الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 457الرجوع إلى "الثقافة"

قصة الأسبوع، أناتول فرانس، يروي قصة حبه الأول

Share

كنت صبياً مفرط الذكاء ، ولكني ما بلغت سن السابعة عشرة حتى تبدلت فصرت غبيا . وقد بلغ من حيائي وقتئذ أني لم أجالس الناس أو أحبهم حتى يبلل العرق جبيني ، وكانت طلعة المرأة توقعي في شبه ذهول .

عرفت بين صديقات أمي سيدة تاقت نفسي إلي إطالة المكث معها والتحدث إليها . كانت هذه السيدة أرملة موسيقار يدعى " أدواف جانس " مات في ميعة شبابه مشهوراً . وكان اسمها " أليس " . ولم أتبين قط لون شعرها أو عينيها أو أسنانها ، وكيف يستطيع الإنسان تبين ما يموج ويلمع وبتلألأ ويبهر ؟ ! ولكني كنت أجدها أجمل من الآحلام ، ويخطف طرفي منها لألاء ليس له في الطبيعة نظير . واعتادت أمي أن تقول عنها إن الذي تفرس في قسمات وجهها لا يصادف حسنا غير عادي . واعتاد أبي عند سماع مثل هذا القول منها أن يهز رأسه هزة غير المصدق ؛ ذلك لأن هذا الوالد المفضال كان يحذو حذوي ، ولا يتفرس في قسمات وجه هذه السيدة . ومهما يكن من أمر تفاصيل ملامحها فإنها كانت في مجموعها جذابة باهرة ، وكل ما أرجو ألا تصدقوا أمي ، فقد كانت " أليس " جميلة حقا . كان حسنها يجذبني إليه ، والحسن شيء وديع ، وكان كذلك يفزعني ، والحسن شئ رهيب

بينما كان ابي يستقبل في إحدى الليالي بعض أصدقائه دخلت علينا " أليس " غرفة الاستقبال ، وكان يرتسم على وجهها من أمارات طيبة النفس ما رد إلي بعض شجاعتي . وكثيرا ما كانت تظهر بين الرجال بمظهر الملكة ذات السلطان

وهي تلقي الفتيت للعصافير . ولكنها كانت تتبدل فجاءة فتبدي تعاليا وزهوا ، ويتصلب وجهها اللطيف ، وتحرك منديلها المعطر كأنها تبعد به أسباب الاشمئزاز المحيطة بها . ولم أستطع تفسير كل هذا في حينه ، ولكني استطيع تفسيره الآن . فقد كانت " أليس " غانية ذات دلال . قلت لكم إنها دخلت قاعة الاستقبال في تلك الليلة حاشة راضية ، وأنها القت على كل فرد من الحضور ، حتى على أكثرهم استكانة وهو أنا ، فضلة من ابتسامها . وقد علق بها نظري فلم يتحول عنها . وخيل إلي أني لمحت في عينيها أثر حزن دفين فاضطرب كياني ، ذلك لأني كنت كما ترون فتى طيب القلب . وطلب إليها الحاضرون أن تعزف على البيان ، فوقعت عليه مقطوعة موسيقية " لشوبان " ولم تسمع أذناي نغما أرخم مما سمعت حينذاك وحسبت أني أحس أصابعها المستطيلة البيض كأنها تداعب أذنى وتمسها مسا علويا

وما انتهت من العزف حتى توجهت إليها من غير وعي أو تفكير ، وصحبتها إلي مقعدها وجلست إلي جوارها ، وملأ المطر المنبعث من صدرها رئتي فأغمضت عيني وسألتني عن مبلغ حبي للموسيقى ، فسرت رخامة صوتها في كياني مسير الكهرباء ، وفتحت عيني ثانية فرأيتها تنظر إلي ، وكانت هذه النظرة  كافية للقضاء علي قضاء مبرما ، وأجبتها وأنا انهدج من فرط الإنفعال :

