الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 285الرجوع إلى "الثقافة"

قصة:، بلسم . . !

Share

قطب الطبيب جبينه ، وأزاح عويناته الزجاجية في عصبية ، وهو ينظر إلى الباب وقد كان يوصد برفق ، ثم تهافت على المقعد الكبير الذي يواجه المكتب ، وراح يفكر في هذه اليد المرتعشة التى أوصدت الباب ، وصاحبها ذي الوجه الأصفر الممتقع . .

إنه يخطو في تسرع رهيب نحو القبر ، ودماؤه تنسحب  رويدا من كل اطرافه ، تاركة خلفها ذلك الاصفرار الباهت ، وتنكمش في قلبه لكي تجمد هناك . وهذه العروق التي  ضربت اطرافها الدامية في عينية كأيدي الأخطبوط ، وتطاولت ترسم دوائر زرقاء حول مقلتيه . . إنها إنذار مخيف . ..

أي قوي في العالم تستطيع أن تقطع ذلك الحبل الضخم الذي يشده إلي الهاوية . . بل أي معجزة ؟

كان الطبيب يعرف ما هو اليأس ، وكان مستعدا دائما  لأن يملأ ضميره بهذه الراحة الفكرية التى لابد منها حين

يصبح الرجاء عبثا ، ولكن هذا الشاب . .   ؟ ! إن كل كلمة  فاه بها كانت تنهال على ضميره كالسياط ، وتملأ اذنيه بصيحات  مختلفة معذبة ، وأصوات مهلوعة كتلك الآتية من بيت  يحترق . .

بيأس ؟ ! أية جريمة إذن يرتكب . .  أخذ يستعيد في ذاكرته كل ما قاله ذلك التعس : " أشعر يادكتور كأنني لست من هذا العالم الدنيا مصفرة في وجهي ، وكثيرا ما تنقلب إلي ظلام والناس من حولي يموجون  ويصخبون ، ولكن لا يصل إلى اذني من ذلك إلا طنين كطنين الذباب . وكثيرا ما تمر بي لحظات افقد فيها الشعور ، فإن أفقت أحس برأسي كقطعة من الجحيم ،  وكثيرا ما تدفعني أيضا رغبة ملحة إلي البكاء فأبكي حتى  تجف دموعي . .

يخالجني يا دكتور شعور خفي ، ويلاحقني في كل  شبرا خطوه ، بأن الناس يكرهونني ويزدرونني ويشمئزون  مني ، فأفر منهم واخفي نفسي عن عيونهم وحدي كمنبوذ ، حتى كرهت الناس وكرهت نفسى

أنا أعيش في جحيم لا يطاق ، ولطالما نظرت إلي المرآة فخيل لي أنني جثة بلا روح ، وان ذلك الهيكل الذي لم  يعرف من الشباب غير اسمه ، قد اصبح شبحا من الاشباح . فحنقت على الدنيا ، وحطمت المرآة كي اعيش بعيدا حتى عن نفسى

أنا لا أعرف يا دكتور ما الذي يعذبني ، وكل ما اعرفه  أنني إنسان ناقص لا يصلح للحياة . فترقبت الموت كالملاح التائه يرقب الشاطئ . ولكن الموت لما اقترب مني خشيته كما أخشى الحياة ، وكرهته كما أكره الناس ، ووجدتني أفر منه وأهرول كالمجنون لاختبيء من شبحه . .

أنا معذب يا دكتور بين الحياة والموت ، واليقين والشك ، والامل واليأس ، فأتيت إليك اخيرا لكي تريحني وتطمئنني . هل حياة أم موت ؟

ضم الطبيب ما بين حاجبيه ، ثم ضغط بأصابعه الرهيفة  على عينيه ، كانما يريد  أن يمحو من مخيلته تلك النظرات الهالعة الضارعة في عيني ذلك التعس . وحانت منه التفاته إلى خزانة كتبه حيث تجمعت كل ما توصلت إليه العقول من دقائق  هذا الجسد العجيب ، وكل ما عرفه البشر من معجزات الطب . هنالك بين طوايا الكتب آلاف من أنواع البلسم ، ومن العقاقير أصناف لا تحصى

ولكن . . كثيرا ما تطغي علي كل هذا وتغطيه  علامة استفهام كبيرة ، تتراقص امام عيني الطبيب كابتسامة  ساخرة من فم شيطان ! فما الطب ، وما الكتب ، وما الأدوية ، وكل الوان البراعة البشرية ، أمام هذا اللغز الذي يندس احيانا في جوف ذلك الإنسان المعقد ، وينفث اعراض الموت في جسم لا يعثر فيه الطبيب على علة . .  

