الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 259الرجوع إلى "الثقافة"

قصة :، المجدف

Share

حدثنى صاحبى قال :

. . . وكان لابد من الرغيف . وإنه لثالث يوم لا أعرف فيه للأدم طعما . وإن البرد ليتكالب على . وإنه لينفذ من الجلد الواعى فيستقر فى صلب عظمى . إن معدتى لتصرخ ، وإنه الجوع .

كنت لا أمتلك فلسا واحدا أشعر معه أنى قادر على تسكين هذه المعدة الثائرة ، وإن الأصدقاء لتنفر منى وتزور ، وإن الناس لتنظر إلى كالذى لست منهم فى شىء .

- ومضيت أضرب فى أزقات القاهرة على أعثر على واحد ممن زعم يوما أنى كنت صديقه ، وأنى بذلت نفسى راضيا لأيهم يوم كنت ...

أما اليوم ... اليوم أقفرت الشوارع والأزقة من الأصدقاء بعد أن سدت فى وجهى أبوابهم !

وأذن الظهر فالعصر فالمغرب . فأذن معها جوفى أذان الفناء . ونفذ الجهد . وإن خطوة واحدة أخطوها لن تكون إلا إن كانت إلى القبر .

وكنت حينئذ فى أحد هذه الميادين الكبيرة ، فارتميت على مقعد من هذه المقاعد الصخرية المبعثرة فى أرجائه ، والتى تنفث السم فى برودة يحسها الجالس . ولكن شعرت براحة ، وليت لا أعى مما حولى شيئا ؛ وإنما هو استرخاء شملنى جميعا حتى عقلى المكدود . وربما رضيت بذلك . غير أنه جوفى المستعر ، كيف يهدأ ؟ وطفقت ألتمس الحيلة . وأية حيلة فى شخص معدم لا يملك من هذه الدنيا غير نفسه وكسوته التى يرتديها . كسوة لا يدرى تماما متى صاحبته ، وليس يمكنه كذلك أن يقدر متى تنفر منه وتزور ازورار الصحاب ، وإنه ليعمل جهده فى حفظ هيئتها رغم عبث الأيام بها .

ولكنها الساعة أبت وحدها إلا الوفاء . ولابد من التضحية .. لأنها البطن ، ولأنه الجوع !!

ونهضت وكلى الإعياء حتى صرت إلى هذه الحوانيت بين أزقة الأحياء التجارية أعرض ( سترة بدلتى ) العزيزة . . . ووانفساه . كم لقيت وأنا أعرض بضاعتى ( الغالية ) من هزء القوم وسخريتهم . حتى من الله على بشخص قبل أن يشتريها . . . إشفاقا !

وكانت بضعة دراهم لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة عدا ، إلا أنها دراهم .

وقذفت بنفسى إلى أقرب مطعم ودفعت له المال وقلت له : (( هات بهذا كله )) .

وتبسم الرجل ، وقدم لى من الطعام مالا أدرى نوعه فالتهمته كله

وخرجت ، وقد هدأت شيئا من ثورة البطن . ولكنى شعرت برعدة تتمشى فى أعضائى ... لست أدرى أهى مما تناولت أم من هذا البرد القاتل ، أم من فرط النشوة بانتصارى على الجوع ، أم من كلها جميعا ؟

ومع البرد ذكرت المأوى . قلت لا بأس ! ولا على لو جعلت أطوف على بيوت هؤلاء الصحاب فربما وجدت أحدهم ، ولعله أن يشفق فيأوينى الليلة على علم منى بأنما ذلك هو السراب . ولكنها محاولة .. فالبرد قارس والريح عاصفة والسماء ممطرة ! وكنا فى منتصف يناير ، والجو على أشده . وكنت قد عزمت على ألا أفرض نفسى على أى صديق غير هذه الليلة حتى يمن الله على من هذه بالفرج حيث كان موعدى مع فؤاد بك . . وذلك أنى كنت قد أنجزت له بعض الأعمال الأدبية فقدر لأتعابى جنيها مصريا ، ووعدنى بهذا الغد ، وحسبى هذا المبلغ الذى كان مبتغاى فى مثل هذه الأيام السود .

وهجم الليل ، ولم أعثر على صديق واحد فى بيته ، أو كذلك خبرت ...

