قضى عادل من العمر نيفا وعشرين سنة مال فيها إلي الخير ، وابتعد عن الشر
ولكنه أراد أن يحيد فأنقذته نفسه التي أحبها . .
ثم أظلمت الدنيا في وجهه ، وأنارها المصباح الذي في يده .
فتحت الباب لعادل في ساعة مبكرة ، فتقدم إلي داخل الغرفة ، دون ان ينبس ببنت شفة ، وطرح طربوشه جانبا ؛ ثم ارتمي فوق المقعد ، وأخذ يمر بيده فوق جبينه ويتنهد . .
ونظرت إليه بعد أن أغلقت الباب خلفي ، وقلت في استغراب : ما بك يا عادل ؟ إني لم أرك عابسا مقطبا من قبل
فرفع إلي أهدابه ، فرأيت في عينيه نظرة قلق وأسى قلت ووجهي لا تزال تعلوه الدهشة والحيرة : لا تنس يا عادل أني أعز صديق لديك فتكلم . . من أي شئ تشكو ؟ تكلم عسى أن أخفف عنك بعض ما ألم بك
واخيرا ، وبعد صمت طويل ادار عادل إلي وجهه بعد ان اعتدل في جلسته ، وبدأ يتكلم ويقص قصته وهو يتريث ويتنهد ويتثاءب
قال : بالأمس . .
ثم توقف ليشعل سيجارا ، وعاد يقول : بالأمس عدت متأخرا من دار الخيالة بعد ان شاهدت فلم " الف ليلة وليلة "
فقاطعته في لهفة ؛أصحيح ؟ أهو جميل ؟ فقاطعته في لهفة : صحيح ؟ أهو جميل
قال : ليس هذا بيت القصيد . إصغ إلي
ثم استأنف حديثه يقول : كنت منهوك القوي ، محطم الأعصاب ، فارتميت فوق سريري بعد أن أشعلت مصباحي ووضعته فوق المنضدة ، وإن هي إلا لحظات حتى
أخذتني سنة من النوم ؛ لم أدر وقتئذ اكانت طويلة أم قصيرة ؛ فقد استيقظت على صوت طرق فوق النافذة . . ففتحت عينى وقمت ونفسي تتساءل عن هذا الطارق اللعين الذي جاء يقلقني ليلا . وفتحت النافدة على مصراعيها ، ونظرت إلي الخارج على أجد أحدا فلم أجد .
وعدت إلي سريري بين اليقظة والنوم ، وما كدت اتدثر بالغطاء حتى عاد الطرق من جديد ، وكان في هذه المرة أشد وأعنف . وأخيرا ، بعد أن عيل صبري ، لم أجد بدا من استطلاع الأمر ، فالتففت في معطفي ، وحملت مصباحي في يدي وغادرت الغرفة
ونفث عادل الدخان من فيه ثم قال : كان الظلام حال إلا من بريق النجوم وضوء المصباح ، وكان السكون شاملا إلا من أصوات ضعيفة تناهت إلي سمعي من بعد . . كانت تشبه أصوات الخفافيش ، ونقنقة الضفادع . ونظرت أمامي محملقا فإذا بي أجد نفسى أسير في حديقة ممتدة منبسطة بين أعشاب وأشواك وأشجار . . سرت اطويها على السنين ، مرة على مهل ، ومرة على عجل . تارة اتعثر وأخري اتقدم . . وبيدى المصباح .
ثم صمت قليلا وهو يشير بيده كمن يمثل منظرا ، ثم قال : كانت أشجارا ضخمة عالية باسقة ، طويت منها ثلاثا وعشرين قبل أن أصل إلي غدير صغير .
وأه عادل أهة عميقة ، ثم قال كمن لا يصدق عينيه : يا إلهي ! ثلاثا وعشرين !
