الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 325الرجوع إلى "الرسالة"

فَلْنَسْتَمر

Share

خواطر الحرب - صوت العلم بين صليل السيوف ودوى المدافع -  إستكناه الذرة وقضية الإلكترونات - جحافل العلم فى ميدان التجارب -  قصة مليكان - إذا عمت السكينة.

كنا نتابع قصة الخليقة ونذكر عمل الإنسان، ونستعرض  الخطوات الكبرى التى تمت في السنوات الخمسين الأخيرة، وبدأنا  هذا العمل فى يناير الماضى بدء العام السابع للرسالة، وما نعد أنفسنا  إلا فى منتصف الطريق، مهمتنا أن نعرض على القارئ صورا  من المراحل المختلفة التى بلغتها العلوم، تلك المراحل التى فتحت  مجال الذهن وفتقت حواشيه وحولت التفاتاته إلى الناحية التى  جعلت من الإنسان على مرَّ الأيام أنموذجاً أرقى ومثالاً أكمل.  وقد تابع مقالاتنا هذه عدد غفير من القراء ما زالت تردنا رسائلهم  من كل صوب.

وبينما نحن نتابع عملنا إذا بالعالم يُفاجأ بما يُغير مسرى الحياة  الفكرية فيه، ويحولها من طريقها إلى آخر تكتنفه الآلام  والمصائب، فمن اطمئنان وسلام، إلى حرب واصطدام، أكثر  ما يُروَّعنى فيهما أن يُقْضى خلالهما على الملايين من الأبرياء،  وأن تهدم أسس الحضارة وتُدكَّ صروح المدنية، ولكن هذا  التغيير فى حالة العالم لم يك ليُقْعدنى عن مهمتى فى الكتابة  ويصدنى عن غرضى فى التأليف؛ فإن النفوس الواجمة من شبح  حرب مروعة، والأفكار المضطربة من صراع عنيف فى حاجة  من وقت إلى آخر أن نرفه عنها، ونعمد إلى تهدئتها ونبث روح

السكينة فيها. لذلك أخذت على عاتقى أن أستمر فى مهمتى العلمية  حتى أساهم فى الساعات التى أعطيها كل أسبوع لقراء الرسالة  فى دفع كابوس الحرب الجاثم على العالم فى هذه الآونة.

لعل القارئ يشعر معنا أن نغمات حزينة تتجاوب أصداؤها  الآن فى آذان العالم نرى لزاماً علينا إبعاد الأذهان عنها، وأن  فكرة تحمل فى طياتها الدمار والخراب وتغيير معالم الحضارة  والعمران تسرى الآن سريان النار فى الهشيم، نرى لزاماً علينا  أن ندفعها بكل عناية وأن نحطمها بكل قوة

إن الظلام حالك مدلهم، والنجوم تنشر فى الفضاء وتملأ،  والمشتري والمريخ يطلان علينا من علياء السماء، وكأن ما بهما من  مخلوقات فرضية تشاهد مأساة الإنسان التى بدأت تعرض دورها  فى ثالث الكواكب فتعجب لها ولا تقف على الغرض منها.  ألا بئس الطمع وشر ما يجلب! ألأن بعض شروط من معاهدة  وضعها نفر من الساسة منذ عشرين عاماً ولا يريد هذا النفر  تغييرها، ولأن هذه لا تروق لبعض الزعماء تقع شعوب الأرض  فى حرب ضروس؟ الآن لقطر أشباراً من الأرض فى قطر آخر  تمتشق الأمم الحسام وتأبى التفاهم ويحمل الطيارون وسائل التهلكة  وتتخيَّر الناس حد الظبى فاصل إشكالها، ونُساق إلى حيث  لا نعرف المصير؟

ولو أنه يتأتى من هذا أنه يصبح فى العالم خلف خيرا من  السلف، لو أننا مسوقون حقاً إلى هدف أسمى يستجلى منه الإنسان  عهداً أرقى فى الحضارة وأبقى فى العدالة وأعظم فى التقدم، عهداً  لم يعهده من قبل - لوجدنا أن الخير كل الخير فى حمل السلاح وطرح  الراحة، ولطاب لكل إنسان أن ينقلب مجاهداً بين المجاهدين.

