لكاتب يونانى معاصر يريد كاتب هذه القصة أن يبرهن بقصته على قوة عاطفة الامومة عند نساء الصين . وعلى أن امم الشرق قد أوتيت بفطرتها الخلق الكريم .
قال الكاتب : بدأت حوادث هذه القصة بعد انقضاء أكثر من شهر على نزول اللاجئين من الارمن في مدينة مارسيليا . وإقامة معسكرهم في ارياض المدينة ، حتى بدا ذلك المعسكر وكأنه إحدي القري .
وقد استقر بهم المقام ، ولا أقول على خير حال ، بل على خير ما يستطاع .
وكان الاغنياء وذو الثراء منهم يقيمون في مخيمات ، أما الفقراء ، وذو الحاجة ، فكانوا يسكنون الزرائب التي أدركها البلى ، ونال منها الخراب .
وظلت جماعات من المهاجرين تتحذ مأواها تحت بسط مدت على قوائم أربع من العصى . وكانوا يحسبون أنفسهم جد سعداء لو ظفر واحدهم بملاءة يشدها على جوانب الأوتاد لتجعل أهله في مأمن من خائنة الأعين . ثم رضى القوم كلهم بما اصبحوا عليه من حال . وخيل
إليهم انهم استبدلوا أرضا بأرض ، وأوطانا بأوطان . وطفق الرجال يعملون . كل فيما أعد له من عمل . أو فيما لقى من عمل . وذلك حتى لا يعضهم الجوع بنابه ، وحتي بجد أطفالهم ما يسد الرمق .
وشذ عن هؤلاء القوم واحد منهم ، كان لا يستطيع ان يعمل عملا ، وكان يقتات من فضلات ما يجود به عليه
جيرانه ، وكان هذا العيش يؤوده ويثقله . ذلك لانه كان في الرابعة عشرة من عمره ، وكان قوي البنية ، مفتول العضل .
ولكن كيف يفكر في البحث عن عمل ، وهو يحمل فوق ظهره طفلا حديث عهد بالولادة ، وهذا الطفل الذي ولدته امه ثم ماتت ، لا بني عن الصراخ من الغداة إلى العشى من أثر الجوع
ومن ذا الذي يرضي بأن يتخذ " ميكالي " خادما . وقد لج قومه في طرده من حيهم ، وصراخ الطفل وصياحه ، بل كدت اقول عواؤه ونباحه ، قد افض مضاجع القوم ، وعلمهم ما طعم السهر
وقد كانت الأرض الفضاء تدور " بميكالي " وهو يطوف بالأحياء متعبا مكدودا . وقد كاد يورقه الصمم ذلك الطفل الذي ولد ليكون مصدرا لشقائه ، وكأنه قد اختار أنحس الساعات ميعادا لمولده
وثار ثائر القوم المهاجرين ؛ فقد أضاف هذا الطفل شقاء جديدا إلى شقائهم المقيم المقمد ، ولطالما تمنوا لو أن الموت ادركه ، ولكنهم لم يبلغوا هذه الأمنية ؛ ذلك لأن الطفل كان مصرا على ان يعيش ويبقى ، وكان مظهر إصراره ذلك البكاء الطويل !
وكان النساء يضعن أصابعهن في آذانهن إذا سمعن صياحه ، وكان " ميكالي" يروح جيئة وذهابا ، وكأنما هو قد أفرط في الشراب ، فأضر به السكر .
وكان لا يملك درهما يشتري به لبنا ، ولم تكن امرأة في قرية المهاجرين تستطيع ان ترضعه ؛ وفي هذا ، بل في أقل من هذا ، ما يذهب العقل ويورث الجنون .
ولما ضاق " ميكالي " بهذا الأمر ذرعاً توجه بالطفل إلي الجانب الآخر من قرية المهاجرين ، حيث يقيم قوم من اللاجئين ، من سكان الأناضول . وقد سمع " ميكالي " أن
بين القوم امرأة صما ، وقد تأخذها على الطفل شفقة ، وسار يحدوه الأمل العريض .
