الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 404الرجوع إلى "الثقافة"

قصة التعويضات الايطالية

Share

لما انتهي مؤتمر الصلح إلي الاقتناع بوجهة النظر المصرية ، ووافق على اشتراك مصر بصفة استشارية في المباحثات التي تجري حول معاهدة الصلح الإيطالية شعرنا بشئ من النبطة والتفاؤل ، واعتبرنا هذا القرار خطوة لا بأس بها ، إذ يتاح لمصر بمقتضاه ان نسمع صوتها لهذا المؤتمر العالي الخطير وان تشرح وجهات نظرها فيها يتعلق بمطالبها الإقليمية والاقتصادية من الدولة التي اعندت عليها دون مبرر ، واستباحت اراضها ، وحاولت ان تقضي على استقلالها وكيانها بقوة الاعتداء الهمجى

ولكن هذا الشعور انقلب إلي خيبة أمل مرة حينما تلونا البيان الذي القاء مندوب مصر في المؤكر ، فقد كان بيانا فاترأ تنقصه كل عوامل الإقناع والقوة ؛ وكان من اشد بواعث الدهشة ان يفيض مندوب مصر في الإشارة بفضل الخصوم الذين يتقدم إلي اتهامهم وإقامة الحجة على

مسئوليتهم ؛ وفضلا عن ذلك فقد اقتصرت مطالب مصر بعد التمويضات من الناحية الاقليمية على الطالبة بواحة جنبوب وهضبة السلوء ووجوب استقلال لوبية او وضعها تحت وصاية ) احدي الدول العربية ؛ ولم نشر مصر قط بكلمة واحدة إلى حقوقها التاريخية في باقي المستعمرات الإيطالية ، ولا سيما اريتريا التي انتزعتها منها إيطاليا من مصر بطريقة غير مشروعة ، والتي تطالب الحبشة الآن بضمها إليها

ومازالت مطالب مصر الإفليمية مطروحة أمام المؤتمر ، ولكن مسألة التعويضات المطلوبة لمصر من إيطاليا قد انتهت إلي ما يشبه المأساة؛ ذلك انه قيل لنا فجأة إن اتفاقا خاصا عقد بين مصر وإيطاليا خارج أبواب المؤتمر بشأن التمويضات ، وإن مصر نال مقتضاء من إيطاليا تعويضا قدره اربعة ملايين جنيه ونصف عدا مبلغ ٣٩٠ ألف

جنيه دفعت من الاموال الإيطالية المحجوزة :بمصر تعويض لضحابيا الغارات الجوية ، وبذلك تبلغ جملة التمويض الذي تدفعه إيطاليا لصر اربعة ملايين وثمانمائة وتسعين الف جنيه مصري ولا تؤدي  إيطاليا من هذا التعويض الآن سوي مبلغ مليون جنيه نقدا من الأموال الإيطالية الموضوعة تحت الحراسة ، واما الثلاثة ، ملايين ونصف الباقية فتسدد خلال خمس سنين إما نقدا وإما سلما وإما سندات وأسهما في الشركات الإيطالية بمصر حسبما يتم عليه الاتفاق في ظرف ثلاثة اشهر ، وتبقى الحراسة مفروضة على الأموال الإيطالية إلى الحد الكافي للوفاء بالمبالغ التي تتخلف إيطاليا عن دفعها ، وترفع فيما عدا ذلك ، وتتعهد إبطاليا بتعويض الرعايا المصريين عما أصابهم من الضرر في إيطاليا وترفع الحراسة عن أملاكهم .

تلك هي قواعد الاتفاق المصري الإيطالي بشأن التعويضات ؛ ولقد كان هذا الاتفاق العجيب الذي نالت إيطاليا فيه كل شئ ولم تنل مصر سوي قطرة ، مثار الدهشة البالغة ؛ إذ كيف يتصور إنسان أن تكون أربعة ملايين ونصف هي تعويض عادل أو معقول عما ارتكبته إبطاليا في حق مصر من اعتداء أثم حين اجتاحت جيوشها المدمرة الأراضي المصرية من السلوم إلي العلمين وحين كانت طائراتها توالي القيام بغاراتهما الدموية على المدن والثغور المصرية ، وهي غارات ذهب ضحيتها الوف من الأبرياء ، وترتب عليها تخريب كثير من الرافق والمنشآت المصرية ، وقد بلغت الأضرار والخسائر المادية التي أصابت مصر من العدوان الإيطالي حسبما قدرت مختلف الجهات والمصالح الحكومية نحو مائتي ملبون جنيه ؛ وأشارت المذكرة المصرية التي قدمت إلي مؤتمر الصلح إلي أن التعويضات الحقيقية التي تستحقها مصر من  إيطاليا بما في ذلك النفقات العسكرية تبلغ هذا القدر ؛ ولكن المذكرة المصرية لحكمة لم تدركها اقتصرت بعد إبداء هذه الحقيقة على

المطالبة بما أسمته بالتعويضات عن الخسائر المباشرة مما اصاب المواني والطرق والسكك الحديدية والسفر والأملاك الخاصة من الخسائر ، وقدرت هذه الأضرار والخسائر جميعها بمبلغ عشرة ملايين ٣٨٥ ألفا من الجنيهات هي التي طالبت مصر بالحصول عليها من إيطاليا