أما والبشر يتقاتلون لغير غاية مفهومة، أو مأرب معقول، فكل  ما نتمناه أن تنحصر الكارثة وألا تطول هذه المحنة، وأن يتغلب  حكم العقل على الهوى ويعود السلام فيرفرف على الربوع والأمصار  من جديد، ونرى العلماء يتفرغون لاكتشافاتهم العلمية المجيدة  ومباحثهم اللانهائية وتصبح المختبرات مخابر سلم ووسيلة للتعمير  لا للتخريب

هذا السلام لبنى الإنسان طُرّا، للفقير قبل الغنى، للضعيف  قبل القوى، هو أمنيتنا وله نعمل من قلوبنا، وها نحن أولاء نرقب  عودة عهد هدوء العالم ورفاهيته ونتم للقراء قصة العلوم ففيها القسم  الإيجابى من حظ البشر، أما القسم السلبى الذى يشغل الآن  رجال الحرب ويندفع إليه فريق من بنى الإنسان فهو ما سيأسف  له العقلاء فى النهاية

وبراً بما وعدنا نعود الآن إلى الكتابة فى الموضوعات التى  سرنا فيها شوطاً فليس أحب إلى نفوسنا من المضى فى سرد  قصص العلم والعلماء وفى تبسيط أهم ما وصل إليه الإنسان المفكر  من اكتشاف واختراع، ذلك لأن أسعد الساعات عندنا هى تلك  التى نسطر فيها مفاخر الإنسان العاقل الدارس، وأعمال الرجل  الكاشف العالم: فهيا بالقارئ خطوة أخرى إلى الأمام نزيده فيها  كلمة يخلق بنا أن ندعوها باسم العالم الذى هو بطلها فندعوها  قصة   (مليكان) A.Millikan

تكلمنا فى مقالنا السابق عن الإلكترون أصغر جزئ  فى الكهرباء أو وحدة الكهرباء السالبة وزميله البوزيتون الوحدة  الموجبة، وهما الشقيقان اللذان يلعبان دوراً هاماً فى معارفنا  الكهربائية بل يتصلان اتصالاً وثيقاً بمعرفتنا عن المادة وكل ما هو  كائن، فالألكترون هذا المهاجر الحائر، نعرفه فى المادة على أشكالها  الثلاثة الغازية والسائلة والصلبة، فذرة غاز الهيدروجين وهو أخف  ما نعرفه من العناصر تحوى نواة وسطى كالشمس يدور حولها  إلكترون واحد وتتميز به عن سائر العناصر وذرة الماء مكونة  من ذرتين من الهيدروجين السابق الذكر وذرة واحدة من غاز  الأكسيجين، وهذه الذرة الأخيرة مكونة من نواة وسطي يدور

حولها ثمانية إلكترونات وذرة الأيرانيوم أثقل العناصر ذلك العنصر  الصلب المشع الذى كان حجر الزاوية فى اكتشاف عنصر الراديوم  العجيب تتركب من عدة شموس يدور حول كل منها عدد معين  من الإلكترونات، ويبلغ مجموع إلكترونات هذه الذرة اثنين  وتسعين الكترونا أى أكثر من ضعف ما يدور حول شمسنا من  كواكب وأقمار (1)، فهى مهما بلغت من الصغر عالم يتعين بعدد

من الشموس وعدد من السيارات التى تجرى فى أفلاكها وتشبه  عالمنا الشمسى، وما اختلاف العناصر إلا فى اختلاف عدد  الإلكترونات التى تدور حول شموسها، واختلاف المسافات التى  تبتعد بها هذه الإلكترونات عن الشموس، بحيث يعد هدم النواة  الوسطى، وطرد بعض الإلكترونات المحيطة بها تحولاً فى المادة  وانتقالاً من عنصر إلى عنصر آخر يتعين بالعدد الجديد من هذه  الإلكترونات السابحة، وهذا ما استطاعه العلماء أخيراً يتقدمهم    (رذر فورد)  المتوفى منذ عامين في إنجلترا، والدوق موريس  دي بروى فى فرنسا، وبرايش فى ألمانيا، والعالم الشاب فرمى  فى إيطاليا. . . وهو ما سنتبسط فيه عندما نتكلم عن التَّفتت  الذرى تحت تأثير الإشعاع.

