الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 453الرجوع إلى "الثقافة"

قصة الأسبوع، الأمومة

Share

لكاتب يونانى معاصر يريد كاتب هذه القصة أن يبرهن بقصته على قوة عاطفة الامومة عند نساء الصين . وعلى أن امم الشرق قد أوتيت بفطرتها الخلق الكريم .

قال الكاتب : بدأت حوادث هذه القصة بعد انقضاء أكثر من شهر على نزول اللاجئين من الارمن في مدينة مارسيليا . وإقامة معسكرهم في ارياض المدينة ، حتى بدا ذلك المعسكر وكأنه إحدي القري .

وقد استقر بهم المقام ، ولا أقول على خير حال ، بل على خير ما يستطاع .

وكان الاغنياء وذو الثراء منهم يقيمون في مخيمات ، أما الفقراء ، وذو الحاجة ، فكانوا يسكنون الزرائب التي أدركها البلى ، ونال منها الخراب .

وظلت جماعات من المهاجرين تتحذ مأواها تحت بسط مدت على قوائم أربع من العصى . وكانوا يحسبون أنفسهم جد سعداء لو ظفر واحدهم بملاءة يشدها على جوانب الأوتاد لتجعل أهله في مأمن من خائنة الأعين . ثم رضى القوم كلهم بما اصبحوا عليه من حال . وخيل

إليهم انهم استبدلوا أرضا بأرض ، وأوطانا بأوطان . وطفق الرجال يعملون . كل فيما أعد له من عمل . أو فيما لقى من عمل . وذلك حتى لا يعضهم الجوع بنابه ، وحتي بجد أطفالهم ما يسد الرمق .

وشذ عن هؤلاء القوم واحد منهم ، كان لا يستطيع ان يعمل عملا ، وكان يقتات من فضلات ما يجود به عليه

جيرانه ، وكان هذا العيش يؤوده ويثقله . ذلك لانه كان في الرابعة عشرة من عمره ، وكان قوي البنية ، مفتول العضل .

ولكن كيف يفكر في البحث عن عمل ، وهو يحمل فوق ظهره طفلا حديث عهد بالولادة ، وهذا الطفل الذي ولدته امه ثم ماتت ، لا بني عن الصراخ من الغداة إلى العشى من أثر الجوع

ومن ذا الذي يرضي بأن يتخذ " ميكالي " خادما . وقد لج قومه في طرده من حيهم ، وصراخ الطفل وصياحه ، بل كدت اقول عواؤه ونباحه ، قد افض مضاجع القوم ، وعلمهم ما طعم السهر

وقد كانت الأرض الفضاء تدور " بميكالي " وهو يطوف بالأحياء متعبا مكدودا . وقد كاد يورقه الصمم ذلك الطفل الذي ولد ليكون مصدرا لشقائه ، وكأنه قد اختار أنحس الساعات ميعادا لمولده

وثار ثائر القوم المهاجرين ؛ فقد أضاف هذا الطفل شقاء جديدا إلى شقائهم المقيم المقمد ، ولطالما تمنوا لو أن الموت ادركه ، ولكنهم لم يبلغوا هذه الأمنية ؛ ذلك لأن الطفل كان مصرا على ان يعيش ويبقى ، وكان مظهر إصراره ذلك البكاء الطويل !

وكان النساء يضعن أصابعهن في آذانهن إذا سمعن صياحه ، وكان " ميكالي" يروح جيئة وذهابا ، وكأنما هو قد أفرط في الشراب ، فأضر به السكر .

وكان لا يملك درهما يشتري به لبنا ، ولم تكن امرأة في قرية المهاجرين تستطيع ان ترضعه ؛ وفي هذا ، بل في أقل من هذا ، ما يذهب العقل ويورث الجنون .

