نشأت عادة التدخين منذ القدم بين السكان الأصليين لجزر الهند الغربية - ويرد ذكر التبغ في التاريخ القديم لأمريكا الجنوبية ، إذ كان الهنود الحمر يستعملونه . وهم الذين قاوموا المستعمرين الأسبان منذ أكثر من أربعة قرون - كانوا يمضغون التبغ كما كانوا يدخنونه ، وطريقتهم في ذلك انهم كانوا يعدون النار ويلقون بها أوراق الطباق الجافة ، ثم يستنشقون دخانه بواسطة غاية ذات طرفين يضمون أحد طرفيها فوق الأوراق المحترقة ويضعون الطرف الآخر قريبا من فتحتي الأنف - وكانت تلك الطريقة هي أفضل الطرق لديهم للحصول على النيكوتين الذي يحتويه
التبغ . وقد وصف شاهد عيان تأثير استنشاق النيكوتين على شخص خامل كسول فقال : طالما لاحظت أثناء أسفاري أن لطريقة التدخين هذه اثرا غير عادي على المدمنين عليها . وقد أفز عتني النتائج إذ أن المدخن بعد أن يأخذ نفسا قويا تصيبه رعدة كتلك التي تصيب الواقع في نوبة صرع أو شلل وما يلبث أن يسقط فوق الأرض فاقدا كل وعي ، بينما يعبر وجهه وعضلاته عن منتهى الآلم . وقد ذكر البحارة الذين بعث بهم كولومبي لا كتشاف جزيرة كوبا وارتيادها في سنة ١٤٩٢ ، أن أهل هذه الجزيرة يحملون معهم آلات التدخين ويخرجون الدخان من أنوفهم وأفواههم ، كما
ذكروا انهم رأوا هؤلاء العراة المتوحشين يلفون أوراقا كثيرة بعضها فوق بعض ويدخنونها كما تفعل الشياطين ويؤدي هذا الوصف المختصر إلى معرفة مصدر تلك العادة السيئة التي انتشرت في جميع أنحاء العالم .
إدخال الطباق إلى البلاد المتمدينة :
* عرف الطباق بإنجلترا بعد اكتشاف أمريكا بوقت قصير ، وأول من ادخله إليها هو " السير جون هاوكنز " في سنة ١٥٦٥ وقد حض " السير وانثر والملي " على استعماله كما حبذ استعماله كذلك " السير فرانسيس دريك " هو ورفاقه عقب عودتهم من فرجينيا إلى انجلترا في سنة ١٥٨٥ ووصفوه علاجا لعسر الهضم ، وازداد استعماله تدريجيا واتخذه البعض دواء واستعمله البعض الآخر في التدخين اعتقادا منهم بتأثيره المحمود على الجهاز العصبي .
الجهود التى بذلت لمقاومة عادة التدخين والقضاء عليها :
ظهرت النتائج السيئة المترتبة على التدخين بمجرد زيادة انتشار هذه العادة وتهديدها حياة الشعوب . وقد بذلت لمقاومتها جهود صادقة ، ففرض الحكام والولاة عقوبات صارمة للمدمنين عليها ، وكانت تعد في بعض البلاد جريمة من الجرائم وينبذ المدمنون عليها من المجتمع - وقد حرم دوق موسكو استعمال الدخان في دوقيته وفرض عليها عقوبات أشدها الإعدام ، ويصف دخول هذه العادة بذوقيته فيقول : " إنها لم تدخل بواسطة ملك عادل أو فاتح قاهر أو طبيب ماهر إنما ادخلها المتوحشون ودخلوا معها وكان ضررها منصبا على الفقراء بوجه خاص ، وقد اندثر هؤلاء ، المتوحشون وقضى الموت عليهم ولكنها ما زالت قوية باقية " .
وقد حرم أحد سلاطين تركيا دخول الطباق إلى مملكته وكان يقضي بالاعدام على كل من يقبض عليه متلبسا بجريمة التدخين . وناشد " جيمس الأول " ملك انجلترا وطنية شعبه لكي يهجروا عادة التدخين المرذولة فقال : " مواطني الأعزاء - أناشدكم أن تستجيبوا لرجائي - دعونا نبحث عما يدفعنا إلى الاقتداء بهؤلاء الهنود الوثنيين سيئي الخصال فيما يذهبون إليه وأخذهم لهذه العادة الوحشية القذرة .
