وتملك الرعب البيت كله . فإن في تلوث حذائي عفواً بدم قتيل كان أشد عليهم من رؤية القتيل نفسه .
وكان ذلك بعد العشاء ، وقد تحلقنا المائدة أقص عليهم ما رأيت ظهر اليوم ، وذلك أني رأيت رجلا يسير لا حول له ولا قوة ، وإذا بآخر ينقض عليه من خلف جدار متهدم فأهوى على عنقه طعناً بخنجر في يده . وكنت على كثب من الرجل وهو يهوي غارقا في بحر من دمه . وفر قاتله والخنجر يتقطر منه الدم القاني . وهاب الناس المجرم ، فما جرؤ أحدهم أن يدنو منه .
وسقط الرجل صريعاً ولما يستطع أن يلفظ كلمة واحدة عند مجئ رجال الأمن من شدة ما أصابه من طعنات قاتلة فاتكة ، حتى أنه فارق الحياة في ثوان معدودة ، وإن منظره ليذيب أقسى القلوب وأغلظ الأكباد . .
ولقد ذهلت حقاً حتى أنى لم أتفطن للدم يلوث حذائي إلا بعد أن خضت فيه ؛ وكنت لذلك جزعاً قد ملأ الرعب قلبي . ومضيت لوجهي لا أكاد أعي مما حولي شيئاً إلا منظر الرجل والدماء حتى وصلت الدار .
ولقد بلغ بي الجزع حداً كنت أتمثل الرجل في كل ما تقع عليه عيني ، وصدفت عن العشاء . وأصغى القوم وكأن على رؤوسهم الطير ، وكان أكثرهم إصغاء صهرى " حسين " الذي أثر عنه الخوف المميت من العفاريت . ووجه إلي الكلام في نصيحة لا تخلو من التأنيب ، وكيف أني أسهو كثيراً ، وكيف أنى لقيت الجزاء الوفاق بما كنت أسهو .
فحسبي تلوث حذائـي . . واقترح آخر الأمر أنه من الخير ألا يبقي هذا الحذاء المشئوم في البيت . فجزعت لذلك .
إلا أنه لم يعدم في إقناعي حججاً لا يدخل إليها الباطل - على زعمه - مما قد سـمعه من ناس لا يمكن البتة الشك فيما يقولون ، ومما وقع له بالذات من أحداث .
وأمضينا الليلة في حديث ممتع . . مخيف . . كل يقص ما توارد على الخاطر من ذكر الشياطين ، وكل يروي ما مر به أو سـمعه مما تناقلته الألسن ووعته الذاكرة عن أسلافنا الأقدمين عفا الله عنهم . وكان " حسين " أكثر الجميع رواية . حتى خيل إلينا أن البيت كله أشباح ، مما كان يلقيه في روعنا في أسلوبه الأخاذ من أقاصيص ملؤها الرهبة والخوف .
وجاء وقت النوم . وكنا قد انتقلنا لحجرته ، فتخففت فيها مما علي وتركت سهواً في حجرته الحذاء ومضي كل لحجرته ينام .
وانتصف الليل ، والبيت هادئ ساكن . وإذا بحركة خفيفة إلى جوار الباب ، حيث تركت الحذاء ، فسمعتها شقيقتي ، فأيقظت حسيناً في همس قالت : حسين ! أتسمع ؟ فاستيقظ وهمس بصوت أخفت منها : ماذا ؟ أي شئ ؟ قالت : قم فانظر أي صوت هذا . قال في صوت آلي : أي صوت ! أي شئ !
وبينما هو كذلك وإذا بالحركة الأولى تحدث ، فتشبثت به زوجه وقالت : أتسمع ؟ الحذاء . فبسمل ثم استعاذ بالله وقال : ألم أقل لك ؟ ! وظلا صامتين .
ومضت على ذلك دقائق قليلة ثم سمع في ردهة الدار صفير خافت كفحيح الأفعى ، وكان له صدي في سكون الليل موحشاً رهيباً ؛ فدفن حسين رأسه في الفراش ، وما أخرج منه حتى أنفاسه . وطالعني في الصباح بوجه شاحب قال : ألم أنصحك البارحة فلم تصدق ؟ ! قلت : ما خطبك ؟ قال : الحذاء ! قلت : وما به ؟ قال : ألم تسمع ؟ قلت : ما سمعت شيئاً ؛ فإن نومي كما تعلم ثقيل . قال : فاسألها . وأشار لزوجه .
وقصت على هذه ما سمعت ، وما تكاد تتملك زمام نفسها من فرط الخوف . . وعجبت لأمرهم وكنت إلي السخرية أقرب مما أثار حسيناً ، ورماني بما يري به كل متغطرس مكابر . . وصحا كل من في الدار وجعلوا يتساءلون عن مصدر صوت منتصف الميل ، وعن تلك الأقدام التي كانت تغدو وتروح في الردهة ، ثم عن هذا الفحيح .
