وقف فهمى المهندس الحكومي في غرفة مكتبه بإحدي الوزارات ، يقطع الغرفة ذهابا وإيابا في ثورة نفسية عميقة وهو يقول : -
معايير خاطئة ونظم حكومية فاسدة . إنني كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أتي ، فلا أنا نلت تقديرا واعترفا بمجهودى ونشاطي ، ولا أنا عرفت طعم الراحة أو استمتعت ببهجة الحياة .
وهنا دخل عليه أحد الزملاء وسمع ما قاء به من ألفاظ فقال : ماذا جري يا عزيزى ؟ فأجابه :
- أتعرف ابن الراوي باشا الذي كان سببا في انهيار كوبرى الحدود بسبب جهله وإهماله ، والذي سبب خسارة لمالية الدولة تزيد على أربعين ألف جنيه ؟
- أفصل من عمله . . ؟ - لا يا عزيز ، لقد رقي ومنح المركز الذي كنت أطمع فيه نظير ما قدمت من جهود مضنية خلال الأعوام الماضية . هل وصل إلي سمعك أن اكرم ابن وكيل المصلحة الذي لم تمض على تخرجه سنتان قد رقي إلى وظيفة كبر المهندسين
- خفف من غضبك ياعزيزى ، فلم يعد في مصلحتنا مقاييس عادلة تشجع على الإنتاج والإخلاص في العمل . ما اغباني ، لقد كنت اقدس شيئا خياليا سموه الواجب . ما اغباني ، لقد كنت مصابا بمرض وهي سموه الطموح . . لقد ضيعت في الخيال والوهم زهرة العمر .
خرج فهمي بعد هذا التذمي من مقر عمله ، وشرر الغضب يتطاير من عينيه ، خرج هائما على وجهه في كل مكان ، حتى استقر به الحال في " كازينو " يقع على بحيرة
صافية الماء ، خيم عليها هدوء شامل . وفي هذا الهدوء راح يقلب الماضي والحاضر ، ويستعرض السنوات الطوال التي قضاها في ظل النزاهة والكرامة والمثل العليا ، وراح يسأل نفسه : هل في استطاعته أن يتحرر من هذا الطموح ؟ هل في استطاعته وأد أحلام شبابه ، فيعيش رجلا آليا يقنع من الحياة بالأكل والشرب ، أم هو غير قادر على ذلك ، فيخضع للواقع بما فيه من مقاييس فاسدة واتجاهات خاطئة ؟ !
وانتهت المعركة بين هذين الأتجاهين المتضادين بعزمه على تحقيق آماله حتى ولو تخلى عن الشرف والفضيلة والمثل العليا . وتحت تأثير الصدمة النفسية التي أصابته آمن إيمانا بأن الطريق الأمثل للوثوب في المعترك الحكومي هو أن يحتال باسم الحب والزواج ، وأن يندمجح في الطبقة الراقية عسي أن يجد من بينهم من يحتضنه من الشخصيات البارزة ويدفعه إلي الترقي دفعا قبل الأوان
لقد أفقدته هذه الصدمة النفسية صوابه ، وتملكته نزعات فاسدة ونسي نفسه ، فإذا يخاطبها في صوت مسموع قائلا :
- الفضيلة والشرف والمثل العليا كلمات براقة خداعة باسمها يتاجر البشر وباسمها يحتالون .
فاتجهت أنظار الجالسين إليه وهو يحادث نفسه بمثل هذا الصوت المرتفع ، وراحوا بتهامسون ويتضاحكون . عند ذلك أفاق فهمي من ذهوله وأدرك حرج موقفه وشعر بالنظرات المصوبة إليه ، فانسلى من بين الجالسين هربا من نظراتهم الساخرة .
ذهب فهمي عقب ذلك إلي مسكن في إحدي العمارات أتخذه بعض زملائه ومعارفه وكرا لمقابلة الخليلات ، وكل صيد جديد من بنات الهوي والفساد . لقد اعترت الدهشة زملاءه بسبب هبوطه المفاجئ ، وراحوا يتساءلون ويتهامسون : أجاء ليحدثنا عن التقوي والفضيلة ؟ أم لماذا جاء يارترى ؟ أدرك فهمي سر همسهم فقال :
- أيها الزملاء . لست ناصحا ولا واعظا هذه المرة ، ولكن جئت آخذ على يديكم أول درس من دروس الإباحية . . وباحثا لو اتخذتمونى شريكا في وكركم هذا .
- لا مانع من قبولك . . وما دمت رابعنا فستطلق عليه " الوكر الرباعي " .
