قطب الطبيب جبينه ، وأزاح عويناته الزجاجية في عصبية ، وهو ينظر إلى الباب وقد كان يوصد برفق ، ثم تهافت على المقعد الكبير الذي يواجه المكتب ، وراح يفكر في هذه اليد المرتعشة التى أوصدت الباب ، وصاحبها ذي الوجه الأصفر الممتقع . .
إنه يخطو في تسرع رهيب نحو القبر ، ودماؤه تنسحب رويدا من كل اطرافه ، تاركة خلفها ذلك الاصفرار الباهت ، وتنكمش في قلبه لكي تجمد هناك . وهذه العروق التي ضربت اطرافها الدامية في عينية كأيدي الأخطبوط ، وتطاولت ترسم دوائر زرقاء حول مقلتيه . . إنها إنذار مخيف . ..
أي قوي في العالم تستطيع أن تقطع ذلك الحبل الضخم الذي يشده إلي الهاوية . . بل أي معجزة ؟
كان الطبيب يعرف ما هو اليأس ، وكان مستعدا دائما لأن يملأ ضميره بهذه الراحة الفكرية التى لابد منها حين
يصبح الرجاء عبثا ، ولكن هذا الشاب . . ؟ ! إن كل كلمة فاه بها كانت تنهال على ضميره كالسياط ، وتملأ اذنيه بصيحات مختلفة معذبة ، وأصوات مهلوعة كتلك الآتية من بيت يحترق . .
بيأس ؟ ! أية جريمة إذن يرتكب . . أخذ يستعيد في ذاكرته كل ما قاله ذلك التعس : " أشعر يادكتور كأنني لست من هذا العالم الدنيا مصفرة في وجهي ، وكثيرا ما تنقلب إلي ظلام والناس من حولي يموجون ويصخبون ، ولكن لا يصل إلى اذني من ذلك إلا طنين كطنين الذباب . وكثيرا ما تمر بي لحظات افقد فيها الشعور ، فإن أفقت أحس برأسي كقطعة من الجحيم ، وكثيرا ما تدفعني أيضا رغبة ملحة إلي البكاء فأبكي حتى تجف دموعي . .
يخالجني يا دكتور شعور خفي ، ويلاحقني في كل شبرا خطوه ، بأن الناس يكرهونني ويزدرونني ويشمئزون مني ، فأفر منهم واخفي نفسي عن عيونهم وحدي كمنبوذ ، حتى كرهت الناس وكرهت نفسى
أنا أعيش في جحيم لا يطاق ، ولطالما نظرت إلي المرآة فخيل لي أنني جثة بلا روح ، وان ذلك الهيكل الذي لم يعرف من الشباب غير اسمه ، قد اصبح شبحا من الاشباح . فحنقت على الدنيا ، وحطمت المرآة كي اعيش بعيدا حتى عن نفسى
أنا لا أعرف يا دكتور ما الذي يعذبني ، وكل ما اعرفه أنني إنسان ناقص لا يصلح للحياة . فترقبت الموت كالملاح التائه يرقب الشاطئ . ولكن الموت لما اقترب مني خشيته كما أخشى الحياة ، وكرهته كما أكره الناس ، ووجدتني أفر منه وأهرول كالمجنون لاختبيء من شبحه . .
أنا معذب يا دكتور بين الحياة والموت ، واليقين والشك ، والامل واليأس ، فأتيت إليك اخيرا لكي تريحني وتطمئنني . هل حياة أم موت ؟
ضم الطبيب ما بين حاجبيه ، ثم ضغط بأصابعه الرهيفة على عينيه ، كانما يريد أن يمحو من مخيلته تلك النظرات الهالعة الضارعة في عيني ذلك التعس . وحانت منه التفاته إلى خزانة كتبه حيث تجمعت كل ما توصلت إليه العقول من دقائق هذا الجسد العجيب ، وكل ما عرفه البشر من معجزات الطب . هنالك بين طوايا الكتب آلاف من أنواع البلسم ، ومن العقاقير أصناف لا تحصى
ولكن . . كثيرا ما تطغي علي كل هذا وتغطيه علامة استفهام كبيرة ، تتراقص امام عيني الطبيب كابتسامة ساخرة من فم شيطان ! فما الطب ، وما الكتب ، وما الأدوية ، وكل الوان البراعة البشرية ، أمام هذا اللغز الذي يندس احيانا في جوف ذلك الإنسان المعقد ، وينفث اعراض الموت في جسم لا يعثر فيه الطبيب على علة . .