وقست الطبيعة وأدلهم الجو . وما هو إلا أن دلفت

إلى مسجد من هذه المساجد الأثرية ، وقبعت فى ركن منه احاول بائسا النوم . وكيف لى به ؟! برد وجوع ، وكأنى والله ما طعمت شيئا ، وكأنما كنت جوعانا لأيام . . . غير أنى رضيت بالذى أنا فيه . فقد أمنت المطر والريح وإن كنت لم آمن البرد القاتل .

وعرفت عندها أية خسارة كانت فى ضياع (سترتى) . أما النوم فقد تأكدت الليلة بأنه أصيب بداء الأصدقاء

فلا رجوع له . اللهم إلا وسنات تطوف ثم تولى كأسرع مما جاءت . . .

لست أدرى أى وقت مضى ، وكذلك شأنى . غير أنى سمعت صوتا يتطرق إلى سمعى كأنما هو آت من أغوار قبر عميق . . لم أعره اهتماما ، إلا أنها لكزة قاسية وصوت أجش قبيح أخرجانى عما كنت فيه . وإذا الضارب خادم المسجد وهو يوقظنى لصلاة الفجر .

ورأى الرجل تباطىء فلكزنى لكزة أخرى كادت تشهد لها أضلاعى . قبحه الله . أفيدرى هذا المخلوق أن الماء لم يصافح جسدى لثلاثة أشهر أو تزيد . .

وكان أن وقفت مع الواقفين ، وصليت مع المصلين ، ثم سلمت مع المسلمين . وما كنت غير شبح وقف ثم انحنى ثم قعد فسلم .

أجل ! كنت قد نسيت ربى ، بل نسيت كل شىء . كل شىء ... إلا بطنى ...

وكان الصباح ، وكان معه الأمل . فالجنيه لا يلبث أن يقع بين يدى رزقا حلالا . وإن منتصف الثانية بعد الظهر لواحتى المورقة فى بيداء حياتى المقفرة .

وجعلت أستحث الساعات ، وكأنما استحالت دقائقها دهورا تمر فى بطء وملل ، احتملتها صابرا متصبرا .

وبينا كنت فى بعض الطريق إذ وجدتنى أمام ( قهوة بلدية ) كان عاملها يرش ماء من قدر فى يده فبللتنى ، فنظرت إليه معاتبا . فصعدنى بنظرة ساخرة وقال :

- امض لشأنك . فوالله إنها لأنظف من وجهك .

وعزت على نفسى . أيسبنى مثل هذا الصعلوك على ملأ من الناس .. وتغاضيت تعففا .

وهمت بالسير إلا أن الشقى أبى إلا أن يؤكد سوء خلقه ، فقذف عمدا بما تبقى فى القدر من ماء فبللت القميص . فتضاحك معتذرا وقال :

- سيان يا ( افندى ) فإن القميص ليس أنظف من الأرض فى شىء .

وثار دمى . فمهما بلغت بى الأيام ونالت منى ، فإن نفسى ما زالت أبية . فرجعت للوغد أزجره . فتماسكنا .

وتمزق القميص . فكان مركز الشرطة ، وويل لى من من مركز الشرطة ورجال الشرطة . . ويلى . فإن أحدهم ليظن وهو فى كرسيه إنما هو سيد الدنيا . وويل لدنيا ذلك شأن سيدها ... كل من فى مركز الشرطة سواء . فلا والله لقد كان فتاى ألطف مدخلا ، وأرق حاشية معى بعد إذ لقيت منهم الذى لقيته . .

ويا ليتنى . . ويا ليت !

وخرجت . وكانت الساعة الرابعة . فرحمتك يارب السموات . . . وجعلت أنهب الأرض سيرا حتى وصلت إلى منزل ( البك ) وكلى الإعياء .

تقدمت فى وجل أضغط الجرس الكهربى . وإن قلبى لينبض فى قوة وعنف ، وخوف يحدوه الرجاء .

وفتحت الخادم الباب . فعرفتها بنفسى . فقالت مؤنبة :       - إن سيدى البك انتظرك حتى آخر لحظة قبل مبارحة القاهرة إلى ( العزبة ) ...

وأخشى ألا يرجع قبيل أسبوع .

يا رحمة السماء ... ويا أيتها الأقدار الطاغية . حسبك سخرية فقد بت لا أحتمل حتى نفسى !!

لست أدرى مما قلت بعد ذلك شيئا . إلا أنها حمم من نار قذفتها بطنى الثائرة ونفسى الملتهبة غيظا . . . جدفت وجدفت . . .