ثم استأنف حديثه فقال : كانت المياه رقراقة عذبة صافية ، والأمواج متلالئة ضاحكة راقصة ، وكان على حافة الغدير صخور ورمال . . وتوقف عادل وسألني مبتسما : أتذكر يا صديقي نزهتنا إلي المقطم ؟ قلت فورا : وكيف لا ، وقد عدت منها ملتوي الساق ! فضحك عادل ثم عاد يقول : لقد خيل إلي أني هناك ، فأخذت اقفز من صخرة إلى صخرة
في جذل كما يفعل الغزال الحر الطليق ، حتى وجدت امامي تلا عاليا فبدأت اصعده حتى وصلت إلي اعلاه ، ونظرت إلى أسفل فبهت فقد كان المنحدر شديدا صعبا وتريثت أفكر فقد كنت حائرا بين الوجل وبين الامل ؛ واخيرا بدأت انحدر .
قلت مكملا ؛ ولم تلبث أن زلت قدمك فأخذت تتدحرج
قال مؤيدا : واتدحرج حتى خيل إلي أني سائر إلي هاوية . هاوية سحيقة . واسلمت نفسى ، في أسي وغضب ، وقد فقدت كل أمل ، وطرحت كل رجاء .
وأخيرا استقر جسدي علي الأرض ، لقد وصلت إلي أسفل سالما لم يمسسني سوء . كنت لا ازال اتنفس . . وكان قلبي لا يزال ينبض بالحياة . ولكني لم اصدق فمكثت راقدا على ظهري ، مغمض العينين ولا حراك بي ، كأني ميت مسجي ؛ وفجأة
وبلع عادل ريقه ، وصمت طويلا ، ثم قال : وفجأة أحسست بيد ناعمة باردة تمر فوق جبيني ؛ ففتحت عيني وعندئذ سرت في جسدي رعدة ، إذ وجدت أمامي فتاة هيفاء جميلة ، ذات شعر اسود فاحم ، وعينين خضراوين ، كانت تشبه شهر زاد . أوه . لا بل أجمل . أجمل بكثير . .
وانحنت الفتاة فوقى وقالت مبتسمة في حنان : حبيبى اانت جريح ؟ أجبت في مرارة وقد ارتد إلي طرفي : رباه جريح ؟ ! إن بي ألف جرح وجرح
وغاضت الابتسامة من فم الفتاة ، وقالت وهي تجذبني من ذراعي : قم معي
قلت لعادل متهكما : فأطعت ؟
فأجابني ساخرا : بلا شك . . وهل يملك فتي أن يعصي امر فتاة ؟ ثم عاد إلي حديثه فقال : قمنا سويا ،
وسرنا معا ؛ جنبا لجنب ؟ فوق الرمال . . هي تحثني على السير فأزداد تباطؤا ، وتدفعني إلي الإمام فأجذبها إلي الخلف ، حتى تناهي إلي سمعي صوت تسبيح وترتيل .
وفجأة انقشع الظلام ، وظهر القمر ، واختفت الفتاة ، ووجدت أمامي رجلا هرما ، أبيض الشعر ، كث اللحية ، يضع فوق رأسه عمامة خضراء ، ويلف حول جسده عباءة بيضاء ، وكان بيده سبحة
قلت أسأله في توسل : سيدي ! أين الفتاة ؟
فرفع إلي عينيه المتألقتين وقال مستغربا : أي فتاة ؟ !
وعقدت الدهشة لساني فتلفت حولى كان الشيخ يجلس تحت دوحة كبيرة كشجرة الزيزفون . . وهو يرتل ويسبح في هدوء وسكون .
قلت أسأله في عطف وحب : سيدي أأنت وحيد ؟ أعني ! أليس لك أصدقاء ؟
فضم سبحته إلي يده في عنف ، ثم ضحك ضحكة مرة وقال : أصدقاء ! إنهم قليلون يا بنبي . .
