ألقي إلينا فى البريد رواية شعرية فى خمسة فصول، بعنوان (قصة خسرو وشيرين) لا تحمل اسم ناظمها، ولا عنوان طابعها، ولا تتسم بشيء من السمات الدالة على الشخصية، فكأنها الوليد البرىء جاء لغية فألقى على مدرجة الطريق، متروكا لرحمة القدر أو قسوته.
الرواية جليلة الموضوع، نبيلة المغزى، جميلة النسج، ينم سياقها وحوارها على قلم مدرب، وفكر ناضج، وثقافة عالية، فلا يمكن أن يكون المؤلف قد أرسلها غفلا، فرارا من تعقب الدين أو القانون أو الأدب أو الفن، إنما علة هذا التخفي على ما يظهر من المقدمة تمكين الناقدين من الرأي الحر والحكم الصريح فى قضية الشعر المرسل .
فان المؤلف كما تدل المشابهة القوية بين ما نشر من هذا الشعر فى (الرسالة) وبين ما جاء منه فى هذه الرواية، زعيم القائلين به والقائلين فيه، فهو بذلك يضع المثل أمام القراء والشعراء ليقطع حبل الجدل، ويخرج من النظر إلى العمل، ويجعل الدفاع عن هذا المذهب لقوة الحياة فيه، ومبلغ الفائدة منه.
أضف إلى ذلك إن المؤلف يدرك نبو هذا الشعر فى ذوق الجمهور فهو يريد أن يوسع له فى مجال القول، ولا يجعل لاعتراضه أو امتعاضه حدا من الصداقة أو المجاملة. قال الأستاذ فى المقدمة:
- (أرجوك العفو أيها القارئ عما يمكن ان تتحمله فى قراءة هذا الـ... (ماذا أسمي هذا؟ أظن خير تسمية ان أسميه المطبوع) . وأنك إن قرأت منه كلمة واحدة أو سطرا واحدا ثم رميته كارها كنت عندي معذورا، فهذا ما توقعته، ولا عجب فى الأمر إذا كان متوقعا ولست عندي معذورا فحسب، بل انك جدير بشكري، إذ أنك قرأت
منه شيئا فى حين أن كثيرا من الناس إذا وقع لهم مثل هذا المطبوع لا يقرأون منه حرفا بل يقلبون صفحاته تقليبا سريعا، ثم يرمون به إلى أقرب موضع، ولكنهم مع ذلك لا يترددون فى ان يبدوا رأيا فى عيوبه أو محاسنه إن تكرموا. وأما إذا أنت صبرت أيها القارىء فقرأت سطرين أو ثلاثة من هذا المطبوع، ثم قذفت به حيث أردت لم تكن فى ذلك بالمعذور، بل كنت متفضلا مضحيا من أجل مجاملتي مع أنك لا تعرف من أنا، وفي هذا أدب عظيم وكرم مطبوع، وأما إذا كنت قد بلغت من قوة ضبط النفس ورياضتها على المكاره بحيث استطعت ان تثبت على القراءة حتى أتيت إلى آخر كلمة، ثم تركت لنفسك العنان بعد طول كبحها وحبسها فانطلقت تصخب وتشتم وتنادي بالويل والثبور - إذا فعلت ذلك كنت فى نظري بطلا من أبطال العزيمة وقوة الاحتمال. على أنك لو فعلت ذلك لم يمسسني منك أذى وان بلغت فى ثورتك مبلغا مخيفا، لأني قد توقعت مثل ذلك فأخفيت نفسي حتى لا تتحرج فيما تفعل، فلعلي إذا أظهرت لك شخصي بدوت لك صديقا أو ممن يمتون إليك بسبب فتجاملني أو تكظم غيظك علي، فيكون فى ذلك أذى لك لا أرضاه. فافعل ما بدا لك أيها القارئ. ولا تتورع فان أحجارك أو سهامك لن تصل إلي).
ذلك ما بدأ به المؤلف الفاضل مقدمة الرواية، ومن وراء سطوره كما ترى إغراء بالقراءة. وتحريض على النقد. وعتاب ساخر لمن يقول فى الشيء بغير علم. ويحكم عليه من غير خبرة.