وإذا كان هذا الإلكترون أصغر ما نعرفه من مادة لها وجود  مادى، فهو أصغر ما نعرفه مما له وجود كهربائى، فهو المكون  الأول للكهرباء، بل وجميع الإلكترونات هى التى تُحدث كل  الظواهر الكهربائية التى أهم ما يعرفه الشخص غير المشتغل بهذه  العلوم ظواهر الإلكترونات المهاجرة التى قدمنا أنها تكون  الأساس فى فن الراديو بل الأساس فى كل الكهرباء اللاسلكية  منها، والسلكية، والتى يهاجر منها عند المخاطبات التلفونية  أو الإذاعة اللاسلكية ملايين الملايين فى كل واحد على عشرة  آلاف من الثانية. عندما تشترى من التاجر بضعة أمتار من

السلك لتوصيل جرس كهربائى فى مكتبك، فإنك تشترى طريقاً  صالحاً لهجرة بلايين البلايين من الموجودات الصغيرة التى أطلقنا  عليها ألكترونات، وهى التى شغل العالم مليكان بدراسة أحدها  والتى تسرى فى السلك من طرف إلى طرف. وعندما تشترى من  التاجر ذاته صماماً - أى مصباحاً للراديو - من هذه المصابيح  الخاصة التى منها الثلاثى الأقطاب   (تريود) Tride  أو خماسي  الأقطاب بنتود Pintode والتى تتفنن الصناعة الحديثة فى تقديمها  إليك بدل مصباح تالف، فإنك تشترى فى الواقع مكاناً صالحاً  لإحداث هذه الإلكترونات التى تهاجر بين الكاثود Cathode  القطب السالب والأنود Anode القطب الموجب بعدد لا يمكن  أن يتصوره العقل.

ترى كيف يمكن العثور على جُسيم مادى يعلق به أحد هذه  الموجودات الدقيقة التي تعد أصغر ما نعرفه من الكون (1)؟  كيف يتسنى لنا أن نستوثق من ذلك؟ بل كيف يتسنى لنا أن  نرفع ونخفض الجسيم الحامل لأحد هذه الألكترونات وفق إرادتنا؟  وكيف نعلم علم اليقين أنه حامل ألكتروناً طليقاً كما نعلم أن سيارة  تنساب فى الشارع بسرعة عظيمة تحمل السائق ولا تحمل غيره  من الركاب؟

لقد أمكن للأستاذ الكبير مليكان Robert Andrews   Millikan أن يقوم بتجارب دقيقة حصل فيها على إلكترون حر  واحد، وتيقن فريق العلماء معه أن هذا الذى حصل عليه مليكان  فى تجاربه هو ألكترون حر واحد. وسأشرح للقراء تجربة  مليكان وهى مهمة أحاول تبسيطها للقارئ رغم صعوبتها. وأمامى  الآن المذكرات العديدة التى نشرها الأستاذ مليكان، وأهمها  نشرته التى قدمها لمؤتمر عقد فى وينبج Winnipeg فى أغسطس  سنة ١٩٠٩ أى منذ ثلاثين عاماً، والمذكرة الإضافية التى ظهرت