نعم باسيدي ولم تنشق الأرض في تلك اللحظة وتبتلعني لأن الطبيعة لا تستجيب دعوات الناس مهما كان مبلغ صدقها وحرارتها. وقضيت ليلتي وأنا أنعت نفسي بالغباء والفظاظة وأنهال على وجعي لكما . وجعلت أقلب الأمر على وجوهه المختلفة حتى طلع الصباح ، ولكني لم أهادن نفس ، وطفقت اقول لها : " عندما تودين أن تقولي لحسناء إنها جميلة بل أجمل من الجمال ، وإنها استطاعت ان تحمل البيان على ان

يتهد ويفشح ويسكب الدمع الغزير ، تعجزين إلا من ترديد هاتين الكلمتين : نعم يا سيدي . . أنت أخيب الخياب ، وعليك أن تتوارى عن العيون .

ولكني لم أستطع مع الأسف أن أتوارى عن العيون ، إذ كان لزاما علي أن أظهر بين التلاميذ في الفصل ، ولدي تناول الطعام ، ولدي خروجي في صحبة والدي إلى النزهة . وكنت أداري عن الناس ساعدي وساقي ورقبتي ما استطعت ، ولكن الأعين كانت تراني مع ذلك فأشعر بأني شقي نمس .

كانت عبارة : " نعم يا سيدي " تطن في أذني على الدوام ، ولم تكف ذكراها عن ملاحقتي ، بل كانت يقظة ضميري لها ظاهرة رهيبة . ولم يكن ما أعانيه ندماً على ما بدر مني ، لأن الندم يهون إذا ما قيس إلى الهول الذي أضناني . ومرت بي ستة أسابيع وأنا على هذه الحال المحزنة ، حتى شاركني أهلي في حكمي على نفسي ، واعتقدوا معي أني في مأفوك .

نجحت في الامتحان الدراسي بعد مرور ستة أشهر على ذلك الحدث الفاجع الذي ألم بي ، ورأى أبي أن يجزيني على اجتهادي ، فأطلق سراحي ، وأرسلني في العطلة الدراسية إلى فسحة الدنيا عند زميل له يمارس الطب في " سان باتريس "

و " سان باتريس " التي رحلت إليها بلد صغير ، يقع على شاطيء نورموند ، وينحدر من غابة كثيفة إلى رمال البحر . وكان الشاطئ هناك مهجورا موحشا ، وقد وقفت مبهوراً أمام البحر الذي شاهدته لأول مرة في حياتي ، وأمام الغابة الغارقة في صمت وديع ، وشعرت بأن أمواج نفس تجاري أمواج العباب وأمواج الشجر واعتدت أن أجوب تلك الأنحاء على ظهر جواد ، أو أن أستلقي على الرمال ، وأتوق إلى تحقيق رغبة ملحة مجهولة يدل عليها كل معلم من معالم ذلك البقاع ، ولكني أبحث عنها فلا أجدها . وقضيت أيامي في تلك العزلة أسكب الدمع السخين .

وكم من مرة شعرت على غرة بأن قلبي ينتفخ ويثقل ، حتى خيل إلي أني سأسلم الروح . ولعل هذه الغفلة عن سبب اضطرابي وسر رقبتي الغامضة كانت تطول ، لولا أن أحد الشعراء كشف لي ذلك المجهول .

كنت أتذوق منذ عهد الدراسة نفحات الشعراء ، ومن حسن حظي أن هذا الذوق لم يتبدل حتى اليوم وقد همت في ذلك العهد شغفاً بالشاعر فرجيل ، وكنت افهم شعره دون ما حاجة إلى شرح أساتذتي . في العطلة احتفظت بنسخة من ديوانه في جيبي ، وقد فتحها في أحد الأيام ، وجلست وانا اقلب صفحاتها وأستاف عبير الغابة ، ووقعت عيني على ما يأتي :