وكان البؤس المخيم هناك صورة من البؤس الخيم في محلة قومه . فكانت العجائز من النساء يرقدن فوق حصر بسطت على الأرض ، وكان الاطفال يلعبون في برك من الأوحال وهم حفاة .
فلما جاء " ميكالي " قام النساء يسألنه : ماذا يريد ؟ ولكنه لم يلو على شئ ، بل سار قدما ، ثم وقف أمام باب خيمة علقت فوقه صورة للسيدة العذراء . وبلغ مسامع " ميكالي " صوت طفل يبكي في داخل الخيمة .
وقال موجها الكلام باللغة اليونانية إلي صاحبة الخيمة : إني أسألك باسم السيدة العذراء الكلية القداسة التي تملقين صورتها ان تشفقي على هذا الطفل اليتم المسكين وان مجعليه يذقق طعم لبن الام مرة . وانا يا سيدتي رجل أرمني ، قد نال منه الفقر .
وجاءت على صوت ندائه امرأة جميلة سمراء ، تحمل على ذراعيها طفلا يرضع ثديها في سعادة لا تعادلها سعادة ، وكانت عيناه نصف مقفلتين
وقالت المرأة : أرني الطفل ، أذكر هو أم أنثى ؟ فكاد صاحبنا يطير من الفرح ، وجاء الجيران فحملوا عنه اللفائف التي يرقد في ثناياها الولد . فلما رأوه ولوا مديرين ، وصاحت النسوة صيحات الرعب والفزع ، إذ لم يبق بين الولد وبين صفة الآدمية صلة أو نسب ، وقد استحال هذا الولد هولة من الهول . فقد كبر رأسه وامتدت أطرافه ، أما الجسم فقد استحال هيكلا عظميا تكسوه طبقة رقيقة من جلد ، كثرت فيه الغضون والتجاعيد . . ذلك لأنه - منذ ولد - كان يرضع إبهامه حتى نورمت تلك الإصبع ، فعجز فمه أن يحتويها ، وكان هذا منظرا بشعا ، وكان " ميكالي " أول من دخل في قلوبهم الرعب، فرجع إلى الوراء من هول ما رأى .
وقالت إحدى العجائز : أيتها العذراء يا أم المسيح ، إن الذي نرى ليس طفلا آدميا ، إنما هو أحد الوطاويط ، ولو كنت مرضعاً لما طاوعتني نفسي أن أرضعه ...
وقالت عجوز أخرى ، وقد رسمت علامة الصليب على صدرها : رباه ! إنه ليس من الإنس!
وقالت عجوز عقيم : إنه الشيطان ! أو كأنه هو ! ثم صرخت في وجه ميكالي قائلة : اخرج من هنا أيها المنحوس . ولا تطأ بقدمك هذا المكان مرة أخرى . فإنك نذير شؤم !
وقام النسوة كلهن يطاردنه ، ويصحن في وجهه . فشرق بدمعه ، ومضى يحمل فوق ظهره الطفل الذي طال أنينه وبكاؤه . وكأنما قد كتب عليه الموت جوعا .
وحز في نفس " ميكالي " وامضه ، وزاد في همه أنه اصبح يحمل فوق ظهره طفلا هو بالغول اشبه ، وسمع دقات الساعة تعلن أن الوقت ظهر، فأذكرته دقات الساعة انه لم يأكل شيئا منذ يومين ، وان عليه أن ينفلت إلى الأبواب الخلفية للمقاهي المنتشرة في عرض الطريق يفتش في زواياها عن لقمة تركت في إحدي الصحاف ، أو عن نفاية عاف أن يأكلها أحد الكلاب .
وعلى حين بغتة بدت له الدنيا ملأى بالمخاوف والشرور فغطي وجهه بكفيه . وبدأ يبكي في يأس مروع .