خلاصتها فى المجلة الطبيعية Physical Review عدد ديسمبر من  نفس السنة، ثم نشرته التى ظهرت فى السنة التى تليها فى الجريدة  الفلسفية Philosophical Magasine.كذلك أمام كتابه    (الإلكترون (1) )  L'Electron. ولقد طالعنا هذه المذكرات  في سنة ١٩٢٨ عندما أتيحت لنا فرصة الاشتغال بالأبحاث  الطبيعية في معامل البحث بالسوربون بباريس، وهأنذا أعيد  مطالعتها كما أعيد مراجعة الكتاب المتقدم لنستطيع أن نحدث  قراء   (الرسالة)  عن علم، بوصف تجارب مليكان الخالدة، تلك  التجارب التي مهدت لها أعمال كثير من الباحثين أمثال تونسند   Townsend(2) وولسون C.T.R Wilson (3) وتومسون(4)     J.J.Thomson وهم من أعلام مختبر كافاندش الشهير الذى يكون  جزءاً من جامعة كامبردج المعروفة

وغنى عن البيان أننا سوف لا ننقل للقارئ خلاصة هذه  النشرات العديدة التى برزت فى تاريخ المعارف والتى عدها الكثير  من العارفين خطوة موفقة من أكبر مفاخر العلم الحديث، فليس  المجال هنا أن نلخص مسائل علمية يعد الدخول فى تفاصيلها من  الموضوعات الفنية التى لا تروق غير المختصين، وإنما غايتنا أن نعرض  على القارئ صورة سهلة واضحة هى تلك التى تبقى فى الذهن بعد  طول المطالعة وتمثل حقيقة هذه الأسطورة التى تعد من أعظم  ما نعرفه فى العلم التجريبى وتوضح هذه التجربة التى حاولنا إعادتها  فى يوم لا زال عهدنا به قريباً.

وموعدى إذن مع القارئ الأسبوع القادم إذ احتاج إلى  سبعة أيام لمراجعة أعمال هى عندى نتاج الإنسان الراقى لا عمل

الإنسان المتوحش. ولَشدَّ ما يغلب على النفس نوع من الاطمئنان  عندما تسوقنا الكتب إلى أعمال هؤلاء الأعلام، وثمة فارق كبير  بين ما نستشعره فى أعماقنا حيال مجهوداتهم وبين ما نلحظه فى  مجهودات هؤلاء المقاتلين، مهما كان السبب الذى يناضلون من  أجله. ما أكثر تعاقب الحوادث هذه الأيام كل أسبوع تدخل  فيه أمة فى الحرب، ويخيل إلى أن سبعة أيام لمطالعة   (مليكان)   فترة طويلة فى هذا الزمن الكثير المفاجآت، فإذا لم يقفنا عن  عملنا ظرف مفاجئ؛ وإذا ظل السلام مخيماً على ربوع مصر والبلاد  الشرقية ناشراً لواءه على ذلك المسكن الواقع فى هذه الجزيرة  الهادئة بين النيلين، وإذا ظل النيل السعيد بهذا البهاء أرصده  من هذا المكان، وظلت الدور هادئة كعهدنا بها، وظلت السعادة  ترفرف على الربوع ودامت لنا رؤية أطفالنا هانئين مرحين،  ولم تلجئنا الظروف إلى أن نبعث بهم إلى الريف البعيد - فإنى

مُعط أوقات فراغى هذا الأسبوع لقارئ الرسالة، أحدثه  فى المرة القادمة عن مكنون هذه النشرات ودخائل هذه الكتب،  وسر هذه الأسطورة العلمية، وبذلك ربما فزت بأن أجعله يعجب  بهؤلاء العلماء إعجابى بهم ويشيد معى بذكرهم.

عندما نطالع العمل المضنى الذى قام به هؤلاء الأعلام ونطالع  بعد ذلك أخبار الفواجع التى تغمرنا بها الجرائد وتبعث بها إلينا  محطات الإذاعة المختلفة أشعر براحة فى الأولى وامتعاض فى الثانية

فإلى العلوم هذه الأيام العصيبة نقص لك منها أحب  سيرها ليزيد إيماننا وإيمانك بمستقبل الإنسانية ومبادئ السلام  والعدل. وعسى ألا تُفرَّقنا الأيام، فأظل أشتغل، وأظل  أكتب إليك؟

دكتوراه الدولة فى العلوم الطبيعية من السوربون ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم المهندسخانة

اشترك في نشرتنا البريدية