ولما ضاق " ميكالي " بهذا الأمر ذرعاً توجه بالطفل إلي الجانب الآخر من قرية المهاجرين ، حيث يقيم قوم من اللاجئين ، من سكان الأناضول . وقد سمع " ميكالي " أن

بين القوم امرأة صما ، وقد تأخذها على الطفل شفقة ، وسار يحدوه الأمل العريض .

وكان البؤس المخيم هناك صورة من البؤس الخيم في محلة قومه . فكانت العجائز من النساء يرقدن فوق حصر بسطت على الأرض ، وكان الاطفال يلعبون في برك من الأوحال وهم حفاة .

فلما جاء " ميكالي " قام النساء يسألنه : ماذا يريد ؟ ولكنه لم يلو على شئ ، بل سار قدما ، ثم وقف أمام باب خيمة علقت فوقه صورة للسيدة العذراء . وبلغ مسامع " ميكالي " صوت طفل يبكي في داخل الخيمة .

وقال موجها الكلام باللغة اليونانية إلي صاحبة الخيمة : إني أسألك باسم السيدة العذراء الكلية القداسة التي تملقين صورتها ان تشفقي على هذا الطفل اليتم المسكين وان مجعليه يذقق طعم لبن الام مرة . وانا يا سيدتي رجل أرمني ، قد نال منه الفقر .

وجاءت على صوت ندائه امرأة جميلة سمراء ، تحمل على ذراعيها طفلا يرضع ثديها في سعادة لا تعادلها سعادة ، وكانت عيناه نصف مقفلتين

وقالت المرأة : أرني الطفل ، أذكر هو أم أنثى ؟ فكاد صاحبنا يطير من الفرح ، وجاء الجيران فحملوا عنه اللفائف التي يرقد في ثناياها الولد . فلما رأوه ولوا مديرين ، وصاحت النسوة صيحات الرعب والفزع ، إذ لم يبق بين الولد وبين صفة الآدمية صلة أو نسب ، وقد استحال هذا الولد هولة من الهول . فقد كبر رأسه وامتدت أطرافه ، أما الجسم فقد استحال هيكلا عظميا تكسوه طبقة رقيقة من جلد ، كثرت فيه الغضون والتجاعيد . . ذلك لأنه - منذ ولد - كان يرضع إبهامه حتى نورمت تلك الإصبع ، فعجز فمه أن يحتويها ، وكان هذا منظرا بشعا ، وكان " ميكالي " أول من دخل في قلوبهم الرعب، فرجع إلى الوراء من هول ما رأى .

وقالت إحدى العجائز : أيتها العذراء يا أم المسيح ، إن الذي نرى ليس طفلا آدميا ، إنما هو أحد الوطاويط ، ولو كنت مرضعاً لما طاوعتني نفسي أن أرضعه ...

وقالت عجوز أخرى ، وقد رسمت علامة الصليب على صدرها : رباه ! إنه ليس من الإنس!

وقالت عجوز عقيم : إنه الشيطان ! أو كأنه هو ! ثم صرخت في وجه ميكالي قائلة : اخرج من هنا أيها المنحوس . ولا تطأ بقدمك هذا المكان مرة أخرى . فإنك نذير شؤم !

وقام النسوة كلهن يطاردنه ، ويصحن في وجهه . فشرق بدمعه ، ومضى يحمل فوق ظهره الطفل الذي طال أنينه وبكاؤه . وكأنما قد كتب عليه الموت جوعا .

وحز في نفس " ميكالي " وامضه ، وزاد في همه أنه اصبح يحمل فوق ظهره طفلا هو بالغول اشبه ، وسمع دقات الساعة تعلن أن الوقت ظهر، فأذكرته دقات الساعة انه لم يأكل شيئا منذ يومين ، وان عليه أن ينفلت إلى الأبواب الخلفية للمقاهي المنتشرة في عرض الطريق يفتش في زواياها عن لقمة تركت في إحدي الصحاف ، أو عن نفاية عاف أن يأكلها أحد الكلاب .

وعلى حين بغتة بدت له الدنيا ملأى بالمخاوف والشرور فغطي وجهه بكفيه . وبدأ يبكي في يأس مروع .

