الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 674الرجوع إلى "الثقافة"

في موكب العلم, فكرتان . . باستير . . وارليخ

Share

في السابع والعشرين من ديسمبر عام ١٨٩٢. أقيم  احتفال كبير في باريس . فازدحمت القاعة الكبرى فى  السوربون الشهيرة ازدحاما شديدا. ذلك أن جمهورية  فرنسا وعلماء العالم كانوا يحتفلون بعيد ميلاد لوى باستير  السبعين. وقد حضر وزراء وسفراء وأعضاء البرلمان  الفرنسي ومندبون من الخارج وعلماء مشاهير ليقدموا إليه  احترامهم. وكان مساعدو باستير وبينهم بير أميل رووجول  بورديه وشارل تشايدلاند وإيلى متشنكوف . يحتلون مقاعد  الشرف، وكان باستير ذلك الرجل القصير الملتحى بشعره  الرمادي وملامحه المتعبة بالغ التأثر . وقد اهتز ذلك الرجل  الذى لا يكاد يقوى على الكلام لمرضه . من فرط التأثر حين  قام رجل شيخ يقرب عمره من عمر باستير نفسه ليخطب  في الحاضرين . وكان ذلك الرجل ذو الملامح التى تدل على  التميز والشعر المموج والسوالف الثقيلة هو الدكتور  جوزيف ليستر الجراح الإنجليزي الشهير.

قال لباستير : " لقد بددت الغموض الذي أحاط بالأمراض المعدية قرونا عدة" فقام باستير على قدميه بمشقة واحتضنه، ولم يستطع باستير أن يلقي خطابه ، فقد أصبح صوته الذي كان قويا آمرا ، ضيفا واهنا ، فقرأ ابنه رسالته : " سواء كانت الحياة تؤيد مجهودنا أولا ففي وسعنا أن نقول حين تقترب من الهدف الأعظم : لقد بذلنا ما نستطيع " .

وكان هذا المشهد الحزين مؤثرا ، فها هنا رجلان قائلا جنبا إلى جنب من أجل العقائد ذاتها ، وقد اضطهد كلاهما وتعرض للنقد ، ولكنهما انتصرا ، فوضع احدهما أسس علم البكتريولوجيا - فإن باستير هو الأب المعترف به وخالق ذلك الفرع من فروع العلم - وهو رجل تفوق خدماته

للإنسانية كل تقدير، وأرسي ليستر أسس ذلك العلم التطبيقي على المطهرات ، فقد كان أول من أشار باستعمال المطهرات للجروح والإصابات ؛ وبينها كان تقدم البكتربولوجيا سريعا وباهرا كان نمو علم المطهرات بطيئا وأليما . وكانت النتائج التي وصل إليها في بعض الأحيان سطحية وأحيانا متناقضة .

ففي عام ١٨٦٧ نشر ليستر الذي كان في ذلك الحين أستاذ الجراحة في جامعة جلاسجو في الجريدة الطبية البريطانية بحثا بدأ في ذلك الحين انقلابا عنوانه " في مبدأ التعقيم في ممارسة الجراحة " وقد كتب ليستر في مقدمته " عندما أظهرت بحوث باستير أن قدرة الجو علي تلويث الجروح تعتمد لا على الأكسجين أو أي غاز آخر بل على كائنات دقيقة معلقة فيه تعتمد في نشاطها على حيويتها ، بدا لي أن التعفن في الجزء المصاب ربما امكن تجنبه دون استبعاد الهواء ، وذلك بأن نضع كضمادة مادة لها القدرة على القضاء على حياة هذه الجسيمات السابحة . . " ثم وصف بالتفصيل كيف نجح في أن يحتفظ بالجروح نظيفة غير ملوثة .

قد راعته وهو الجراح العظيم والرجل ذو البصيرة ، نسبة الوفيات العالية بين المرضى الذين يحتازون العملية الجراحية بسلام ولكنهم يموتون نتيجة تسم الدم ، وقد اعجب بأعمال باستير وقرر أن يطبق اكتشافات العالم الفرنسي وقد آمن دون تحفظ بأن تلوث الجروح والكسور تسببه المكروبات رغم أن ما كان معروفا عن الجراثيم المسببة للمرض كان قليلا ؟ وقد فكر : لو استطعنا أن نبعد عوامل التلوث العجيبة عن جسد الإنسان لأمكن للجروح أن تلتئم دون تأخير أو مضاعفات مؤلمة .