ابتدأ اليأس من جديد يفتح ذراعيه الرهيبتين ليطويه بينهما ، فينتشله من عناء الفكر إلي هذه الراحة التي يستشعرها جسد الميت - إن كان الأموات يجدون في رقادهم مثل الراحة التي يشعر بها النائمون - ولكن سرعان ما تقلصت اسارير وجهه ، وارتسم في ذلك الخط الرهيف الذي بين شفتيه عناد شديد ، ثم انتصب في عصبية وهو يتمتم محنقا . يجب ألا يموت . .
وخطا في حجرة الفحص بضع خطوات ، ثم رجعها مرة اخري ، وعاد فجلس على المقعد الكبير وراح ايضا يفكر . أجل ! يجب ألا يموت ولكن أي معجزة من معجزات الطب تعطيه الحياة ؟ لقد قال له الآن ان يعود في المساء ، فماذا عساه يقول له في المساء ؟
ورفع الطبيب رأسه إلي السماء ، كأنما يستمد منها العون ، ثم عاد يجول بنظره في حجرة الفحص الهادئة . فهذا هو السرير الذي يتمدد عليه المرضى وقت الكشف ، وهذه منضدة ملأى بالمباضع والمماسك ولفافات القطن ؛ وهنالك في الزاوية آلات الاشعة والكهرباء ؛ وتلك في الوسط
منضدة اخري تحوي أصناف الأدوية والعقاقير ، ولكنه اشاح بوجهه ، ونظر في الأرض التي تحت قدميه ، ثم تمتم : كل هذا لا ينفع
وفجأة أفاق الطبيب من خواطره على صوت قرع الباب ، فسمح في ذهول للطارق بالدخول . ففتح وظهرت من خلفه الممرضة بوجهها الساذج الصبياني ، وثوبها الأبيض الأنيق ، وطلبت منه في استحياء تشوبه ذلة مستحبة ان يأذن لها بالإنصراف إلي بيتها . فتهلل وجهه لهذا المحيا الصبوح . وأذن لها بما طلبت في صوت شجي النبرات وخرجت الممرضة طروبة تتوارد على شفتيها الرقيقتين عبارات الشكر التى يخفيها الحياء فما تكاد تسمع ، وأوصدت الباب خلفها ، وابتعد صوت الحذاء وهو يوقع على الأرض نغمة واحدة تتكرر حتي اختفي
وقطب الطبيب جبينه مرة اخري . . ولكن ما لبث برهة حتى شاعت على محياه ابتسامة مشرقة ، ونهض فجأة في خفة وهو يصيح . يجب الا يموت . .
وألقى على حجرة الكشف نظرة استخفاف . . ثم خرج وأوصد الباب . . في هدوء . .
وهنا سكت صديقي برهة وهو يقص على هذه القصة ليسليني بها في مرضي ، فشوقني سكوته إلي معرفة ما انتهي إليه الزميل المريض . وقلت له استحثه : ثم . .
قال صديقي : ثم في اليوم التالي افرد الطبيب لهذا الشاب حجرة مجاورة لحجرة الفحص ، وابتدأ في علاجه . .
قلت : وهل اهتدى إلي دواء يعالجه به ؟ فابتسم ابتسامة خبيثة وقال : نعم . كان يعطيه ملعقتين بعد كل وجبة . . من الماء القراح . !