وبعد ذلك ، ولحكمة لم تدركها ايضا تتضاءل مطالب مصر إلي اقل من نصف هذا المبلغ ، وتقنع مصر بالحصول على تعويض قدره أربعة ملايين جنيه ونصف . وإذا كنا نحن في مصر لم نفهم حكمة هذا الكرم المدهش الذى ابدته مصر نحو المعتدين عليها ، فقد نجد تفسير ذلك ذكره البلاغ الإيطالي الذي صدر عن الاتفاق من ان  الحكومة المصرية قد اعربت من جانبها عن رغبتها في الاتفاق مع إيطاليا علي شئونها الاقتصادية مساهمة منها في إصلاح الحالة الاقتصادية في إيطاليا وصرحت بأن هذا الاتفاق يمكن من استئناف العلائق المصرية الإيطالية على أساس طبيعي من صادق التعاون ، ووصل ما انقطع من اسباب الود القديم

مرحي مرحي  أجل إن مصر التى تحاول ان تكافح الفقر والمرض بين الملايين من ابنائها يجمل بها ان تثير مما تستحقه من التمويضات قبل إيطاليا لكى تعاونها اصلاح شئونها الاقتصادية ! ولهذا ايضا ترد الحكومة المصرية ان تتعرض لمركز الرعايا الإيطاليين في مصر ، تفكر في إجلائهم عن البلاد كما فعلت الحيشة ، بل تفكر في حرمانهم من الامتيازات التى كفلها لهم معاهدة مونترو اسوة بما وقع للرعايا الالمان عقب الحرب الكبيرة من حرمانهم من الامتيازات الأجنبية ؛ ولم تفكر في  مسألة المنشآت الإيطالية في مصر ، لم تفكر في شيء ذلك كله ؛ وكان طبيعيا بل كان واجبا قبل أن تعقد هذه الصفقة المؤلمة أن تفكر في ذلك كله ، وان تسعي تصفية هذه المسائل كلها بما يصون مصالح البلاد ومصر

بها اما الآن فسوف تبقي الجالية الإيطالية العديدة ) وهي يبلغا نحو ٦٠ الفا ( كما كانت في القاضي تمرح في البلاد ، تثري وتزدهر على حساب المصريين ، وتسيطر على طائفة كبيرة من المهن والأعمال التي كان واجبا ان تترك المصريين

لقد خصت مصر عقب الحرب الكبرى قبل المانيا لإمبراطورية بتعويضات قدرت يومئذ واحد في المانة من نوع التعويضات التي فرضت على المانيا وقدره الف مليون جنيه ، وذلك بالرغم من كون مصر لم تتعرض لاعتداء ثانيا بصورة مباشرة كما حدث في الحرب المنقضية من جانب إبطاليا ؛ وكانت انجلترا تقبض هذا التعويض باسم مصر حتى الغيت التعويضات الالمانية بعد ذلك ، وعقدت بين مصر وانجلترا تسوية خاصة حصلت مصر بمقتضاها علل ما حصل باسمها من هذه التعويضات وقد كان جديرا لمصر ان تكون في حق نفسها في هذه المرة التى احتملت بها العدوان المباشر مضاعفا ، أشد شراسة وأقل تهاونا .

إن العراق تطالب إبطاليا بتعويض قدره ألف وستمائة مليون جنيه ، بالرغم من ان العراق لم تتعرض لاعتداء إبطاليا المباشر ، ونطالب الحبشة إيطاليا بتعويض قدره 184مليون جنيه ، وكذا اليونان وفرنسا تطالب كل منهما إيطاليا تعويض ضخم ؛ ولسنا نعتقد ان اية دولة اخري ستحذو  مصر في هذا التساهل المدهش ، فترتضى جزءا من  مما تطالب ولسنا نعتقد أن أية دولة اخري تمر مصر يمكن ان ترغب حقا " في المساهمة في إصلاح الحالة الاقتصادية في إيطاليا ، على حساب حقوقها القومية في مصر وحدها بسمع بمثل هذه المتناقشات .

ولسنا ندري بعد كل ذلك هل قدر مندوبيين  مصر لدي مؤتمر الصلح ما سوف بترتب على تراجع مصر في مسألة التعويضات من أثر سئ في مطالبها الإقليمية وموقفها من مسألة لوبية ؛ بيدو  أنه من الطبيعي ان  تشعر دوائر المؤتمر  أن مصر التي لم تبد صلابة كافية نحو حقوقها

الاقتصادية ان ينعذر عليها ان تبدي مثل هذا اللين نحو مطالبها الإقليمية ؛ كما أنه من الطبيعي ان يخالج إبطاليا شعور بأن مصر التى تنشد بصداقتها ، وتنبرع بالساهمة في إصلاح شئونها الاقتصادية ، قد لا تضن عليها مثل هذا العطف متي جاء دور المسائل الإقليمية

الحق أننا قد شغلنا بأمر المفاوضات مع الإنجليز عن كل شئ اخر من شئوننا الداخلية والخارجية . على انه مهما كان من خطورة هذه الفاوضات ، فإنه مما يثير الآسف والألم أن يصل تصرفنا في إحدي مسائلنا الخارجية الحيوية ، وهي تسوية حقوقنا الارولة قبل إبطاليا ، إلي مثل هذا التدني من التساهل الذي يبلغ حد التفريط ، وذلك في الوقت الذي تشهد فيه سائر الامم الأخرى ، الكبيرة والصغيرة ، تدافع أمام مؤتمر الصلح من كل ذرة من حقوقها ومطالبها بكل ما وسعت من اساليب القوة والمنطق

اشترك في نشرتنا البريدية