ولما رفع رأسه ألقى رجلا ينظر إليه ، وعرف ميكالي في الرجل ذلك الصبي الذي طالما جاء إلى معسكر اللاجئين وهو يبيع اللعب المصنوعة من الورق الملون ، والتي لم يكن يفكر في شرائها أحد .
وطالما سخر القوم منه بسبب لونه وبسبب حول عينيه . وطالما صاح الاطفال ولجوا في مطاردته ، وهم ينشدون في سخرية لأذعة قائلين : " لي لنك . ذي ستنسكن سنك " ! ويمكن ترجمتها (أيها الصينبي الذي اسمه لي لنك إنك لتشبه الجرح ذا الرائحة الكريهة ) .
ورأي " ميكالي " في صفحة وجهه نظرة عطف وكأنه يقول له :
لا عليك يا بني . ولا تبك . ثم كأنه يقول له في استحياء : تعال معي! ...
وكان جواب " ميكالي " أن هز رأسه علامة الرفض . وود لو استطاع الفرار من وجهه ؛ ذلك لأنه طالما سمع عن فظائع أهل الشرق وقسوتهم !
وطالما بالغ اللاجئون في وصف تلك الفظائع فقالوا : إن من عادات أهل الشرق ان يسرقوا الأطفال المسيحيين ليقتلوهم ويمتصوا دماءهم !!
ومع ذلك فقد ظن الصبي واقفاً في مكانه . ثم تبعه " ميكالي" وهو يسائل نفسه : أيمكن ان يحدث له حادث أسوأ مما هو فيه ؟
وإذهما يسيران جنبا إلي جنب ، عثرت رجل " ميكالي " فوقع هو والطفل على الأرض . فجاءه الصيني وحمل بين ذراعيه الطفل في رفق ، وضمه إلى صدره
ثم قطاعا طريقا طويلة كثرت فيها المنعطفات . حتى جاء أخيرا إلي كوخ من الخشب أحاطت به حديقة صغيرة . فوقب الصبي وصفق بيديه مرتين ، فجاءت تفتح الباب امرأة نحيفة . وما إن رأت وجه الغريب حتى توردت وجناها ثم أضاءت وجهها ابتسامة تقرأ فيها معني من معاني السعادة والغبطة برؤية ضيف . ثم حيت تحية موجزة .
ووقف " ميكالي" مترددا ، لا يتجاوز عتبة الباب . فناداء الصيني قائلا : ادخل ولا تخف ، إنها زوجتي .
فلما اجتاز الباب لقى حجرة يفصل نصفيها حاجز من ورق ملون . وكانت الحجرة أو الحجرتان آية في النظافة على ما بهما من دلائل الفقر وأمارات البؤس .
ورأي في إحدي الزوايا مهدا صنع من اغصان الصفاف .
وقالت المرأة تخاطب " ميكالي " وهي تبتسم له وترفع رأسها في ظرف : إن طفلي صغير جدا . وجميل جدا ، تعال وأنظر إليه!
فذهب " ميكالي " إلى جوار الطفل وأبدى إعجابه في صمت . وقد لقى طفلا مكلم الوجه ، يجمع بين السمنة والقصر ، على حداثة مولده . وهو ينام في أمن ودعة وكأنه ملك صغير . وقد لفته امه في نسبح مطرز بخيوط القصب .
ثم نادى الزوج زوجته وأمرها أن نجلس على حصير من القش ، فأطاعت أمره . ثم أمسكت بالطفل
وبدا لها الطفل المسكين في بشاعة هيكله العظمي . فصرخت صرخة مبعثها الشفقة والحنان . ثم ضمته إلي صدرها . وجعلته قريبا إلى قلبها . ثم في تحريكة ملؤها التواضع ردت على ثدييها فضل ردائها ، وتركت الطفل اليتقيم الجائع برضع ما شاء أن يرضع ...