قلت متمتما وقد علا وجهي التأثر : مسكين سيدي ولم يذرك الناس ؟ ألا يجدون في صحبتك السعادة ؟
قال وهو يستأنف تسبيحه : السعادة ؟ ! ليس لدي مال ولا عيال ولا جاه
قلت : إذا ماذا لديك ؟
قال : شئ تافه يابني . هو راحة الضمير
قلت مستنكرا : راحة الضمير ! إنها كل شئ يا ابتي وطأطأت رأسي أفكر ؟ ثم رفعتها وقلت ، وقد مال قلبي إلى هذا الشيخ الوقور : سيدي . . أتقبل أن تكون لي أبا رحيما أو صديقا حميما ؟
فهز الشيخ رأسه ؛ وأجاب قائلا ، بين بأس وأمل : أب ! صديق ؟ إنك لن تصبر يافتي ، ولن تلبث ان تخلفني كما فعل الآخرون . .
وهنا استلقي الشيخ علي قفاه من الضحك ، ولم ادر لذلك سببا ، فهززته من كتفه مرة ، ثم مرتين ، وأنا أقول : سيدي ، كف اتسخر مني ؟
ولكنه استمر يضحك كأنه مجنون ؛ ثم رفع يده وقد تدلت سبحته واهتزت لحيته وأشار بأصبعه .
وهنا مر عادل بيده فوق جبينه الذي كان يتصبب عرقا وقال :
أتدري ماذا حدث بعد هذا ؟
قلت : لا . قال : نظرت إلي حيث يشير . . ثم تريث ليشعل سيجارا آخر ، وتابع حديثه قائلا : شاهدت جمعا غفيرا ، اناسا لا عداد لهم يندفعون نحونا في صخب ، وقد تقدمهم عملاق اسود يلبس رداء مزركشا ، ويحمل في يده سيفا . .
كان منظره بشعا ، وفي عينيه نظرة الشر ، ولكن الناس كانوا يتبعونه ، كما يتبع الجنود قائدهم ، ويطيعونه كما يطيع الخدم سيدهم . . وظهر الخوف على وجهي ، والفزع في عيني ؛ واخذت انتقل ببصري بين الرجلين . . بين الشيخ الهاديء الساكن ، وبين العبد الغاضب الثائر ، ثم رفعت يدي إلي السماء . .
وهنا اهتزت الأرض من تحتي ، وبدأ الرعد يقصف ، والريح تعصف ، وكان لها صفير مدو ؛ ثم امتلأ الجو بالغبار . . فلم أر شيئا بعد هذا سوى أني اندفع مع الناس . هذا يطرحني . . وذاك يدفعني . . حتى ارتعشت اقدامى وتسارعت دقات قلبي ، وتلفت ابحث عن شئ اتعلق به . .
واندفع الحشد فوق جسر يجري من تحته نهر كبير ، فتشبت به ووقفت وحدي ، وصدري يعلو ويهبط ، حتي مر الناس يدافع بعضهم بعضا ويتسابقون . .
وهدأت أنفاسي ، فأدرت رأسي ونظرت إلي حيث يجري الناس . . إلي الشاطئ الآخر من النهر . . فهل تدري ماذا رأيت ؟
وقبل أن اجيب بالنفي قال : رايت ما لم تره عيناي من قبل . مناظر خلابة تبهر النفس ؛ ومشاهد اخاذة تهز الفؤاد . . كان هناك ازهار . . وأنوار . . ورقص وكأس . وغناء . . وطرب وموسيقي
ثم هز رأسه وقال : أجل . . كان هناك موسيقي . . موسيقي عذبة الألحان . . لم أسمع لها مثيلا . كان لها نغم هز مشاعرى وحرك وجداني .
قلت : أنسيت بتهوفن ؟
قال : لا . إنها أحلى . . لقد ندمت وقتئذ لأني تباطأت وتأخرت وجبنت . . حتى اخذت يدي المتعلقة بالحسر ترتعد وتلين شيئا فشيئا حتى صارت طليقة ؛ ثم هممت لأعبر الجسر
وضحك عادل ضحكة هزيلة ثم قال : ولكن الجسر تحطم وسقطت في اليم . . وكان الموج عاليا جارفا ، والتيار قويا شديدا ، فأخذت أكافح كفاح المستميت ، ولكن دون جدوي ، فقد اتجهت إلي القاع .
