من بين الأشياء التي شغلت أذهان العلماء قديماً وحديثا تقدير عمر الأرض ، بل وعمر العالم أجمع . وقد اختلفت وسائلهم في هذا التقدير . وتفاوتت كثيرا ، مما أدى إلى اختلاف النتائج وتباينها . ولم تكن تقديراتهم إلى زمن قريب تعدو مجرد التخمين . ومن غرائب المصادفات أنه كما كانت أولى النظريات الخاصة بتركيب العالم ، كما قال طاليس ، تتعلق بالماء كانت أيضا أولى النظريات عن تقدير مدى الزمن المنصرم تتوقف على تركيب مياه البحار والمحيطات في العالم .
ففي العصور الوسطى كان دانتي وغيره يؤمنون بوحدة جميع مجاري المياه فوق سطح الأرض . ولكن هذه الفكرة قوبلت بالشك من الإمبراطور العظيم فردربك الثاني الذي لقب " أول رجل عصري " وذلك لتميزه بالتفكير العفى الذي كان يتناقض بشدة مع المعتقدات السائدة في عصره .
فقد كان يحير فردريك هذا أن ماء البحر شديد الملوحة في حين يخلو ماء النهر من الملوحة . ولقد كان هذا الفرق بين نوعي المياه هو الذي أوحى إلى هالي الفلكي الكبير ، بعد مرور مدة طويلة على عصر فردريك ، بطريقة ممكنة لتقدير عمر الأرض . ففي إحدي مكاتباته إلى الجمعية الملكية عام ١٧١٥ ، أشار إلى أن البحر أصبح مالحا نتيجة تراكم المواد الملحية التي تجرفها الأنهار في طريقها . وكان يحزنه كثيرا أن الإغريق القدامي لم يتركوا لنا شيئا عن درجة ملوحة البحر كما كانت في عصرهم ، أى منذ حوالى ألفي سنة ، إذ أنه لو كان ذلك معلوماً لنا الآن لكان في الإمكان تقدير عمر المحيطات من علمنا بالفرق بين درجة ملوحتها اليوم ودرجة ملوحتها عندئذ .
وقد حذا جولي منذ نصف قرن حذو هالي وبدأ يفكر بأسلوبه ، بل وقام بتطبيقه بالفعل باستخدام شئ من التقريب
والتخمين . إذ افترض أن الأنهار تحمل معها سنوياً من الأرض إلى البحر كمية من الملح الذاب ثابتة في المتوسط على مر العصور الجيولوجية منذ بدء خلق الأرض . وعلى ذلك يكون قد مضي على خلق الأرض حوالى مائة مليون عام ، وهي الزمن اللازم لكي تصير البحار في درجة الملوحة التي هي عليها بالفعل في وقتنا الحالي . إلا أن هذه النتيجة أقل في الدقة كثيرا مما كان جولي يظن . فقد دلت الأبحاث الحديثة أنه تبعاً لافتراض جولي انتظام زيادة ملوحة المحيطات في الأزمنة الحالية يكون عمر الأرض في حدود ٢٥٠ مليون سنة . ولكن الواقع أنه ليس هناك مطلقا ما يبرر افتراض هذا الانتظام . فالمعتقد مثلا أن الأجزاء اليابسة على سطح الأرض في عصرنا هذا أعلى على العموم في المستوي بكثير مما كانت فيما مضى ، وعلى ذلك فالأنهار أشد نشاطا الآن مما كانت بكثير . واضح أنه لا يمكننا تقدير أثر هذه العوامل وما سواها إلا تقديراً تقريباً . وعلى ذلك فإن أقصى ما يمكننا استنتاجه في هذا الصدد هو أن عمر المحيطات لابد أن يقاس على الأقل بمئات الملايين من السنين ، وقد يصل إلى ألوف الملايين .