ونظرت إلى السماء وجعلت أتوعد بقبضتى

وسمعتنى سيدة الدار ، وما كدت أخطو عن الدار خطوات حتى كان الخادم فى أثرى ..

وجىء بى إليها . فاستوضحتنى الأمر . وكأنما كان قد تنفس عن صدرى الملتهب ، فقصصت عليها كل شىء . كل شىء . . وطفرت من عينى الدموع .

كيف قلت لها هذا الذى كنت أضن به حتى على نفسى فلا أثير شجنها القاتل . لست أدرى ؟ كيف قلت لها إنى هذا الشاعر البائس الذى طوحت به الأيام فى بيدائها المقفرة ما أظلتنى فيها شجرة واحدة أفىء إليها من لظى الأيام وعبثها ...

كيف كنت فى ربيع الحياة وما أدرى ما ربيع الحياة ! كنت شقيا ...

ولست فيها شيئا غير هذا الذى رأيته فيما مضى من أيام صباى ... لمست فيها شيئا كنت أفتقده . كان حلما يطوف بى فى ساعات الوحدة .

ما هذا ؟ ... إن السيدة ليترقرق عينها الدموع ... ويح نفسى ...

- ما يبكيك ياسيدتى ؟

ـ . . .

ودعت بطعام . فمقته ؛ وكأنما أرادت لتهدىء من روعى فدعت كذلك بحلة ووعدتنى ضعف ما كنت أرجوه من زوجها إليك . وجلست إلى جوارى .

وشعرت بهذه اليد الناعمة تمر فى رفق فوق كتفى . فجعلت أنقبض على نفسى تحرجا . فتبسمت . وصمتت شيئا ثم قالت : أرجو ألا تحسب أنك وحيد فى شقائك .

ومضت تتكلم ... وتتكلم . وإنى لأرجو ألا أكون قد سمعت شيئا ، ولكننى سمعت ...

وكأنما شاءت ممايثة القدر إلا أن تفرض عليها ما فرضته على منذ حين فقالت ما قالت ..

وتنفس صدرها عما احتبسته سنينا طوالا ...

وجمع بيننا الألم . فإنها لكذلك تعيش فى هذه الحياة

ولا تدرى ما الحياة ... وإن هذا الشيخ الذى نضب معينه وخلا منه ، لا يقنع بسجن هذا الطائر الفرد فى قفص من الحرمان إلا أن يحوطه بقضبان من الغيرة ... الغيرة حتى الجنون . هذا الجسد الحى ... هذا الجسد الصارخ يمنعه لذة الحياة صاحبه البالى وتقاليد العائلة ...

وشعر كل منا كأنما هو خل لصاحبه منذ سنين . . . وطرحت عنها قيود المجتمع والعائلة وزوجها . . الهم اليقن ، فجلست إلى جوارى .

كنت مضطربا ، أردت أن أركز فكرى الشارد فى هذا الذى تقول . كنت أحاول أن أضم إلى هذا الفكر التالى ، فأبى إلا أن يكون مع البك فى رحلته إلى (العزبة) .

أيظن أنى الساعة إلى جوار من يغار عليها حتى الجنون ؟ . . . أيظن أن الذى أشفق عليه يوما لصيقا إلى حليلته ؟ ...

وعجبت ... أين هى منى ؟! أين هى من ذلك الشريد الذى نبذه العالم وازور منه الصحاب ؟! أى نفع كانت ترجوه منى ؟! ونظرت إليها ... فارتدت عيناى .

هذه الآيات من الضنى والحرمان لتتضور تحت أهدابها . . عميقا .

أهو القدر الذى أبى إلا أن يهزهز نفسى فأقرأ فى عينيها ما قرأت . . . وكيف كنت المختار فيرمينى بأعنف ما استهدفت له فى أيامى السود . أهو مجرد انفاق وتصاريف ؟!

وعظم على الأمر فبت نهبة لأفكار متضاربة عنيفة .       واستثار جمودى هذا الجسد ... الصارخ . فأقبلت على . أقبلت على هذا المخلوق فى قميصه المرقع وشكله المغبر . . . أقبلت تعالج هذه النفس المحزونة . . . والشباب الضائع .

وفى بطء . انفتح الباب ، وكان البك . ورآنا . . .

ونفر عنى صاحبى الشاعر البائس ، وجعل يتوعد السماء بقبضته . . ويجدف . .

اشترك في نشرتنا البريدية