقدم سيجعلها في مستوي أية صناعة أخري .

ومن المنتظر صنع جرارات جديدة لها عدة أجزاء يبلغ ثمنها جميعا مائة وخمسة وعشرين جنبها ، وستستطيع هذه المجموعة من الآلات إنجاز ثمانية أعشار ما يؤدي في المزارع من أعمال ، وقد أنتج فعلا مائة وخمسون ألفاً من هذه الجرارات في الولايات المتحدة ، وكان في برنامج بريطانيا قبل التطورات الدولية الأخيرة صنع مليون جرار وعشرة ملايين أداة زراعية سنويا لتصديرها للبلاد الواقعة في نصف الكرة الشرقي . وفي قدرة المصانع الأمريكية لولا اتجاهها الآن للإنتاج الحربي ، التفوق على هذا الرقم .

وسيشعر المزارع لأول مرة منذ بدء هذا التطور الصناعي أن مستوي عيشه لا يقل عن مستوي زميله ساكن المدن .

وليس في استطاعة العلم بما أوتي من قوة أن يتيح اليوم لأي عامل زراعي أن يعمل بيديه ضعف أو ضعفي القدر الذي كان يعمله أبوه من قبل بل بالعكس فالزارع يرغب

الآن في أن يحل ساعات محدودة مما يؤدي إلى خفض أجره . ومن ثم فالوسيلة الوحيدة إلى زيادة هذا الآجر هي أن يستعين بالآلة في قضاء أعماله موفرا بذلك جهد ستة رجال دون أن يتناول هو أجر أكثر من ثلاثة ، تاركا أجر الثلاثة الآخرين نظير صيانة واستهلاك الآلات .

إن الزراعة ليست مهنة ، فحسب بل هي مهنة فنية للغاية ، وكثير من عملياتها لم تستطع الآلة أن تؤديه بسهولة بعد ، كالحلب وزراعة الفرنبيط والبطاطس ، وجمع الكتان واقتلاع البنجر الذي يستخرج منه السكر من الأرض ، ومعالجة ورش السهاد وتجفيف الحبوب وتنظيف الحقل وعزقه. غير أن هناك أعمالا عديدة أصبحت تنجزها الآلة في الوقت الحاضر بعد أن كان من المسلم به إلى عهد قريب أنها لا تؤدي إلا باليد اسم لعدم وجود هذه الآلة ، وقد نجحت الوسائل الميكانيكية أيما نجاح في تمهيد الأرض للزراعة وفي صيانتها وفي حفر المصارف والقنوات إلي أعماق جيدة ورفع طبقات الأديم المختلفة منها بالأطنان في كل دفعة ،

وهناك آلة لشق المصارف بمعدل ٢٩٧ مترا في الساعة اسمها روتيهو (Roteho ( وقد أخفى الحلفاء سرها عن الألمان عندما اخترعت خلال الحرب حتى لا يستفيدوا منها في زراعتهم .

ولا يخفى أن الآلات الموجودة اليوم بدائية بالنسبة لما سيخترع منها في المستقبل ، فليس هناك ما يدعو سائق الجرار الميكانيكي لأن يجلس أثناء عمله على مقعد غير مريح معرضاً نفسه لشمس محرقة أو للمطر والرياح ، فقد استبدل بمقعد غير مكشوف وزود بمدفأة لاستعمالها شتاء ومروحة صيفاً ،

وقد يزود ايضا بجهاز للراديو ، ويتقدم العلم سيصبح استعمال هذه الآلات في الحقل أقل مشقة مثل مثيلاتها التي تستعمل في المصنع ، فلا يصاب الزارع بمرض المفاصل  (الروماتيزم) أو بغيره من الأمراض بسبب تعرضه للأجواء المختلفة باستمرار ولما كان موسم الزراعة في انكلترا محدوداً بسبب رداءة الطقس الذي لا يمكن التغلب عليه ، فقد كثروا من

إقامة البيوت الزجاجية التي يربى فيها النبات والخضر في جو يمكن تكييفه بعيدة عن الجراثيم (البكتريا) والحشرات ، كما فكروا في تدفئة تربة الأرض بواسطة الكهرباء التي ستكون قيمتها زهيدة عندما تتعدد مصادرها ، وسيروى النبات بالماء المزود بالأملاح المعدنية اللازمة كي ينضر ويزدهر . وبتحسن أنواع المزروعات والحيوان ستزداد غلة الفدان وتكثر المواد الغذائية بما فيها اللحم وغيره كالصوف .