" التجأ أولئك الذين قضى عليهم الحب القاسي ، وهم يعانون لفحات الحنين الالم إلى جوف الغابة ، وتواروا في مسالكها الخفية ، وللغتهم غياض الآسي على ظلالها " . آه ١ ! أنا اعرف قياض الأسى هذه ، فهي مل . قلبي وخاطري ، ولكني كنت أجهل اسمها حتي هداني قرجيل إليه . لقد عرفت الى محب متيم ، والفضل في ذلك يرجع إليه ، ولكنبي لم أفطن إلي الراء التي وقعت في حبها . لم أعرب من هي حتى حل الشتاء وقابلت أرملة " جانس " وأملك أسها القارئ كنت أكثر مني قطنة ، فخزرت من بادي الأمر أن " البس " بعينها هي التي تيمت مؤادي

كان شقائي بالغ القسوة ، ذلك أني كنت أرى أليس واستمع إلي حديثها العذب واقول لنفسي : " هي المرأة التي أحبها دون سائر نساء الأرض ، ولكنها مع ذلك تجدني دون سائر الرجال أسخف أهل الأرض وأبغضهم إليها " . وكنت إذا جلست أنصت إلي عزفها ، وأقلب لها صفحات القطع الموسيقية ، وأري خصل شعرها تداعب جيدها الناصع البياض ، أحبس لساني حتى لا اقول لها : " نعم يا سيدتي " وقد آليت على نفسي الا أنبس بكلمة في حضرتها . ثم جري الزمن ، وتبدلت الحال ، ولم أعد

ارى " أليس " على أني حافظت على ما عاهدت نفسي عليه حتى انقطعت صلتها بنا .

والتقيت هذا العام بالسيدة " أليس " في نزل يشرف على نبع معدني . وقد وجدت حسنها يتوه تحت عبء نيف ونصف قرن . هذا الحسن الذي آثار في نفسي أول اضطراب ، والذ اضطراب ، ولكنه ظل رغم تصوحه يحتفظ بعذوبته !!

وقد وقفت على قدمي حين رأيتها ، وحييتها بقولي : - عمتي صباحا يا سيدتي .

وكان المشيب قد جلل رأسي . ومما يؤسف أن صوتي لم يضطرب ، وأن عيني لم تختلج ، فقد ولت أيام الصبا . ورغم هذا التبدل فإن السيدة عرفتني دون أي جهد ، وسرعان ما ألفت بيننا الذكريات . وساعد كل منا رفيقه بحديثه الطلي على قتل الوقت في ذلك النزل الممل . ثم جدت بيننا روابط زادت الفتنا توثقا ، ولم تك تلك الروابط المتينة إلا اشترا كنا في الوهن والعذاب ، فكنا نجلس تحت أشعة الشمس كل صباح ونتحدث عن امراضنا وعن حدادنا ، والحديث يطول في مثل تلك الشجون . وكثيرا ما كنا نرفه من نفسنا بالمزج ما بين ماضينا وحاضرنا. وقد قلت لها في يوم من الأيام

" كم كنت جميلة ياسيدتي وكم كنت محبوبة ! " فأجابت مغترة الثغر .

- " هذا حق ، وأراني أستطيع الاعتراف به الان بعد أن أدركني المشيب . كنت موضع الرعاية والإعجاب ، وهذا يعزيني في شيخوختى وكثيرا ما امتزج الإطراء الذي كان يكال لي بالملق. ولكنك ستدهش إذا ما ذكرت لك لونا من الإطراء سمعته فكان له في نفس أبلغ الأثر " .

- أرد أن أسمع ذلك . - " سأقص عليك الأمر إذن . فتى ذات ليلة من عهد طويل الأمد ، اضطرب تلميذ صغير السن وهو ينظر إلي اضطرابا لم يملك معه إلا أن يجيب على سؤال وجهته

إليه بقوله : " نعم ياسيدي " . ولم يقم شاهد على إعجاب الناس بي استثار زهوي واغتباطي مثل هذا الرد : " نعم ياسيدي " وارتباك صاحبه وهو يفوه به . واست أدري ما الذي منعنى إذ ذاك من تقبيل وجنتي ذلك الصعلوك الصغير " .

اشترك في نشرتنا البريدية