وهل نكون مثلهم ونحن الأثرياء المسلمون وقت السلم النابهو الذكر المكللون بالنصر وقت الحرب السعيدو الحظ في كلا الحالتين ، نحن القادرون دائما على مديد المساعدة إلى جيراننا ، هل نسير نحن وهذه حالنا من القوة والثراء ونباهة الذكر وراء هؤلاء البرابرة الذين هم كالأنعام أو أضل سبيلا ، إنهم عبيد الأسبان حثالة العالم . أتسيرون وراءهم وتتخذون عاداتهم المرذولة عادات لكم ، وبذلكم تصيرون موضع احتقار جميع الشعوب وموضع ازدراء الأجانب الذين يبجلونكم وينزلون ضيوفا بينكم - إنها عادة تجلب اللعنة والاحتقار . وهي جد مؤذية للعين كريهة إلى الأنف ضارة بالمخ خطيرة على الرئتين ، إلهي ! ما أقبح هذا الدخان الأسود المتصاعد من المدمن عليها كأنه دخان الجحيم ! "
والحكم الآتي نصه أي شخص يضبط في الطريق العام متلبسا بتدخين التبغ يغرم أربعة شلنات في كل مرة " .
قد أصدرته محكمة متوولد بانجلترا في سنة ١٦٩٥ . وبرغم هذه الجهود الأولى التي كانت تبذل للحد من عادة التدخين والقضاء عليها ومنع انتشارها ، كان شان هذه العادة أي مصيرها - شأن كل رذيلة تنتشر ويزداد انتشارها يوما بعد يوم ولا يقتصر شرها اليوم على الرجال فقط ، بل يمتد إلي الشبان والغلمان والنساء أيضا .
انتشار عادة التدخين
قد أتى على الناس وقت كفوا فيه عن محاربة التدخين وعن إذاعة ما يسببه استعمال التبغ من عواقب وخيمة ، فكثر المدمنون عليه ، وهم يجهلون تلك النتائج ويجهلون طبيعته الخطيرة الضارة - وما انتشر الإجرام في العالم وعمت الأمراض وانتاب الناس كثير من الأدواء حتى هب الأطباء والعلماء ورجال الدين يحثون الناس علي بحث أسباب هذا الفساد العالمي ، فوفق الناس إلى العلم بأن للتبغ أثرا كبيرا فيما ينتاب الناس من البلاء ، وتيقنوا أن ما كان ينسب من قبل إلى أشياء خلاف التبغ مرده في الحقيقة إلى التبغ نفسه ، وظهر أن أثر التبغ يشتد وتظهر نتيجته على الجيل الثالث أو الرابع من نسل المدمن عليه .
ويعد التدخين في الوقت الحاضر عادة عالمية ؛ فهو ذائع في جميع أنحاء العالم ، وهو أشيع ما يكون في الصين واليابان وسيام ، وفي بورما تخرج الأم مضغة التبغ من فمها لتضعها بين شفتي ابنها الرضيع ، وفي نيوزيلندا يدخن جميع سكانها الطباق ، لا يستثنى منهم في ذلك صغير أو كبير ، وطني أو دخيل ، وحتى أقزام أواسط أفريقيا يداومون التدخين .
وتبلغ كمية التبغ المستهلكة سنويا في الوقت الحاضر مبلغا عظيما يستدعى الانتباه ، وقد زادت هذه الكمية بعد الحرب الأخيرة ، كما حدث عقب حرب سنة ١٩١٤-١٩١٨ . وبرغم انتشار البؤس والفاقة ونقص كثير من ضروريات الحياة ، فإن كثيرا من الأمم قد بذلت جهودا طائلة لسد حاجة مدخني التبغ فيها ، وقد زاد عدد السيدات المدخنات زيادة ملحوظة ، كمازاد عدد المدخنين من الغلمان والمراهقين . كما أن الحرب قد غيرت العادات الخاصة بالتدخين ، وترى اليوم أقلية من الناس تدخن السيجار والغليون ، والغالبية تدخن السجاير ) انظر مقالنا عن محصول التبغ في بلاد اليونان في العدد رقم ٥٩٦ من هذه المجلة ( .