ولكن كيف الوصول إلى هذا الغرض ؟ كيف نجعل الجروح بمنأى عن الجراثيم الضارة ؟ ذات يوم وجه كثير من أصدقائه نظره إلى مقالة في مجلة عن استخدام حمض

الـكربوليك ( الفنيك ) لتطهير المواد البرازية في كارليل ، وقد سرّ ليستر ، فإذا كان حمض الــكربوليك يمنع التعفن فقد ينفع أيضاً مطهرًا للجروح ، ولذا قرر أن يستخدم هذه المادة فى جراحاته .

ولكى يزيد من نفع هذه الطريقة ويتيقن أن أى مكروبات لن تلوث الجروح استخدم ليســتر محلول حمض الــكربوليك على نطاق واسع ، فلم يقتصر الأمر على غسل جلد المريض ، بل غسل أيضاً الآلات والضمادات والأربطة وغمسّها فى هذا المحلول ، كما تلقت أيدى الجراح حماماً من حمض الــكروبوليك قبل العملية ، وقد أثمرت هذه الطريقة -التي تعتبر اليوم مبالغاً فيها وغير مثالية تماماً - نتائج سريعة ، فقد انخفض عدد حالات التلوث عقب الجراحات وبالتالى عدد الوفيات عند ليستر بطريقة معجزة من خمسين إلي عشرة فى كل مائة ؛ وكانت كل حالة جراحية تتخذ فيها الاحتياطات في التطهير تجعل ليستر أكثر اقتناعاً ، فدافع عن استخدام حمض الكاربوليك في الجراحة بحماس جعل كثيرين غيره من الجراحين يستخدمون طريقته بعد قليل ؛ وقد ظل حمض الــكربوليك يستخدم على نطاق واسع فى الإصابات ، بل وحاولوا أن يستخدموه كمطهر داخلى بحقنه تحت الجلد ، واحتل مركز الصدارة فى الجراحة أكثر من عقدين من السنين . ولم يكن ليستر أول جراح استخدم حمض الــكربوليك فى حجرة العمليات ، فقبل ذلك بأعوام قليلة بحث الدكتور ﭼورج ديكلات الجراح الفرنسى خواصه المطهرة لا فى الجراحة فحسب ، بل فى علاج كثير من الإصابات الموضعية في الجلد والحنجرة أيضاً ، بل لقد نشر بحثاً شاملاً فى هذا الموضوع عنوانه ₍₍ استخدامات جــديدة لحمض الفنيك في الطب والجراحة ١٨٤٦ ₎₎ ولــكن ليستر هو الذى استطاع بإقدامه العظيم وإيمانه المنطلق بالإضافة إلى قدرته العجيبة على الإقناع ، أن يجعل هــذه الطريقة تتبوأ مركزها كخطوة لا غني عنها فى كل عملية جراحية ؛ فإليه يجب أن يرجع الفضل في إنشـاء ذلك الفرع من فروع العلوم الطبية : الجراحة التطهيرية .

ورغم أن حمض الــكربوليك كان ذا أثر في الجراحة فقد ظهرت نواحي قصوره كمطهر شيئاً فشيئاً . فبتقدم الطرق البـــكتربولوجية ثبت أن حامض الــكروبليك الذى يضر محلوله الذي يحتوى على ٣ ⁒ بالأنسجة الحية إلى حد ما ₎₎

غير قادر على قتل كل الجراثيم ، وبدا جليا أنه لا يمكن اعتبار هذا المحلول مطهراً مثالياً حتى للاستعمال الخارجى .

