الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

قصة العصا

Share

. . ومن جمل القول في العصا وما يجوز فيها من المنافع والمرافق ، تفسير شعر غنية الاعرابية في شان ابنها ؛ وذلك انها كان لها ابن شديد العرامة ، كثير التلفت الى الناس مع ضعف اسر ، ودقة عظم ، فوائب مرة فتى من الاعراب فقطع الفتى انفه ، واخذت غنية دية انفه فحسنت حالها بعد فقر مدقع ، ثم واثب آخر فقطع ادنه ، فاخذت الدية ، فزادت دية اذنه فى المال وحسن الحال ، ثم واثب بعد ذلك آخر ، فقطع شفته ، فلما رات ما قد صار عندها من الابل والغنم والمتاع والكسب بجوارح ابنها حسن رايها فيه فذكرته فى ارجوزة لها تقول فيها :

احلف بالمروة يوما والصفا      انك خير من تفاريق العصا

فقيل لابن الاعرابي :

- ما تفريق العصا ؟

قال - العصا تقطع ساجورا ، وتقطع عصا الساجور (١) فتصير اوتادا ،

ويفرق الوتد فتصير كل قطعة شظاظا (٢) فان كان راس الشظاظ كالفلكة صار للبختى (٣) مهارا ، وهو العود الذى يدخل فى انف البختى

والسواجير تكون للكلاب والاسرى من الناس وقال النبيء صلى الله تعالى عليه وسلم " يؤتى ناس من ها هنا يقادون الى حظوظهم بالسواجير "

واذا كانت قناة ، فكل شقة منها قوس بندق . قال فان فرقت الشقة صارت سهاما ، فإن فرقت السهام صارت حظاء وهى سهام صغار قال الطرماح " كحظاء الغلام " والواحدة حظوة ، فان فرقت الحظاء صارت مغازل فان فرقت المغازل شعب بها الشعاب اقداحه المصدوعة المشقوفة على انه لا يجد لها اصلح منها ، وقال الشاعر :

نوافذ اطراف القنا قد شككنه كشكك بالشعب الاناء المثلما

فاذا كانت العصا صحيحة سالمة ، ففيها من المنافع الكبار والمرافق الاوساط والصغار ما لا يحصيه احد ، واذا فرقت ففيها مثل الذى ذكرنا واكثر ، فاى شئ يبلغ فى المرفق والرد مبلغ العصا ؟

وفى قول موسى - على نبينا وعليه السلام : " ولي فيها مآرب اخرى " دليل على كثرة المرافق فيها ، لانه لم يقل : ولي فيها مأربة اخرى ، والمآرب كثيرة . فالذى ذكرنا قبل هذا داخل فى تلك المآب .

ولا نعرف شعرا يشبه معنى شعر غنية بعينه . لا يغادر منه شيئا ، ولكن زعم اصحابنا ان اعرابيين ظريفين من شياطين الاعراب حطمتهما السنة ، فانحدرا الى العراق واسم احدهما " حيدان " . فبينما هما يتماشيان في السوق . فاذا فارس قد أوطأ دابته رجل حيدان فقطع اصبعا من اصابعه ، فتعلقا به حتى اخذ منه ارش الاصبع وكانا جائعين مقرورين . فحين صار المال فى ايديهما . قصدا لبعض الكرابج (١) فابتاعا من الطعام ما اشتهيا ، فلما أكل صاحب حيدان فشبع انشأ يقول

فلا غرث ما دام فى الناس كربج   وما بقيت في رجل حيدان اصبع

وهذا الشعر وشعر غنية من الظرف الناصع الذي سمعت به . وطرف الاعراب لا يقوم له شىء .

ثم قال الشرفي (٢) دعنا من هذا ، خرجت من ( الموصل ) وانا اريد ( الرقة ) مستخفيا وانا شاب خفيف الحال فصحبني من اهل الجزيرة فتى ما رايت بعده مثله ، فذكر انه تغلبي من ولد عمرو بن كلثوم ، ومعه مزود وركوة وعصا ، فرايته لا يفارقها وطالت ملازمته لها . فكدت من الغيظ عليه ارمي بها فى بعض الاودية . فكنا نمشى فاذا اصبنا دواب ركبناها ، واذا لم نصب الدواب مشينا ، فقلت له فى شان

عصاه ، فقال لى : ان موسى بن عمران صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه - حين انس من جانب الطور نارا واراد الاقتباس لاهله منها . لم يات النار من مقدار تلك المسافة القليلة الا ومعه عصا ، فلما صار بالوادى المقدس من البقعة المباركه قيل له :

- " الق عصاك ، واخلع نعليك ! فرمي نعليه راغبا عنهما حين نزه الله ذلك الموضع عن الجلد غير المذكى .