ولقد قاومت انجلترا انتشار عادة التدخين في بلادها في بادئ الأمر . ويدل القسم التالي على مبلغ انتشار هذه العادة بين النساء ومدى مقاومة الحكومة والجمعيات لها ، وقد وضعت هذا القسم إحدى الجمعيات بمدينة ليدز ، وحملت أعضاءها من الرجال والنساء على تلاوته والتعهد بالعمل بما جاء به :
" أتعهد بعون الله تعالى ومشيئته أن امتنع عن شراء التبغ أو استعماله بآية صورة كانت حتى أبلغ الحادية والعشرين من عمري على الأقل ، وليس هذا مراعاة مني لمصلحتي الخاصة فحسب ، بل مراعاة لمصلحة وطننا العزيز أيضا " .
وكانت السيدات في بادئ الأمر يدخن التبغ خفية ، وما لبثن طويلا حتى صرن يدخنه جهارا ، وكن من قبل هن العنصر المصلح للنسل دون الرجال الذين افسد التبغ حالهم ، وما انغمس النساء في التدخين وأفرطن في تناول المسكرات ، سالكين في ذلك مسلك الرجال ، حتى عم النسل
الفساد وانحط مستوى الذكاء واعتلت الصحة وقوة البنية
وفي مصانع الدخان بمدينة فينا ، حيث تعمل غالبية من النساء كان للتبغ أثر كبير فيما انتاب كثيرات منهن من العقم - وقد ذكر الدكتور " مونرل عن حالة النسوة اللائي يعملن بمصانع الدخان بمدينة نانسي أن نسبة الوفيات بين أطفالهن الرضع بلغت ٩٩ % عندما كن يعدن إلى العمل بعد الوضع مباشرة ، في حين أن نسبة وفيات الأطفال الذين ترضعهم أمهاتهم غير العاملات بمصانع الدخان لا تتجاوز ٣٩ %
الاحكام التي سنت لمنع التدخين :
سنت انجلترا الأحكام التي تمنع من بيع التبغ للشبان وقضت باعتبار قيامهم بالتدخين جريمة يعاقب عليها أشد عقاب . وكذلك سنت كندا مثل هذه الأحكام ؛ فحذرت بيع الدخان وصنع السجاير وبيعها ، كما حرمت استيراد الدخان خاما وتصديره مصنوعا . وفي بعض الولايات الأمريكية كانت الأحكام تقضي بفرض غرامة تتراوح قيمتها بين خمسة دولارات وخمسمائة دولار على كل مدخن للسيجار وبالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر ، وكان المبلغ عن كل مدخن يعطى نصف الغرامة المحصلة تشجيعا للتبليغ عن المجرمين . وفي ولاية أخرى من ولايات أمريكا كان العقاب يوقع على كل من يعطى أو تكون في حوزته سجاير أو أوراقها .
وسن في اليابان تشريع يحرم التدخين على من هم دون العشرين ، ويقضي بتوقيع غرامة على الآباء أو الأوصياء الذين يسمحون لمن تحت ولايتهم بمخالفة هذا القانون ، كما كان يعاقب بائعو الطباق الذين كانوا يبيعونه إلى من هم دون العشرين من الشبان مع علمهم بذلك .
وفي بعض الممتلكات البريطانية كانت سن التحريم تتقدم إلى أقل من العشرين ؛ ففي كندا كانت الثامنة عشرة هي سن التحريم . وفي أوتاريو كانت السادسة عشرة هي هذه السن ، وكذلك كانت في نيويرونسويك وكيويك ونوفاسكوشيا وفي جزيرة البرلس إدوارد وفي كولومبيا البريطانية .
وفي مستعمرة الكاب سن قانون نصه ما يلي :
" يحرم قانونا على أي تاجر أو بائع أن يبيع أو يورد أي نوع من أنواع التبغ أو السيجار أو السجاير لأي شخص لم يبلغ السابعة عشرة من عمره دون أن يقدم إليه طلب موقع عليه من والده هذا الشخص أو الوصى عليه أو مخدمه ويكون معروفا لديه ، وكل من يخالف أحكام هذا القانون يكون عرضة لغرامة لا تتجاوز ٢٥ دولارا لكل مخالفة ، وعند عدم الدفع يحبس مدة لا تزيد على شهر " .