ومن هذا اليوم وفهمي لا ينشد إلا الأزدراء بالمبادئ والمثل ، فقد تدفست روحه ونفسه وانقلبت الأوضاع فى مخيلته . لقد أصبح لا يطيق البعد عن الحفلات الساهرة ، ليتملق الرجال ويضاحك السيدات ويغازل الفتيات ، دون إن يقيم وزنا لروحانية الصداقة والحب ، فهو لا يراها إلا وسيلة لتحقيق أحلامه التي وارتها معايير المجتمع الفاسدة .
وتهامست الأندية والمجتمعات بمناصرته ، خصوصا تلك المنامرة الأخيرة ، حيث زلت أبنة أحد كبار الموظفين في غياهب حبه . لقد احبته حبا صادقا عنيفا ، فبدلا من أن يرحمها ، راح يساومها في وصله وهجره ، وكأنه أمام صفقة تجارية لابد أن يخرج منها غانما و رابحا . ولقد كان له ما أراد ، فقد مهدت له الطريق لترقيته قبل الأوان .
أما وعوده لخطيبته " درية " فأخذت تتحلل وتتلاشي أيام هذا التطور الخلقى الذي اعتراه بسبب هذه الصدمة النفسية ، فشعرت بإهمله لها وببرود عاطفته نحوها . لقد عز عليها الأمر ، فراحت تقدح زناد فكرها عسي ان تهتدى إلي حيلة تحفظه بها من أن يقع في حب واحدة غيرها من بنات حواء . لماذا لا تتنكر له في شخصية مجهولة وتنصب شبا كها حتى توقعه في حب خيالي فتحتل بذلك فراغ عقله وقلبه فتأمن شر هجوم غرامى نسائى جديد يوجه إليه ! فكرة خيالية طرأت على ذهن خطيبته التي استبدت بها الغيرة ، ولكن حبها القوي الصادق أتى بالعجزات وأحال الخيال إلى حقيقة واقعة ملموسة . ولتنفذ فكرتها اقترحت على إحدى زميلات الدراسة أن تجعل حفلة عيد ميلادها التى اعتادت أن تقيمها كل عام حفلة غنائية يأتيها المدعوون والمدعوات في وجوه متنكرة وأزياء
كرنغالية طريفة . ولقد نال افتراحها هذا قبولا واستحسانا وتنفيذا .
جاءت درية إلي حفلة عبد ميلاد زميلتها متنكرة في ثوب بدوية ، بعد أن رأت زي خطيبها الذي تنكر فيه . وبحثت عنه حتى التفت به وراحت تحادثه بلهجة لبنانية لم يتح لخطيبها فرصة استماعها منها من قبل . وكانت تلك اللهجة قد اكتسبتها من زيارتها لبيروت عدة مرات مع والدها . راحت تحادثه حتى شغلته عن كل شئ ، وأحاطته بجو شعري خيالي مشبع بطابع الغموض والإبهام .
ولما جاء دور " درية " في الغناء صاحت صاحبة الدعوة قائلة :
ستطربكم الليلة إحدي المدعوات بأغنية لبنانية . عزفت الموسيقى وراحت درية في صوت ساحر بديع تغني قطعتها الشعبية وكان مطلعها ... " وين يا كيوبيد سهامك وين ... وين " . وما إن انتهت من غنائها حتى أمطرها السامعون تصفيقا وإعجابا ، وسارع إليها فهمي مهنئا وقال :
- الآن عرفت من أنت ، إنك إحدي المطربات الشرقيات في محطة الإذاعة .
فانتهزت " درية " هذه الفرصة وزادته إيهاما وغموضا بقولها :
- هذا حقيقي . . يلك من ذكي عبقري !
وهنا اطمأنت درية إلى أن خطيبها لم يكتشف أمرها ، وأنها تستطيع أن تسير في تنكرها حتى نهاية الشوط .
عاد فهمي إلي بيته عقب هذه الحفلة الساهرة ، وقلبه يحمل حبا قويا جارفا . لقد عشقتها اذناه قبل أن تعشقها عيناه . عاد إلي بيته بعد أن وعدته بأنها ستحادثه كل ثلاثاء ، من كل أسبوع في الساعة السابعة مساء . ظلت تحادثه تليفونيا في هذا الموعد لتسأله عن حاله ، ولكن حديثها كان مقتضبا لتزيده شوقا وغموضا . كانت احاديثها لا تشبع ولا تغني مثل هذا المحب الولهان . لهذا ألح عليها
أن تقابله ، فقبلت بشرط أن تأتيه فى مكان لا ثالث لهما فيه ، ضعيف الإضاءة ، متنكرة فى نفس الثوب الذى قابلته به أول مرة ، فوعدها بتنفيذ ما طلبته .