وجعل الله جماع امره من اعاجيبه وبرهاناته في عصاه ، ثم كلمه من جوف شجرة ولم يكلمه من جوف انسان ولا جان " . .

قال الشرفى : انه ليكثر من ذلك . وانى لاضحك متهاونا بما يقول ، فلما برزنا على حمارينا ، تخلف المكارى ، فكان حماره يمشى . فاذا تلكا اكرهه بالعصا وكان حماري لا ينساق واعلم انه ليس في يدى شىء يكرهه ، فسبقني الفتى الى المنزل ، فاستراح واراح ، ولم اقدر على البراح حتى وافانى المكارى ، فقلت : هذه واحدة !

فلما اردنا الخروج من الغد ، لم تقدر على شىء نركبه ، فكنا نمشى ، فاذا اعيا توكا على العصا ، وربما احفز ووضع العصا على وجه الارض فاعتمد عليها ومركانه سهم ! والح حتى انتهينا الى المنزل وقد تفسخت من الكلال ، واذا فيه فضل كبير ، فقلت : هذه ثانية !

فلما كان في اليوم الثالث ونحن نمشى فى ارض ذات اخاقيق وصدوع - اذ هجمنا على حية منكرة ، فساورتنا ، فلم تكن عندى حيلة الا خذلانه واسلامه اليها والهرب منها ، فضربها بالعصا ، فثقلت . فلما يهشت له ورفعت صدرها ، ضربها حتى وقذها ، ثم ضربها حتى قتلها ، قلت : هذه ثالثة ، وهي اعظمهن

فلما خرجنا في اليوم الرابع ، قرمت والله الى اللحم : وانا هارب معدم ، ادا ارنب قد اعترضت ، فحذفها ، فما شعرت والله الا وهي معلقة وادركنا ذكاتها ، فقلت : هذه رابعة !

واقبلت عليه فقلت له : - لو ان عندنا نارا لما اخرت اكلها الى المنزل . .

قال - فان عندك نارا

ثم انا نزلنا ببعض الخانات ، واذا البيوت ملاى روثا وترابا ، ونرلنا بعقب جند وخراب متقدم ، فلم نجد موضعا نظل فيه ، فنظر الى حديدة مسحاة مطروحة فى الدار فاخذها فجعل العصا نصابا لها ، ثم قام فجرف جميع ذلك الروث والتراب وجرد الارض بها جردا ، حتى ظهر بياضها وطابت ريحها . فقلت : هذه سادسة وعلى اى حال لم تطب نفسى ان اضع طعامى وثيابى على تلك الارض .

فنزع والله العصا من حديدة المسحاة فوتدها في الحائط وعلق ثيابي عليها . فقلت : هذه سابعة . .

فلما صرت الى مفرق الطرق ، واردت مفارقته ، قال لي : لو عدلت معى فبت عندى ، كنت قضيت حق الصحبة ، والمنزل قريب فعدلت معه ، فادخلني فى منزل يتصل ببيعة

قال - فما زال يحدثني ويطرفنى ويلطفني الليل كله : فلما كان السحر اخذ خشبة ثم اخرج تلك العصا بعينها فقرعها بها ، فاذا ناقوس ليس فى الدنيا

مثله ، واذا هو احذق الناس بضربه . فقلت له :

- ويلك ! اما انت مسلم ؟ وانت رجل من العرب من ولد عمرو بن كلثوم؟

قال - بلى !

قلت - فلم تضرب بالناقوس ؟

قال - جعلت فداك ! ان ابى نصرانى ، وهو صاحب البيعة ، وهو شيخ ضعيف فاذا شهدته بررته بالكفاية . .

واذا هو شيطان مارد . . واذا اظرف الناس كلهم ، واكثرهم ادبا وطلبا ، فخبرته بالذى احصيته من خصال العصا بعد ان كنت هممت ان ارمى بها ، فقال :

- والله لوحدتك عن مناقب نفع العصا الى الصبح لما استنفدتها . .

اشترك في نشرتنا البريدية