فإذا علمت بعد هذا انه لم يعرض روايته فى السوق، وإنما أهدى ما طبع منها إلى الأصدقاء والأدباء ازددت يقينا بأنه لا يريد غير محاكمة المذهب، وسواء بعدها أكنت له أم عليه.
على ذلك نصارح الأستاذ برأينا فى الشعر المرسل، ونحن أشد ما نكون اطمئنانا إلى رضاه، ووثوقا بحسن ظنه.
لقد قرأت الرواية وحاولت أن أوفق بين شعرها المرسل وذوقي المقيد فلم أفلح. فالأبيات تطربني بأجزائها المتسقة، وألفاظها المختارة
ومعانيها السامية. ولكن أواخرها النواشز تتناكر مع الطبع والسمع فتذهب بحلاوة سياقها وعذوبة موسيقاها. اقرأ معي قوله فى الفصل الأول ص١٤
شيرين:
جئت حينا هنا، فألفيت أرضا غير ما اعتدت إذ تكون بجنبي
كان لون الزهر غير بهيج وخرير الماء غير جميل
وقوله فى الفصل الثاني على لسان خسرو ص٤١ خسرو:
لا أرى فى الأنام أحرى بسخر من معنى بكاذبات الأماني
من يكن همه التماسا لرزق لم يجد فى طلابه أسقاما
قد يهيم الفقير بين الفيافي فى التماس الاحطاب والأعشاب
فإذا فاز بعد جهد جهيد برغيفين لم يعكره هم
غير أن الذى يحاول مجدا يدع النوم والسلام ويأبى
ثغرة الابتسام حتى إذا ما طالعته المنى رآها سرابا
وقوله فى أول الفصل الخامس على لسان جنديين يهيئان مجلسا فى بهو القلعة لخسروا السجين ص١٠٣
الأول : إن فى الفقر سلوة يا صديقي. الثاني : فتمتع به وحيدا هنيئا إنني لا أراه إلا عذابا. الأول : قد أمنا فى الفقر غدر الليالي. الثاني : هل ترى تلك نعمة ان أمنا إذ بلغنا الحضيض؟ أي أمان! الأول: ليس فى الفقر لو علمنا شقاء أنا إن جعت كان حسبي رغيف، وإذا ما تعبت نمت عميقا لا أبالي إذا تعريت صيفا وشتائي لباسه جلد شاة
الثاني:
لا تبالي إذ كنت فردا وحيدا ليس يبكي الأطفال حولك جوعا كن كما شئت، عش فقيرا، فإني حانق حاقد على إملاقي
الأول :
يا صديقي أكنت ترضى بعز ثم تهوى إلى قرار سحيق؟
سل عن المجد والعزازة كسرى، بعد أن ذاق ذلة المأسور
الثاني:
ان قلبي يسيل هما إذا يا من كسرى يختال فى الأسر كبرا.
الأول:
حسبه شقوة إذا كان قوم مثلنا يرحمونه فى شقائه...
يا صديقي لا تغتر بلباس لامع قد يكون سترا لبؤس.
ماذا تجد فى حسك من هذا الشعر؟ ألا تجد فى ذوقك المطبوع على نغم القوافي العربية نفورا من هذه الفواصل المتدابرة؟ لقد كان هذا النشوز يخف لو راعى الأستاذ الشاعر اتحاد الأصوات فى أواخر الأبيات كقوله مثلا على لسان سرجيس:
قد علمنا أن الحياة غرور ثم لا نستطيع غير الغرور
جعل الله فى النفوس نزوعا لاضطراب الحياة رغم العقول
فان بين الغرور والعقول مزاوجة تلطف من وقعمها على الذوق الحساس والعادة الموروثة : ولكن أين هذا وذاك من قوله فى ختام الفصل الخامس على لسان شيرين (ص١٢٩)
أيها الذاهب الشهيد بنفسي ما أصابتك من جروح دوامي
قد أسالوا الدم الزكي. وأني تنفع المدنف الدموع الهوامي؟
ذهب اليوم صاحب وحبيب كان من هذه الحياة نصيبي
فجعوني به، فكيف حياتي بعد أن غاب عن حياتي حبيبي
شيرويه (يرى شيرين فيظهر التألم)
وا أبي! صرعة العظيم قضاء عرفته النجوم منذ القديم.