وابتسم عادل ابتسامة أمل وقال في تأكيد : ولكني لم أصل إلي القاع . . أجل لم أصل . . فإن ذراعا لدنا ناعما التف حولي وجذبني إلي أعلي . . كانت هي الفتاة الحسناء . . هي هي . بعينيها الخضراوين وشعرها الفاحم . . وابتسامتها الحلوة . .
نظرت إليها وقلت فرحا : أنت ؟ أنت مرة أخري ؟ قالت : نعم ! أنا . . أنا دائما . .
وحملتني متجهة إلي الشاطئ الرملي حيث كنا من قيل ، فصحت قائلا : لا ! هيا بنا إلى الشاطئ الآخر . . لقد ذهب كل الناس إليه . .
قالت وهي تجذبني بقوة : تعال . لا تلتفت إلي غيرك . .
ووصلنا إلي الشاطئ فجلسنا نستريح ؟ ونظرت إليها
في وله ، ثم ربت على خدها وقلت : حبيبتى أنا مدين لك بحياتي . . انت احب شئ لدي . .أتتزوجين مني ؟
فضحكت الفتاة ، وطرحت شعرها إلي الوراء ؛ ثم همت واقفة وهي تجذبني معها وتقول كما قالت من قبل : هيا تعال
ومشينا في طريق العودة إلي حيث التقيت بالشيخ الهرم . . كان قد كف عن تسبيحه وترتيله ، ورقد على جنبه يغط في نومه . . وكانت الريح قد القت بعباءته بعيدا . .
وملت فوقه أتأمل وجهه . . كان لا يزال هادئا ساكنا . . كما رأيته من قبل ، فجذبت العباءة فوقه ثم قبلت يده . .
واختلست نظرة إلي الفتاة فرأيتها جامدة ، لا أثر للشعور على محياها ، فأخذت برسنها ، وقمت وقد انحدرت من عيني دمعة ؛ ثم سرنا مرة أخري فوق الرمال ؛ وأخذنا تصعد التل العالي حتى بلغنا القمة
وجرع عادل جرعة ماء ثم قال : وعندئذ توقفت الفتاة ، ومدت إلي يدها وقالت في ابتسامة حزينة : هنا سنفترق .
وشعرت كأنما لسعتني حمة عقرب ، فقبضت على ذراعها ، وجذبتها نحوي ؛ والتزمتها إلي صدري ، وقلت وانا اضمها بعنف واطبع على ثغرها المرتعد قبلة حارة : لا . لن نفترق . . إني أحبك . .
قالت وهي تبعدني : سنفترق . . وداعا
وهنا يا صديقي عاد الظلام واختفي القمر . .
وألقي عادل السيجار من يده كأنه غاضب ثم قال : وخطت الفتاة إلى الخلف . وقبل ان أوليها ظهري سمعتها تناديني قائلة :
عادل ! خذ مصباحك ، لقد تركته عند حافة الغدير ؛ خذه . وإياك أن تنساه
وفتحت عيني ، فإذا يدي ممدودة إلي " الكتاب الذي فوق المنضدة ، فابتسمت وقلت وكأني اجيب الفتاة الحسناء : لن أنساه يا حبيبتي ، لن أنساه
واندفعت من خلال الباب اختي الصغيرة وقالت في غيظ : ما هذا يا عادل ، إني لم ار مثلك احدا يغط في نومه . لقد تعبت يداي من الطرق فوق النافذة
فحملقت فيها دهشا وقلت : إذا فأنت . يا إلهي ! لقد حسبته خيالا
قلت لعادل ، وأنا اقدم إليه قدح الشاي ، فيأخذه في هدوء ويحتسيه في صمت : خيال لا يا صديقي . ليس بخيال