ابتدأ اليأس من جديد يفتح ذراعيه الرهيبتين ليطويه بينهما ، فينتشله من عناء الفكر إلي هذه الراحة التي يستشعرها جسد الميت - إن كان الأموات يجدون في رقادهم مثل الراحة التي يشعر بها النائمون - ولكن سرعان ما تقلصت اسارير وجهه ، وارتسم في ذلك الخط الرهيف الذي بين شفتيه عناد شديد ، ثم انتصب في عصبية وهو يتمتم محنقا . يجب ألا يموت . .

وخطا في حجرة الفحص بضع خطوات ، ثم رجعها مرة  اخري ، وعاد فجلس على المقعد الكبير وراح ايضا يفكر .  أجل ! يجب ألا يموت ولكن أي معجزة من معجزات الطب تعطيه الحياة ؟ لقد قال له الآن ان يعود في المساء ، فماذا عساه يقول له في المساء ؟

ورفع الطبيب رأسه إلي السماء ، كأنما يستمد منها العون ، ثم عاد يجول بنظره في حجرة الفحص الهادئة . فهذا هو  السرير الذي يتمدد عليه المرضى وقت الكشف ، وهذه  منضدة ملأى بالمباضع والمماسك ولفافات القطن ؛ وهنالك في الزاوية آلات الاشعة والكهرباء ؛ وتلك في الوسط

منضدة اخري تحوي أصناف الأدوية والعقاقير ، ولكنه  اشاح بوجهه ، ونظر في الأرض التي تحت قدميه ، ثم تمتم : كل هذا لا ينفع

وفجأة أفاق الطبيب من خواطره على صوت قرع  الباب ، فسمح في ذهول للطارق بالدخول . ففتح وظهرت  من خلفه الممرضة بوجهها الساذج الصبياني ، وثوبها الأبيض الأنيق ، وطلبت منه في استحياء تشوبه ذلة  مستحبة ان يأذن لها بالإنصراف إلي بيتها . فتهلل وجهه لهذا المحيا الصبوح . وأذن لها بما طلبت في صوت شجي  النبرات وخرجت الممرضة طروبة تتوارد على شفتيها  الرقيقتين عبارات الشكر التى يخفيها الحياء فما تكاد تسمع ،  وأوصدت الباب خلفها ، وابتعد صوت الحذاء وهو يوقع على الأرض نغمة واحدة تتكرر حتي اختفي

وقطب الطبيب جبينه مرة اخري . . ولكن ما لبث  برهة حتى شاعت على محياه ابتسامة مشرقة ، ونهض فجأة  في خفة وهو يصيح . يجب الا يموت . .

وألقى على حجرة الكشف نظرة استخفاف . .  ثم خرج وأوصد الباب . . في هدوء . .

وهنا سكت صديقي برهة وهو يقص على هذه القصة  ليسليني بها في مرضي ، فشوقني سكوته إلي معرفة ما انتهي  إليه الزميل المريض . وقلت له استحثه : ثم . .

قال صديقي : ثم في اليوم التالي افرد الطبيب لهذا  الشاب حجرة مجاورة لحجرة الفحص ، وابتدأ في علاجه . .

قلت : وهل اهتدى إلي دواء يعالجه به ؟  فابتسم ابتسامة خبيثة وقال : نعم . كان يعطيه ملعقتين  بعد كل وجبة . . من الماء القراح . !