ولما رفع رأسه ألقى رجلا ينظر إليه ، وعرف ميكالي في الرجل ذلك الصبي الذي طالما جاء إلى معسكر اللاجئين وهو يبيع اللعب المصنوعة من الورق الملون ، والتي لم يكن يفكر في شرائها أحد .

وطالما سخر القوم منه بسبب لونه وبسبب حول عينيه . وطالما صاح الاطفال ولجوا في مطاردته ، وهم ينشدون في سخرية لأذعة قائلين : " لي لنك . ذي ستنسكن سنك " ! ويمكن ترجمتها (أيها الصينبي الذي اسمه لي لنك إنك لتشبه الجرح ذا الرائحة الكريهة ) .

ورأي " ميكالي " في صفحة وجهه نظرة عطف وكأنه يقول له :

لا عليك يا بني . ولا تبك . ثم كأنه يقول له في استحياء : تعال معي! ...

وكان جواب " ميكالي " أن هز رأسه علامة الرفض . وود لو استطاع الفرار من وجهه ؛ ذلك لأنه طالما سمع عن فظائع أهل الشرق وقسوتهم !

وطالما بالغ اللاجئون في وصف تلك الفظائع فقالوا : إن من عادات أهل الشرق ان يسرقوا الأطفال المسيحيين ليقتلوهم ويمتصوا دماءهم !!

ومع ذلك فقد ظن الصبي واقفاً في مكانه . ثم تبعه " ميكالي" وهو يسائل نفسه : أيمكن ان يحدث له حادث أسوأ مما هو فيه ؟

وإذهما يسيران جنبا إلي جنب ، عثرت رجل " ميكالي " فوقع هو والطفل على الأرض . فجاءه الصيني وحمل بين ذراعيه الطفل في رفق ، وضمه إلى صدره

ثم قطاعا طريقا طويلة كثرت فيها المنعطفات . حتى جاء أخيرا إلي كوخ من الخشب أحاطت به حديقة صغيرة . فوقب الصبي وصفق بيديه مرتين ، فجاءت تفتح الباب امرأة نحيفة . وما إن رأت وجه الغريب حتى توردت وجناها ثم أضاءت وجهها ابتسامة تقرأ فيها معني من معاني السعادة والغبطة برؤية ضيف . ثم حيت تحية موجزة .

ووقف " ميكالي" مترددا ، لا يتجاوز عتبة الباب . فناداء الصيني قائلا : ادخل ولا تخف ، إنها زوجتي .

فلما اجتاز الباب لقى حجرة يفصل نصفيها حاجز من ورق ملون . وكانت الحجرة أو الحجرتان آية في النظافة على ما بهما من دلائل الفقر وأمارات البؤس .

ورأي في إحدي الزوايا مهدا صنع من اغصان الصفاف .

وقالت المرأة تخاطب " ميكالي " وهي تبتسم له وترفع رأسها في ظرف : إن طفلي صغير جدا . وجميل جدا ، تعال وأنظر إليه!

فذهب " ميكالي " إلى جوار الطفل وأبدى إعجابه في صمت . وقد لقى طفلا مكلم الوجه ، يجمع بين السمنة والقصر ، على حداثة مولده . وهو ينام في أمن ودعة وكأنه ملك صغير . وقد لفته امه في نسبح مطرز بخيوط القصب .

ثم نادى الزوج زوجته وأمرها أن نجلس على حصير من القش ، فأطاعت أمره . ثم أمسكت بالطفل

وبدا لها الطفل المسكين في بشاعة هيكله العظمي . فصرخت صرخة مبعثها الشفقة والحنان . ثم ضمته إلي صدرها . وجعلته قريبا إلى قلبها . ثم في تحريكة ملؤها التواضع ردت على ثدييها فضل ردائها ، وتركت الطفل اليتقيم الجائع برضع ما شاء أن يرضع ...

اشترك في نشرتنا البريدية