ومضي اليوم . وإنه ليوم . . فما كان فيه غير حديث القوم عما كان بالأمس . وجعل كل يفسر ما يتراءي له
من تبرير ظاهرة وجود العفاريت . يهجم الليل ، وأبى الكل إلا النوم في حجرة واحدة
حتى الخادم . فلم أستسغ هذا . وآليت إلا أبرح حجرتي مهما بلغ الأمر ، فأشفقوا على وكلهم لذلك مستنكر ، وإنه لولا التصميم لأناموني معهم قسراً . وعزمت أن أواجه العفريت . ونام الكل . غير أن النوم ما لبث حتى غلبني كذلك .
فقد كان نالني نصب في يومي الفائت . . وساد البيت هذا الجو من الصمت والرهبة . وفي هدأة من هذا الليل الساكن سمعت الأقدام تمشي في تؤدة في ردهة الدار , حتى وصلت باب الحجرة الأولى ؛ فانفتح .
وكان شبحاً ما ظهر منه غير عينين براقتين قد اكتسي حلة سوداء ، وتلثم بعمامة سوداء ، وتدلت من يده عصا غليظة ، وركب هذا الشبح فوق الحذاء المعلوم . وكان منتصب القامة يـمشي في بطء . ويسير دون التفات إلى يمين او إلى شمال ...
وكانت شقيقتي إذ ذاك ترضع وليدها الصغير ، فرفعت رأسها ، فرأته . فارتمت فوق الوسادة تدفن رأسها فيها دفناً وهي توقظ حسيناً في ذعر ، فانتفض من نومه ، وما أن رأي الباب مفتوحا وهذا إلي جواره حتى هوى على الفراش مغشياً عليه أو هكذا بدا . .
وبعد أن أفاق لم يشأ أن يتكلم إلا بعد إغلاق الباب . ثم مضي يحدث من تجمع حوله عن الشبح الذي ظهر واختفىي في أقل من لمح البصر . . والكل يفرق رعباً دون أن يجرؤ أحدهم فيفتح الباب . ثم آووا إلي أماكنهم جزعين صامتين .
وما شملهم النوم شيئاً حتى انبعث هذا الصفير الخافت المرعب . ثم أنة طويلة . وحشرجة متقطعة . فانتبهت شقيقتي أول ما انتبهت ، وسألت حسيناً في همس : أتسمع ؟ قال : أجل . فاخفضى من صوتك . قالت : ألا ما قمت فرأيت أي شيء هذا ؟ قال : لا حول ولا قوة إلا بالله اخفضي يا سيدتي من صوتك . . اللهم إنا نعوذ بك .
ولم يكد ينتهي من الاستعاذة حتى انثنى مقبض باب حجرته في بطء وتحرك في تؤدة مفتوحا . فإذا بحسين قد تقلص فوق الفراش حتى صار ربع حجمه ، وأخفي كل
أطرافه تحت الغطاء حتى لم يظهر منه شئ . وانقذف عليه الحذاء . فلم يتحرك . إلا أنه أخرج
رأسه من تحت الغطاء في حذر فرأي الحذاء ؛ فأخفي وجهه في سرعة خاطفة وصاح صيحة مكتومة : الحذاء ...
وأيبس الرعب قلوبهم فما قام منهم أحد . . وهوت العصا فوقه ثم انقفل من بعد ذلك الباب . ولما استوثق من ذلك أنّ حسين طويلا وهو تحت الغطاء وقال : واقدماء ! انضربت والله !
وهب الكل أيقاظاً وقد تملك الخوف كل جزء من أفئدتهم ، والتصق كل منهم بمن هو أقرب إليه . وتشاوروا فيما بينهم دون جلبة ، ثم تقدموا بكتلتهم وفتحوا الباب .
فإذا بملابس حسين ممددة في مثل شكل الإنسان ، وإذا بالحذاء فوقها ، فدفعوا الباب فأقفلوه كأسرع مما فعلوا .
وهرولت إليهم إذ ذاك من حجرتي ركضاً . وصحت بهم أن افتحوا الباب فلم يعقلوا حتى استوثقوا من صوتى ، فاندفعت نحوهم وقد بدا علي الرعب . فاحتضنني حسين وجعل يعالجني بصب الماء البارد على أطرافي ورأسي بعد أن أعلمته بأني حسيت رأسي قد شجت من ضربة لا أدري مأتاها .
وبعد أن هدأت شيئاً أحببت العودة لحجرتي فمنعني من ذلك كل المنع ، وقال إنه عين الجنون . واحتجزني عنده ثم قال كالمخاطب لنفسه : اللهم الطف بنا وعوضنا عن هذا البيت خيراً .
وأضأنا النور كله . وخرجنا جميعاً نستطلع ، فألفينا ملابسه حقاً ممددة في مثل شكل الإنسان ، فأخذه العجب وصمم على إزالتها من البيت وعدم بقائـها بحال من الأحوال . فهي قد ( أزفرت) فما لها بعد ذلك من بقاء . . فأمهلته للتروي فما ثناه عن عزمه شئ . وطوي الملابس وقذف بها من الشباك . وعطف على الحذاء فنهضت أمنعه جزعا وصحت به : حسبك ! ليس عندي والله غيره . فجذبه مني ورمي به دون أن يأبه لذلك ، وارتميت على أقرب مقعد إلي ، يتفصد من وجهي العرق غزيراً . وقدنلت عن عبثي الجزاء . فما كان هذا العفريت أحداً . . سواي .
( كلية الآداب )