قد أراد القضاء ما كنت أخشى، ما احتيالي فى الكائن المحتوم؟
شيرين: (لشيرويه)
أنا أبكي والدمع حسبي، فمالي حيلة فى المصاب غير دموعي
ليس لي الصولجان والسيف حتى أندب الملك بانتقام وجيع.
شيرين:
دع لمثلي الدموع، فهي دوائي من شجون لواعج وكلوم
فجعوني بصبيتي تحت عيني، وأسالوا دماء قلب سقيم
ثم ضحوا بصاحبي وحبيبي، وا فؤاداه للصريع الكريم!
أسعفي يا دموع قلبي حتى أجد الطب فى الهلاك الرحيم
ففي هذه الأبيات اشتد التأثير فى الموقف، وقوى الشعور فى الأشخاص، فغلبت القافية إرادة الشاعر، وجاء المنظر الختامي حجة عليه ونقضا لما عاناه من ترويض الآذان على الشعر المرسل
إنما يتميز الشعر من سائر ضروب الكلام بخصائص ثلاث: موسيقية شديدة الحساسية، وصعوبة عسيرة التذليل، وقدرة على تثبيت الفكرة بلفظها فى الذاكرة. فالشعر المرسل يستطيع أن يدرك شيئا من الموسيقى إذا زاوج الشاعر بين أواخر الأبيات، واستفاد من
الحرية التي أعطيها، فتخير الألفاظ، وعدل الأقسام، وألف الألوان، وحرك المعاني، ونوع الصور، وأخشى بعد ذلك كله ألا يرتفع عن النثر البليغ المحكم. ولكن الصعوبة التي تلقى الشاعر فى كل بيت عند القافية فيسلط عليها ذهنه وفنه وذوقه ولغته حتى يفجأ أذنك - وهى تنتظر فى غير صبر - بتلك الحيلة الفنية، واللفتة الذهنية، والكلمة الصادقة الموسيقية، لا تجدها فى غير الشعر المقفى
كذلك يعجز الشعر المرسل عن أن يهيئ للذاكرة فى التمثيل - على الأخص - ما تهيئه لها القافية من (نقط الارتكاز) وعلائم الطريق حتى لا تجور ولا تضل.
على أن تسهيل الشعر بإلغاء القافية يخمد الذهن ويجدب القريحة، لان الصعوبة ترهف الفكر فيدق احساسه، وتوقظ العقل فيزيد انتاجه، وتبعث الفن فيحيا بين الهام الشاعر وإعجاب القارىء
والواقع أن القافية لم يشكها شاعر مطبوع ولا ناظم مطلع، فان الطبيعة الغنائية للشعر العربي من جهة، ووفرة الثروة اللفظية للشاعر من جهة أخرى، تجعلان القافية من أخص لوازم الشعر واسهل ضروبه. ولك فى الأراجيز القديمة، والموشحات الحديثة، وسائر ما استحدث المولدون من الأنواع القائمة على موسيقى القافية دليل ناهض على ما نقول.
فإذا وقع شاعر اليوم فى رهق من بناء القافية لقلة محصوله من اللغة، أو لمعالجته التمثيل والقصص الطويل، كان له فى تنويعها مندوحة عن هذا النوع الذى تذبذب بين النظم والنثر، فوقف من الأذن موقف الغصة من الحلق، بذلك استطاع البستاني أن يترجم الإلياذة، وتسنى لشوقي أن يبدع فى مآسيه.
هذه كلمة موجهة نفتتح بها المعركة الأخيرة بين الشعر المقفى والشعر المرسل، فان رواية (خسرو وشيرين) مع ملاحظة التحفظ فى عرضها، جاءت بعد المقالات التي نشرت بالرسالة أشبه برواية
(هرناني) حين كتبها (هوجو) على المذهب (الرومانتيكي) بعد أن دعا إليه فى مقدمة (كرومويل) وفاتحة (الشرقيات) فجعلها هو وأنصاره المعركة الفاصلة بين هذا المذهب والمذهب (الكلاسيكي) .
أما الحديث عن موضوع الرواية، وتصوير أشخاصها، وعرض مواقفها، وتسلسل حوادثها، وتدرج العمل فيها، فله فرصة أخرى نرجو أن تحين.