وقد ابتدع اللورد كلفن في أواخر القرن الماضي طريقة أخري لحساب عمر الأرض . فقد لفت الأنظار إلي أن الأرض تفقد كمية محسوسة من الحرارة خلال قشرتها ، بدليل أن درجة الحرارة تزيد كلما تعمقنا في جوف الأرض . ويدل ذلك على أن الأرض تبرد باستمرار ، أى أنه كانت فيما مضي أعلى حرارة مما هو الآن . وعاد كلفن بحسابه إلى ذلك العهد الذي كانت فيه الكرة الأرضية كتلة منصهرة ، فوجد أنه لابد أن يكون قد انقضى عليه ما بين عشرين مليوناً وأربعين مليوناً من الأعوام . وكان تقديره
هذا لعمر الأرض يتفق إجمالا مع تقديره لعمر الشمس . أما وسيلته في تقدير عمر الشمس فكانت باستخدام فكرة هلمهولز عن أن الشمس تحتفظ بقدرتها الهائلة على الإشعاع بانكماشها المستمر الذي ينتج عنه خروج طاقة منها . فالجسيم الساقط في مجال جذب يكتسب طاقة حركة ، فإذا اعترض هذه الحركة معترض يؤدي إلى إيقافها كان لابد من تحويل الطاقة المكتسبة هكذا إلى صورة ما . وحالة انكماش الشمس تشبه هذه الحالة تماماً ، لأن الأجزاء الخارجية من الشمس تقترب من مركزها ، فينتج عن ذلك تحول للطاقة يري هلمهولز أنه يجعلها تظهر على صورة إشعاع ، وقد توصل كلفن من حساباته إلى أن انكماش الشمس إلى حجمها الحالي لا يمكن أن يكون قد أنتج طاقة تكفي لإشعاع أكثر من خمسين مليوناً من السنين .
وقد اثارت حسابات كلفن هذه جدلا عنيفاً بين علماء الجيولوجيا وعلماء الطبيعة . إذ كان من رأي الجيولوجيين أن تكوين الطبقات المترسيبية المعلومة ، وكذلك تطور الأحياء وأجناسها المختلفة ، لابد أن يكون قد استغرق حقبة من الزمن أطول كثيراً مما وصل إليه كلفن باستنتاجاته
وفي عام ١٩٠٠ أثبت جيمز جابكي أن القشرة الأرضية التي تنتج عن تبريد يستمر مائة مليون عام لا يمكن أن تصل محال من الأحوال إلى السمك الذي يسمح بتكون صخور ذات سمك شاسع كالصخور المطوية التي نجدها الآن في جبال الألب وغيرها من السلاسل الجبلية العظمى .
ولم يكتشف الخطأ في طريقة كلفن إلا في خلال القرن الحالي . فقد حدث عقب اكتشاف الراديوم أن أثبت اللورد رابلي أن العنصر الإشعاعي الفعال . ووجود في الصخور العادية في جميع بقاع الأرض ، وعليه تكون الصخور التي بالقشرة الأرضية تحتوي معيناً خاصاً لا ينضب من الحرارة وفضلا عن ذلك فقد أصبح معروفاً الآن أن هذه الصخور تحوي كميات من المواد الإشعاعية تكفى لجعل صافي الحرارة المفقودة ضعيفاً جدا ، وذلك يؤدى إلى ضرورة زيادة التقديرات لعمر الأرض المبنية على معدل التبريد زيادة كبيرة ، فإن الاعتقاد السائد في الوقت الحالي أن حوالى تسعين في المائة من الحرارة المنبعثة من الصخور ناتج عن النشاط
الإشعاعي ، وعليه فإن تقدير كلفن الواقع بين عشرين وأربعين مليون سنة ينبغي أن يتضاعف حوالى مائة مرة . وقد نشأت طرق حديثة لقياس مدى العصور الجيولوجيا تفوق كل ما سبقها من الطرق ؛ وذلك بقياس مدى تحول . العناصر ذات النشاط الإشعاعي إلي أخرى غير مشعة ؛ فقد اكتشف في أوائل القرن الحالي كل من رذرفورد وسودى أن كل راسب من عنصر ذي نشاط إشعاعي يكون عدد الذرات التي تتحل منه في وحدة الزمن متناسباً مع العدد الكلى للذرات في العنصر ، وقد وجد أن ثابت التناسب مستقل تماماً عن الضغط والحرارة والظروف الطبيعية الأخرى ، ولا يتوقف إلا على نوع العنصر نفسه وعلي ذلك فإنه يمكن استخدام معدل انحلال أي عنصر معين وتحوله من عنصر فعال إلى عنصر خامد لقياس الزمن . وعند انحلال اليورانيوم والثوريوم يمر كل منهما بسلسلة التحولات ، وفي إحدى مراحل انحلال اليورانيوم يظهر الراديوم . والعنصر النهائي المستقر الذي ينتهي عنده التحويل في كل من الحالتين هو الهليوم والرصاص . وبقياس كمية كل من هذين العنصرين النهائيين المستقرين في أحد الصخور المحتوية على اليورانيوم أو الثوريوم يمكننا تقدير عمر ها الصخر . والنتائج التي تحصل عليها بدراسة الرصاص أقوى من تلك التى تحصل عليها بدراسة الهيليوم ، لأن الأخير غاز فيكون عرضة للإفلات . ويكون قياسه أقل دقة من قياس الرصاص . ولحسن الحظ يمكن التمييز بين الرصاص الناتج عن انحلال عناصر ذات نشاط إشعاعي والرصاص الذي لم ينت . عن أصل كهذا . وعلى ذلك فإنه إذا كان هناك معدن ذو نشاط إشعاعي لم يتأثر بعوامل التعرية والعوامل الجوية الأخرى ، فإن كمية الرصاص من أصل إشعاعي الموجودة فيه في أي وقت تتوقف على شيئين لا ثالث لهما ، أولهما كمية اليورانيوم أو الثوريوم أو كلاهما الموجودة فعلا في ذلك الوقت ، والثانى . الزمن الذي مضي منذ أن بدأ المعدن يتبلور أصلا . وعلي ذلك فإننا نستطيع حساب عمر المعدن في أي وقت بقياس كمية الرصاص من أصل ذي نشاط إشعاعي للوجودة فيه عندئذ ، ومقارنتها بكمية اليورانيوم أوالثوريوم أو كلاهما التي يحتوىها المعدن نفسه .