جاءت هذه الحبيبة المجهولة او الخطيبة المتنكرة إلى هذا " الوكر الرباعى " فاستقبلها فهمى على ضوء شمعة صغيرة تحقيقا لما طلبت ، وحياها فى رقة وعذوبة لفظ ، وأشار إلى غرفة الاستقبال فأخذت مكانها هناك وراح فهمى يمطرها بوابل من غزله المعهود ، ثم قال :
- يا حبيبتى كفى شكرا ... لقد سئمت هذا الغموض ... ارفعى نقابك عن وجهك وتعالى نختال سويا فى رياض الحب . ارفعى نقابك لتلتقى شفتانا بين سحر العيون وخمر القبل .
- أهذا هو الحب الذى تدعوننى إليه .
- هذه هى توابل الحب يا عزيزتى .
- الحب الصادق هو حب الروح للروح مجردا من دنس الشهوة والاستغلال . وهذا هو السبب فى عدم تورطى معك فيما سميته حبا .
- ألم تعجبك طريقتى فى الحب ؟
- أصارحك أنه حب ناقص ، لا يشبع فتاة مثلى تنشد نشوة الروح من خمر حب أفلاطونى ، ولهذا أشعر أن علاقتنا هذه خالية من التوافق الروحى . ويحسن بى أن أقطع صلتنا وأصافحك للمرة الأخيرة .
- لا أستطيع يا عزيزتى أن أفقدك ... لا أستطيع البعد عنك .
- إن كنت حقا لا تستطيع البعد عنى كما تقول فروض نفسك على حب روحى وجرد نفسك من نزعاتك الاستغلالية .
- أى نزعات استغلالية تقصدين ؟ .
- الاحتيال باسم الحب والزواج كما فعلت بكريمة
الدامورى بك . قد تكسب من وراء هذا الاحتيال تحقيق آمال وأطماع ، ولكنك ستفقد رجولتك . وعند ذلك تفقدنى معها لأنى لا أعشق رجولة عرجاء ناقصة . ثم حيته وانصرفت ، ولكنها ظلت تغذيه بعد ذلك فى رسائلها بروحانية الحب وشاعريته وتذكره بالرجولة الكاملة وتسمو بنفسه إلى عالم كله تضحية وشرف ونبل ، فكانت له بمثابة طبيب نفسانى . لقد تعهدته بكل علاج روحى حتى أعادت إليه إيمانه بالفضيلة والمثل العليا بعد أن حطمتها معايير المجتمع الفاسدة ، وما به من شفاعات ووساطات .
لقد استيقظ ضمير فهمى فى هذا الجو الروحى ، وراح يتعقبه ليل نهار حتى أقلق مضجعه ، فقال حائرا قلقا حتى حان الموعد الذى تعودت فيه هذه الحبيبة المجهولة أن تحادثه تليفونيا ، فما إن بدأت تحييه حتى راح يشرح لها ما اعتزمه من أمر الرجوع إلى خطيبته التى أنكر عليها أمرها ، معتذرا عن هذا التحول ، طالبا ان تكون العلاقة بينهما مجرد صداقة روحية . فما كان منها إلا أن هنأته وقالت : أستطيع بعد قليل أن أكشف الستار عن شخصيتى وستعرف من أنا يوم زفافك .
ولما ذهب فهمى إلى بيت درية يوم زفافهما ليعود بها إلى عش الزوجية وجد بالباب سيدة تهمس فى أذنه قائلة :
- فى الصالون سيدة متنكرة تود محادثتك على انفراد .
وعند ما دخل عليها وأقفل الباب خلفه ، نزعت هذه الحبيبة المجهولة قناعها فإذا بها خطيبته التى ستزف إليه هذه الميلة ، فاعتراه دهشة وذهول ، وشعر بخجل ، وأدرك أنه أمام زوجة عرفت كل ماضيه الملوث ، فركع تحت قدميها يطلب الصفح ، فركعت درية بجواره وقالت :
إذا لم تكن زوجتك شاطئ السلامة إذا ما عصفت الحياة فماذا تكون ؟
إذا لم تمسح زوجتك دموع التوبة وتصفح وتغفر فماذا
تكون رسالتها ؟
يا حبيبى ! لقد لعبت هذا الدور كله لأحفظك وأنقذك من الشريدات العابثات فى أزمتك النفسية العصبية ، ولأعيد إليك الثقة بالفضيلة والمثل العليا .
سمع فهمى ذلك فقبلها اعترافا بفضلها . وبعد أن تمت مراسم الزفاف راحت السيارة تنهب بهما الأرض نهبا فى طريقهما إلى عش الزوجية المقبل .