واقترحت مواد ومركبات كثيرة ، وجربت واستخدمت بعد ذلك ونالت درجات مختلفة من النجاح ، ولــكن واحدة منها لم تستوف شروط المطهر المثالى ؛ فبينما كانت محاليلها المخففة إلى حد كبير قاتلة للجراثيم فقد كان الــكثير منهــا ضاراً أيضاً إلى حد ما بالأنسجة الحية ؛ ورغم أن بعض هذه المطهرات واسع الانتشار إلى اليوم فإنها كلها في حقيقة الأمر سامة للجسم البشري إذا كانت مركزة إلى الدرجة اللازمة لقتل الجراثيم ؛ ولهذا السبب فلا يمكن حقن أى واحد منها في الجسم كمطهر داخلي ، ولــكن بمضي الأعوام ازداد شوق علماء الطب إلى أن يجدوا مادة تثبت عن جدارة أنها المطهر الداخلى الناجح .

وفي الوقت الذي كان ليستر يضع فيه أسس استخدام المطهرات في الطب وخطا بالفعل الخطوة الأولى في اتجاه العلاج الكيميائي ، كان العالم العلمي في أوربا يعاني اضطرابا ، فقد كانت نظرية التوالد الذاتي ما تزال تسيطر على عقول الثقات من رجال الطب الذين يدافعون عنها بحماس ويحمونها في غضب من تلك الجماعة الصغيرة من المجاهدين وعلى رأسهم ليستتر وباستير وتندول . فحتي في عام ١٨٦٧ حاول هالير من جينا أن يثبت أن الفطر يمكن تحويلها إلى بكتريا ، مستخدما ملاحظاته كشاهد على نظرية التوالد الذاتي . وكانت أعمال باستير ودي باري وروبرت كوخ دون غيرها هي التي وجهت الضربة الأخيرة إلى تلك الخراقات الدينية التي نشأت في الأيام السوداء في العصور الوسطى .

وما كاد العلم يتحرر نهائيا من تأثير هذه النظرية حتى مضي تقدم البكتريولوجيا في سرعة عجيبة ، والآن إذ عرف العلم طريقة عزل البكتريا وزرعها تركز اهتمام باستير ومساعديه على السؤال الأساسي ، كيف يمكن للكائنات أن تحمي نفسها من الجراثيم المهاجمة ؟ فكان باستير وقد صار الآن رجلا شيخا يهتم بشقا الحيوانات المختلفة من الأمراض ، وكان يعجب كيف يمكن أن يزيد المرء من مقاومة الحيوان والإنسان للجراثيم المسببة للمرض ؟ وكانت تجربته الأولى في هذا المضمار أن يحقن الأفراخ بمزارع قديمة فقدت نشاطها من كوليرا الدحاج بحيث تستطيع الكائنات أن تحمى نفسها

منها بنجاح اكثر ، فكان مرض الفرخ الصغير المحقون خفيفا وسرعان ما شفي من مرضه . فسمى هذه المزرعة المنهكة "الفيروس المخفف" وأدرك علي الفور أساس هذه العملية وهي إيجاد مناعة ضد هذه الجراثم ، وحمي هذه المزارع المنهكة بالطعم ، وبعد أعوام قليلة استحدث " فيروسات مخففة " ضد مرض الكلب ؛ لكن كيف يحمي الكائن الحي نفسه من الجراثيم المهاجمة ؟ ما هي أسس الحصانة ؟ وما هي طبيعتها الحيوية ؟ لم يجب باستير بنفسه على هذه الأسئلة ، ولكن تلامذته بورديه ومتشنكوف ورو وبسركا أولوها عظيم  عنايتهم ؛ وقد لاحظ متشتكوف أثناء دراسته لبرغوث الماء العادي المسمي " دافينا " ظاهرة عجيبة ، فعندما حقن في جسم ذلك البرغوث بعض الجراثيم الشبيهة بالفطر لاحظ أن جسم البرغوث ، قد حمي نفسه ، بأن أرسل خلايا صغيرة متحركة لتهاجم الجراثم ، وقد استمر في هذه التجربة مستعملا الفئران والضفادع . فوجد نفس الحرب الوحشية بين المهاجمات - الجراثم - وبين الحاميات ، تلك الخلايا المتحركة ، فإذا لم تكن البكتريا كثيرة العدد شديدة القوة سقطت حريقة تحت أقدام الحاميات وابتلعتها حارسات الجسم المتحركة ، وقد سمي متشنكوف هذه الخلايا الدقيقة بالخلابيا الملتهمة ، وبدأت نظرية الالتهام هذه تحظى بالقبول كمظهر صحيح من مظاهر نظام الدفاع الطبيعي للجسم الإنساني أو الحيواني . وقد رأي تلاميذ باستير ومنشتكوف باتباع العقائد الأساسية لأستاذيهم أن الصراع ضد الرض يستدعي اتخاذ أساليب تحطم الجراثيم المهاجمة بمساعدة طرق المقاومة الطبيعية للجسم ، واعتقدوا في ثقة أن علم الطب يجب أن يتبع هذا الطريق من طرق البحث الذي تشير إليه هذه القوي الطبيعية المسيطرة على الجسم الإنساني ، تلك القوي التي لا يمكن تغييرها ولا يصح تجاهلها ، فكانت زيادة المقاومة الطبيعية للجسم وتحضير أنواع مختلفة من الطعم وتطبيق التحصين على كل ما يستطاع من أنواع البكتريا - هذه كانت مجال البحث الذي اخطته باستير وأتباعه في إخلاص .