لقد وجد في غرفته الجديدة ، كل ما كان يكرهه في بيته ، وجد ذلك السكون الذي كان يفزع منه إلى

الضوضاء ، فترده هذه مرتعبا إلي السكون ؛ ووجد الظلمة التي  كانت تصب في عينيه سوادا رهيبا فيرتمي بين أحضان النور ،  فتهرول روح الخفاش التي فيه إلى الظلمة ؛ ووجد الجدران  التي يضيق بها صدره المضطرم ، فيندفع إلى الفضاء الفسيح  الذي يغرق انفاسه بمثل ثقل الماء ، فيكر راجعا كالغريق  يضرب يديه على وجه البحر ، ويلقي بنفسه بين الجدران !  ووجد نفسه التي حاول ان يفر منها قد لاحقته صائحة في  أذنيه بصيحات الحياة والموت ، واليقين والشك ، والآمل  واليأس . . كل ما هرب منه من متناقضات تمزق روحه وجده في بيت الطبيب . . ولم يجد عليه إلا شئ واحد . . .

شئ واحد وجده مغايرا كل المغايرة لكل ما رآه من  أشياء ، شئ اشعره بأن هنالك ستارا كثيفا يغطيه ، ووراء هذا الستار سر ، شئ احس بأنه - دون ان يعلم - كان يبحث عنه ولا يجده ، شئ تسرب إلى نفسه كذلك الشعاع من ضوء الشمس الذي يخترق غرفة حالكة السواد . . لقد أحس بهذا الشئ أول الأمر ولم يعرفه ،  احس به أول الأمر احساسا غامضا لم يعرف كنهه ، ولم يعرف بالضبط مصدره من هذه الشبكة الممتدة في كيانه  كأسلاك البرق ، فما كان يشعر منه إلا بمثل ما يشعر به  شخص غزت في جسمه إبرة مورفين . كان يشعر بتخدير يبعث في نفسه رخاوة لذيدة ، ولكن هذا الإحساس ما لبث  أن قوي وابتدأ بتبينه . .

وكانت الدنيا بينئذ تتشكل أمام ناظريه بألوان قوس  قزح ، متتابعة ، متعددة ، زاهية ، ويختلط الموت والحياة في مزيج عجيب كان يسكره ، وتمر صور اليقظة امامه كأنها الحلم ، والأحلام تتراقص في عينيه كأنها حوادث اليقظة ، وتتداخل الاحاسيس في بعضها فلا يشعر منها إلا بنشوة  السكران ، والدماء في جسمه تتواثب وتعدو . .

وكان الطبيب يتتبع كل هذه الآحاسيس في عيني مريضه ، وكان يعرف من قبله ذلك الشئ الجديد الذي وضعه

 في طريقه ، لأنه البلسم الذي لم تشر إليه أبدا كتب الطب  واهتمت أكثر منه بزيت الخروع وكبد الحوت . .  والذي ينظر إلينا الصيادلة ساخرين إذا طلبنا إليهم تحضيره ، وهم معذورون لأنهم يجهلون نسبة مزج الأملاح والأقرباذينات التي منها يتكون . .

كان الطبيب يتتبع أحاسيس مريضه ، وهذا يدور بعينيه في غرفته ، وقد ظل أسبوعا يدور بعينيه باحثا عن  ذلك الشئ الجديد الذي يحس به ولا يراه ، حتى عثر عليه أخيرا ، نعم عرفه وعرف مصدره . . إنه كامن في تلك النظرة الطويلة الحنون التي تغرقها في عينيه ممرضته الجديدة حين تسقيه كوب اللبن في الصباح . .

وسمع الطبيب ضحكة طروبة لم يسمعها من قبل ، فاسترق الخطي إلي حجرة المريض ، وفتح بابها فرآه بعيدا عن سريره  في ركن من اركان الغرفة ، وخداه متوردان وهو يصيح صيحات نشوي جذلة ، وقد راح يلاحق ممرضته ، باحثا  أيضا ، ولكن . . عن شفتيها . .

ابتسم الطبيب ، وخرج يتمتم . لقد تمت المعجزة . .  وأوصد الباب . . في هدوء .

قال صديقي وقد كنت أتأوه من المرض : أرأيت  قلت : نعم ! لقد أحب . أما أنا .

اشترك في نشرتنا البريدية