وصدر قانون بمقاطعة نيو سوت ويار باستراليا ينص على ما يلي : - أي متعامل بالتبغ أو السيجار أو السجاير . وأي بائع للطباق مرخص أو غير مرخص ، يكون عرضة لدفع غرامة لا تتجاوز ٢٥ دولارا إذا ثبت أنه أعطى شخصا يبلغ حقيقة السادسة عشرة من عمره أو يبدو أنه قريب منها تبغا بأية هيئة أو سجاير أو سيجار " .
وقد لجأت سويسرا إلى سن أحكام أشد صرامة مما سنته غيرها من الأمم ، فقد حرمت التدخين على الغلمان إطلاقا ، وقضت بأن الغلام الذي يرى مدخنا بالطريق بقبض عليه حالا ويغرم أو يحبس .
الاثر السئ للدخان على الصحة والاخلاق بشهادة الاطباء :
مهما قيل عن الآثار الضارة المترتبة على استعمال الطباق فعندي أن ما يقال في هذا السبيل لا يعدو وصف الحقيقة بحال ، فإن التبغ أشد ضررا بالصغار ، ومبلغ ضرره ووخيم عاقبته لا يستطاع تقديرهما بالتحديد ، وقد لوحظ أن المدمنين على التدخين لا يمكن أن يعتمد عليهم ، وهم لا يتورعون عن فعل المنكر ، والخداع والكذب والسرقة من أخص صفاتهم شأنهم في ذلك شأن صرعى المورفين والأفيون ، ومامثل التبغ إلا كمثل الكوكايين والمورفين ، يبلد الشعور الأدبي ويخدر المخ والأعصاب ويحل الجسد كله ، وهكذا يصيب ضرره الإنسان عقليا وأدبيا . وقد أجرى الدكتور " كلنتون " عضو مجلس التعليم بمدينة سان فرانسسكو دراسة خاصة على تأثير السجاير على المراهقين ، وانتهى إلى النتيجة الآتية التي ضمنها تقريره الآتي : -
" لقد رأيت غلمانا نابهي الذكر أصحاء قد تحولوا إلى بلداء أغبياء وإلى جبناء خائري العزيمة ، وذلك نتيجة إدمانهم على التدخين . واستطرد يقول : إنه لا يبالغ فيما يقول ، بل هو يتحرى الحقيقة ولا ينطق عن الهوى ولا يذكر إلا الصدق الذي يعلمه كل معلم وطبيب " .
ويذكر الدكتور بريمر " طبيب مستشفى الأمراض العقلية ما يلي : " إن استعمال التبغ بين الصغار يؤدي إلى انحلال الأخلاق ، ويؤدي انتشاره بين الكبار إلى أمراض العقل واعتلال الصحة . ويذكر الدكتور سوللي " الطبيب بمستشفى سان توماس بانجلترا ما يلى : -
" إن لى دراسة طويلة وخبرة كبيرة بالأمراض العقلية وأنا جد مقتنع بان التدخين هو أرذل عادة في الوجود ، ولا أعرف شيئا آخر أو عملا سواء يسبب الأمراض العقلية . وورد في التقرير الذي صدر بإيرلندا عن مصحات الأمراض العقلية أن نسبة عدد المصابين بهذه الأمراض إلى عدد السكان بلغت ١٥ في كل عشرة آلاف في سنة ١٨٥١ . في حين أنها بلغت ٥٦ في كل عشرة آلاف في سنة ١٩٠١ . ولا ريب أن سرعة انتشار الامراض العقلية ليست مقصورة على إيرلندا فحسب بل هي عامة بالعالم اجمع ، ويذكر الدكتور " فوربس ونسلو " الطبيب الإنجليزي الثقة في الأمراض العقلية العبارة التالية : -
" إذا قدر للأمراض العقلية أن تستمر في الزيادة كما هو شأنها الآن ، فإنما هي مسألة وقت لكى يصبح عدد المرضى أكثر من عدد الأصحاء ، ولا شك أن التبغ يلعب دورا هاما في هذه الزيادة تبعا لتأثيره الضار على المخ .
وتأثير التبغ على المواهب العقلية أمر مفروغ منه ، شهد به الأطباء والمعلمون ورؤساء العمل بالمصانع ، فقد تيقنوا أن الشبان الذين يدمنون على التدخين لم يظهروا أى تفوق في دراساتهم ، ولم يمكن الاعتماد عليهم في أي عمل يوكل إليهم ، مما دعا كثيرا من الجامعات والمعاهد إلى تحريم التدخين على طلابها .