وفي سنة ١٨٧٧ لاحظ باستير أن لبعض البكتريا القدرة على الحد من نمو جراثيم الجمرة ، وقد استهوت فكرة أن بعض البكتريا التي توجد عادة في الجسم الإنساني دون أن تصيبه بضرر قد تفرز مواد لها القدرة على قتل الجراثيم

المسببة للمرض ، استهوت تلاميذ باستير ، وجرت محاولات عدة في معهد باستير ، ولكنها لم تؤت نتائج عملية تذكر ؛ على أنه رغم فشلهم في استخراج مادة مضادة للبكتريا من الفطر والبكتريا فقد ظل العاملون في المعهد يأملون أنه في يوم من الأيام ستكشف هذه المادة التي لا تضر بالجسم البشري ولكنها تهلك الجراثيم ؛ غير أنهم لم يعتقدوا قط أن تكون هذه المادة قادرة على إهلاك الجراثيم مباشرة إذا ما وصلت إلي مجري الدم ، فقد كانوا يرون أن هذه المادة المضادة للجراثيم مادة تتعاون مع قوى المقاومة في الجسم وتقويها .

وقد اتجه العلماء في ألمانيا في هذا السيل اتجاها آخر فقد كان بول ارليخ ومن ينهجون نهجه يعتقدون في ثقة أن " رصاصة سحرية " تقتل كل الجراثيم يمكن اكتشافها . وقد بحث أرليخ في إصرار وصبر عن هذه الرصاصة السحرية ؛ أي عن مركب كيميائي مضاد للبكتريا ، وذلك على هدى نظريته الشهيرة ) نظرية السلسلة الجانبية لتفسير الحصانة ( واعتقاده في أن الحصانة ظاهرة كيميائية ، ولم يعر التفاتا كبيرا إلى قوى المقاومة الطبيعية للجسم .

وكانت مركبات السلفا هي نتاج وخلق مدرسة ايرليخ . أما المواد الطبيعة المضادة للجراثيم مثل البنسلين وغيره من المواد المستخرجة من الفطر والبكتربا ، فانها تظهر إلى حد كبير فكرة المادة المضادة للبكتريا التي سيطرت ولا تزال تسيطر على أبحاث معهد باستير ، ولكن العجيب أن هاتين الفكرتين المتعارضتين ضتين إزاء الطريقة المثلي لقتال الجراثيم لم تتحقق واحدة منهما ! فمركبات السلفا ليست رصاصات سحرية تقتل الجراثيم مباشرة ، والمواد الطبيعة المستخرجة من الفطر والبكتريا لا تزيد من المقاومة الطبيعية للجسم .

ويقع أساس العلاج الكيميائي الحديث في مكان ما بين هاتين الفكرتين ، فكما يحدث كثيرا في الأبحاث العلمية ، ينتج الاختلاف بين فكرتين مختلفتين - وأحيانا متعارضتين - في النهاية نجاحا باهرا تساهم فيه كلتا المدرستين إلى حد كبير ، وفي الحقيقة أنه لم يثبت بعد كيف تقتل مركبات السلفا والبنسلين وغيره من الواد الطبيعة  الجراثيم ، ولكن رغم ذلك فالحقيقة باقية ، وهي أنها حقا

" عقاقير معجزة "

اشترك في نشرتنا البريدية