ويمكن التحقق من صحة هذه الطريقة بدراسة كل نوع من الأنواع الثلاثة للرصاص الذي من أصل فعال على حدة ، ثم مقارنة النتائج فنجد مثلا أن أحدث العمليات الحسابية تتفق اتفاقاً جيداً في تقديرها مرور حوالى ٢٥٥ مليون سنة منذ نهاية العصر الديفوني ، وذلك عندما كانت الأسماك ، على ما يعتقد ، هي أرقي صور الحياة . ولقد قدر الزمن الذي مضي منذ العصري الكمبرى بما يتراوح بين ٥٠٠،٤٤٠ مليون سنة . والعصر الكمبرى هو ذلك الذي ترجع إليه أقدم أنواع الحفريات . أما أقدم المعادن التي فحصت وهو ممدن اليورانينيت من ماليتوبا فقد حدد عمره بحوالي 1985 مليون عام . وقد وجد مختلطا بهذا المعدن بعض الحصي المكون من جرانيت وكوارتيزيت أقدم من المعدن نفسه وعلى ذلك فلا بد أن يكون عمره اكثر من 2000 مليون سنة ، ومن الطبيعي أن تكون الأرض نفسها أقدم من ذلك ، وعليه يكون هذا الأمد هو الحد الأدنى لعمر الأرض مع التحفظ الشديد
وقد قام هرلمز أخيرا بحساب الزمن الذي مضي منذ بدء تعديل الرصاص الأرضى الأصلي بواسطة الرصاص الذي من أصل اشعاعي . واستخدم في تقديره هذا البيانات التي جمعها نير عن التوافر النسبي للبدائل المختلفة من الرصاص في العينات الرصاصية الشائعة في العصور الجيولوجية المختلفة . وتوصل نتيجة حساباته إلى تقديره عمر الأرض بحوالي ٣٣٥٠ مليون سنة ، ويزعم هولز أن التحليل الإحصائى يزيد قرب هذه النتيجة من الصواب . ولكن هارولد جفريز قائم بتنفيذ هذا الزعم ، إذ نشر في نوفمبر عام ١٩٤٨ نتائج تحليله الإحصائي لنفس البيانات بأسلوب آخر . وقد توصل إلى القدير لعمر الأرض يقل عن تقدير هولمز له بحوالى ألف مليون سنة .
وإن شئنا الانتقال من بحث عمر الأرض وحدها إلى عمر العالم أجمع . وجدنا أن هناك وسائل كثيرة تساعد على ذلك . ومن هذه الوسائل فحص الشهب وتقدير محتوياتها من الهليوم واليورانيوم ؟ وهذه الشهب عبارة عن كتل معدنية تدخل جو الأرض من الفراغ الخارجي وتفلح في اختراقه والوصول إلى سطح الأرض قبل أن يتم احتراقها نتيجة مرورها السريع خلال الهواء . والمعتقد أن معظم هذه الشهب
إن لم يكن كلها تنشأ أصلا من المجموعة الشمسية . وقد قام يانيث بتحليل عدد من هذه الشهب تحليلا دقيقا فوجد بينها تفاوتا شديداً في محتوياتها من الهليوم ، رغم تقارب نسبة محتوياتها من اليورانيوم والثوريوم ، ويستنتج من ذلك أن هذا التفاوت في محتوياتها من الهليوم ربما يرجع إلى التفاوت في عمر الشهب منذ أن تجمدت . ويقدر عمر أقدم هذه الشهب بحوالى ٦٠٠٠ مليون سنة ، إلا أنه ظهر أخيرا رأي يرجع ان هذا التقدير مبالغ فيه كثيراً ، لأن الهليوم الموجود قد يكون بعضه ناتجا عن الأشعة الكونية وليس عن تحول ما في صلب الشهب نفسها من معدن .