لقد وجد في غرفته الجديدة ، كل ما كان يكرهه في بيته ، وجد ذلك السكون الذي كان يفزع منه إلى
الضوضاء ، فترده هذه مرتعبا إلي السكون ؛ ووجد الظلمة التي كانت تصب في عينيه سوادا رهيبا فيرتمي بين أحضان النور ، فتهرول روح الخفاش التي فيه إلى الظلمة ؛ ووجد الجدران التي يضيق بها صدره المضطرم ، فيندفع إلى الفضاء الفسيح الذي يغرق انفاسه بمثل ثقل الماء ، فيكر راجعا كالغريق يضرب يديه على وجه البحر ، ويلقي بنفسه بين الجدران ! ووجد نفسه التي حاول ان يفر منها قد لاحقته صائحة في أذنيه بصيحات الحياة والموت ، واليقين والشك ، والآمل واليأس . . كل ما هرب منه من متناقضات تمزق روحه وجده في بيت الطبيب . . ولم يجد عليه إلا شئ واحد . . .
شئ واحد وجده مغايرا كل المغايرة لكل ما رآه من أشياء ، شئ اشعره بأن هنالك ستارا كثيفا يغطيه ، ووراء هذا الستار سر ، شئ احس بأنه - دون ان يعلم - كان يبحث عنه ولا يجده ، شئ تسرب إلى نفسه كذلك الشعاع من ضوء الشمس الذي يخترق غرفة حالكة السواد . . لقد أحس بهذا الشئ أول الأمر ولم يعرفه ، احس به أول الأمر احساسا غامضا لم يعرف كنهه ، ولم يعرف بالضبط مصدره من هذه الشبكة الممتدة في كيانه كأسلاك البرق ، فما كان يشعر منه إلا بمثل ما يشعر به شخص غزت في جسمه إبرة مورفين . كان يشعر بتخدير يبعث في نفسه رخاوة لذيدة ، ولكن هذا الإحساس ما لبث أن قوي وابتدأ بتبينه . .
وكانت الدنيا بينئذ تتشكل أمام ناظريه بألوان قوس قزح ، متتابعة ، متعددة ، زاهية ، ويختلط الموت والحياة في مزيج عجيب كان يسكره ، وتمر صور اليقظة امامه كأنها الحلم ، والأحلام تتراقص في عينيه كأنها حوادث اليقظة ، وتتداخل الاحاسيس في بعضها فلا يشعر منها إلا بنشوة السكران ، والدماء في جسمه تتواثب وتعدو . .
وكان الطبيب يتتبع كل هذه الآحاسيس في عيني مريضه ، وكان يعرف من قبله ذلك الشئ الجديد الذي وضعه
في طريقه ، لأنه البلسم الذي لم تشر إليه أبدا كتب الطب واهتمت أكثر منه بزيت الخروع وكبد الحوت . . والذي ينظر إلينا الصيادلة ساخرين إذا طلبنا إليهم تحضيره ، وهم معذورون لأنهم يجهلون نسبة مزج الأملاح والأقرباذينات التي منها يتكون . .
كان الطبيب يتتبع أحاسيس مريضه ، وهذا يدور بعينيه في غرفته ، وقد ظل أسبوعا يدور بعينيه باحثا عن ذلك الشئ الجديد الذي يحس به ولا يراه ، حتى عثر عليه أخيرا ، نعم عرفه وعرف مصدره . . إنه كامن في تلك النظرة الطويلة الحنون التي تغرقها في عينيه ممرضته الجديدة حين تسقيه كوب اللبن في الصباح . .
وسمع الطبيب ضحكة طروبة لم يسمعها من قبل ، فاسترق الخطي إلي حجرة المريض ، وفتح بابها فرآه بعيدا عن سريره في ركن من اركان الغرفة ، وخداه متوردان وهو يصيح صيحات نشوي جذلة ، وقد راح يلاحق ممرضته ، باحثا أيضا ، ولكن . . عن شفتيها . .
ابتسم الطبيب ، وخرج يتمتم . لقد تمت المعجزة . . وأوصد الباب . . في هدوء .
قال صديقي وقد كنت أتأوه من المرض : أرأيت قلت : نعم ! لقد أحب . أما أنا .