وبتطبيق نظرية الدكتور فورونوف  ( (Voronoff أمكن الإكثار من سلالات الحيوان الأصيلة دون نسبة تذكر في الوفيات إلي أن يستغني نهائيا في المستقبل عن الأنواع الأخرى الضعيفة .

وما كل هذا إلا خطوة أولى من مراحل التطور الزراعي ؟ فهناك غير التحسن المستمر في أنواع الخضر وتطعيم الفاكهة الموجودة الآن ومضاعفة حجمها أحياناً تعمل تجارب عديدة لاستنباط أنواع جديدة من الفاكهة .

وقد استخدم بعض البلدان الطائرة في الضيعات الكبيرة وفي أغراض زراعية هامة كنقل بذور  (تقاوي) البطاطس سنويا من انكلترا إلى قبرص ومالطة ونيجيريا وغيرها من الجهات التي تزرع فيها - وفي عملية تهجين الحيوان ، إذ بواسطنها أصبح في الاستطاعة أن تجمع بين أحد ذكور حيوان ما في بريطانيا مثلا وبين أنثي من جنسه في الاتحاد السوفيني أو في امريكا الجنوبية لتحسين النوع - وفي بذر البذور في مساحات واسعة من الأفدنة في روسيا عندما يبدأ الصيف وتكون الأرض صالحة لهذه العملية خلال أيام قليلة محدودة ، وهي طريقة أكثر فائدة وأصلح من الناحية الفنية حيث تكون الأرض لا تزال مبللة بعدو بها ولا يمكن مرور الآلات الميكانيكية فوق سطحها - كما استغنت الولايات المتحدة بالطائرة  (يقودها رجل بمفرده) في تعقير عشرات لأفدنة بالعقافير المبيدة للحشرات في ساعات قليلة ، عن عدد من الرجال يؤدون عشر مقدار هذا العمل في نفس المدة . وسوف لا تكون مزرعة الغد مجرد مجموعة من مبان جميلة في صورتها يغلب عليها طابع القذارة وتحوطها الأوحال كما نعرف ، بل ستتكون من مسكن صحي ومكتب ومصنع

معدة جميعها بآلات توفر كثيرا من الجهد الإنساني بفضل الكشف العلمي الحديث . وسيكون هناك أيضا آلات دقيقة غاية في الدقة منها ما يستعمل للتخلص من الآفات وما يساعد على تجفيف الحبوب وتخزينها في صوامع هواؤها مكيف ، وما يستخدم في التنبؤ بالتغيرات الجوية ، فتحمي البساتين من الصقيع من تلقاء نفسها ، وتبخر الماء في الجو ثم تنزله مطرا صناعيا (١ ) في الوقت المناسب لري الحدائق التي تزرع فيها الخضر والفاكهة لتثبت محصولين في العام بدل محصول واحد .

وستزود المزرعة بجاراج به عشرات الآلات التي تقوم بجميع أعمال الزراعة . كما سيزود معمل الألبان بالآلات الكهربية لتؤدي كل صغيرة وكبيرة فيه . وسيلحق بها معمل صغير لتحليل تربة الأرض وعمل الاختبارات اللازمة على البكتريا والحشرات .

وسوف لا يكون الزارع في بلاد الغرب ذلك الرجل الأحمر الوجه الملىء الجسم الذي لا ينقطع عن شرب الخمر ولا يعرف كيف يبيع محاصيله إلا بالمزاد في الأسواق المحلية ، بل رجلا مدريا يحصنه العلم ويحميه .

وقد يقول كثيرون من هؤلاء الفلاحين : ما لنا وهذه الصورة المثالية ؟  أننا نفضل العودة إلى ما كنا عليه في عام ١٩٣٩ . ولكن كيف السبيل إلى ذلك والعالم كله يتقدم وأنهم هم أنفسهم يتمنون أن يروا الفلاح أحسن حالا سواء كان في الحقل وجهده المضي أم في حياته الخاصة المثقفة .

وكم من غني يهوي ركوب الخيل ولكنه لا يود بأي حال أن يخاطر بنفسه في السفر من بلد إلى آخر في عربة تجرها الجياد قاطعة المسافة بين البلدين في أكثر من أسبوع كما كان يفعل أسلافه ، بل هو يفضل السفر والانتقال بالطائرة وبالقطار السريع والسيارة . وهكذا يتوق الفلاح في الغرب إلى استعمال الآلات الحديثة مع احتفاظه بريفه القديم .

اشترك في نشرتنا البريدية