الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 145الرجوع إلى "الثقافة"

قصة صيفية :, آباء وأمهات

Share

في ذلك الطرف من الأرض الجافة التي ترتفع عن قبضان المياه ممتدة من الأفق إلي الأفق ، أكوما مما بلوح كأنه حطام . وبكل كومة بضعة مقاعد خشبية ، ومنضدة خشنة الصنع ، وصوان صغير ، وقدر حديدية فوق قاعدة مفرغة من الفخار قد كساها الدخان بالسواد .

ولكن القدر باردة ، ولقد ظلت باردة لأسابيع خلت ، فما من وقود يشعل تحتها . . لقد اخذ الفيضان كل شئ !

وكل كومة من تلك الأكوام هي كل ما تخلف من بيت ومزرعة . وأما الباقي فإنه يرقد تحت ماء الفيضان ، حيث ترقد أيضا المحاصيل التي زرعت ولم تحصد قط !

وحول كل كومة من بقايا الأمتعة جماعة من الناس : رجل وامراة واطفال ، وربما زادوا شيخا او امرأة عجوزا ، وإن كان لا يوجد من هؤلاء إلا القليل ؛ حتى لتتألف الجماعات في أغلب الأحيان من أب وأم وأطفالهما ؛ على أن هناك نوعا من النزاع الخفي متصلا بين الآباء والأمهات ، وإلا فصمت مرووع . ولكن فيم النزاع يا تري ؟

ها هو اب ، فلاح شاب ، يصوب نظرات عابسة إلي زوجه الشابة ، لابد أنهما تزوجا صغيرين ؛ فبالرغم من أن كل أولئك الأطفال الخمسة أطفالهما ، فإن الطفل الا كبر لا يعدو الثامنة ، والأب لا يزيد على السادسة أو السابعة والعشرين , أما الأم فتبدو أصغر من ذلك .

والآب أسمر اللون قوي البنية ، وإن كان يبدو

الآن شديد النحول ؛ ولكنه رجل من أولئك الذين تراهم في الريف حيثما ذهبت ، رجل يحب أرضه ويعتز بحرث حقوله ، وبأكوام حبوبه الصفراء ، وبطيبات ما ينتج . يعتز بها جميعا لأنها ثمرة جهده ، فهو فخور بأن يكون قويا مدبرا , ثم هو طيب الوجه ، حتى الآن وهو عابس ، وإن بدت عليه أمارات الجد والصرامة إلى حد ما ، أما عيناه فصريحتان ، وإن امتلأتا باليأس .

والأم لا تنظر إليه إلا خفية ثم تتحول عنه مسرعة ، لقد كانت فتاة قروية حسناء مستديرة الوجنتين ، طليقة القدمين ، ذات جسم قوي حسن التكوين ، لولا نحافة طارئة , ولكن عينها غائرتان ، وشعرها الأسود متلبد ، قد شعثته الرياح ، إذ أنها لم تمشطه منذ أيام ، وشفتاها جافتان رماديتا اللون ، وإن كانت لا تفتأ تبللهما بلسانها .

إنها في شغل دائم ؛ فهي تراقب الأطفال باستمرار ؛ واثنان منهم لا يفارقانها أبدا : أحدهما إلي ثديها الذي لم يعد سوي قطعة من الجلد المتجعد ، ولكنه ذلك المخلوق الشاحب الصغير الذي تضمه فيسكن إليه رغم أنه خاو ، ثم يئن زمنا في خفوت , والطفل الآخر بنت صغيرة ، لها من العمر عامان ، مخلوق صغير ذابل ، يظل في صمت تام ، وقد لزم السكون بين ذراعي أمه , أما الاطفال الثلاثة الآخرون فلا يتحركون كثيرا ؛ ولكن عند ما يفلت أحدهم قليلا ، أو يذهب نحو حافة الماء ، يعلو صياح الأم ، ثم لا تهدأ حتى تري الأطفال جميعا قريبا من يديها .

وهذا القلق أخص ما ينتابها بالليل ، إذ تضع كل الأطفال حولها ولا تكاد تنام على الإطلاق .

عشرات المرات تفزع من نعاسها ، وتمر بيديها مسرعة على الأطفال ، هل هم جميعا خمسهم هناك ؟ . . أين الطفلة الآخر ؟ آه ! ها هي ذي ! إنهم هنا . ولو بدرت من الأب مجرد حركة لصاحت محتدة : " ماذا تصنع ؟ ماذا جرى ؟ " واحيانا ينفجر الأب في لعنة

مرة عليها , فتدرك السبب ولكنها لا تجيب بلفظ ، بل تدني الأطفال منها ، وتعدهم مرة بعد مرة في الظلام

وعند ما يأتي الصباح محاول ان تحدث هرجا كأن لديها طعاما كثيرا تجهزه ، فتأخذ قليلا من ماء النهر البارد وكزجه في جزء قليل مما بقي من الدقيق ، محاولة أن تقول في ابتهاج : " حقا أن الباقي من الدقيق أكثر مما كنت أتوقع ! إن لدينا ما يكفي عدة أيام " .

وهي أبدا حريصة على أن تدبر للأب النصيب الأوفي . واما ولداها الكبيران فتسكت صياحهما في فزع ، وهي تعاود النظر إلى الرجل الذي يحدق فيهم جميعا باكتئاب دون أن يقول شيئا

أما نصيبها فأقل الأنصبة ، وإن كانت تتعمد رفع صوتها أثناء رشفها له ، وإذا استطاعت فيها لا تطعم شيئا ، مدعية أنها غير جائعة أو أنها تحس ألما داخليا ، وإذا امكنها ان تكف لحظة عند ما يدبر الرجل ظهره ، فإنها تطعم طفلتيها الصغيرتين في خفاء وسرعة

ولكن الأب لا يخدع ، إذ يزأر صائحا في وجهها إذا رأي ما صنعت : " لن أدعك تموتين جوعا ولو كان في موتك حياة لأحدي هاتين " . ثم لا يطمئن حتي يراها ترفع قدحها إلى شفتيها ، فتمص ما في القدح في رشفات صغيرة مقتضبة لتوهم أن نصيبها أكبر .

وبالرغم من كل ما تبذل من جهد فان الرجل يعلم قلة ذخيرتهم ، ويعلم كيف يصيح الأطفال طلبا للطعام . إنهم لا يعبأون دائما بتهدئة أمهم لهم ، فينفجر الولدان أحيانا معولين . لقد كانا من قبل ممتلئين متوردين ، وكان لهما كل ما يبغيان من طعام , أما الآن فلا يدركان كيف أن الماء قد طغى وغمر الأرض على تلك الحال ؛ وبدا لهما ان أباهما لابد أن يلتمس مخرجا , أما هو فيذهب حينئذ ويجلس إلى حافة الماء ويضع يديه على أذنيه بينما يعول الصبيان .

في تلك الأوقات بتجلي الفزع على وجه الأم ، فترجو ولديها هامسة : " لا تسوقا أباكما إلي اليأس ؛ اهدءا اهدءا  " وما إن يريا وجهها حتى يتملكهما الخوف فيصمتا شاعرين بالخطر دون أن يعلما حقيقته

وهكذا يستمر الصراع الخفي المروع بين الأب والام ، فكل يوم ينقص الدقيق في السلة بينما القبضان لا يينحسر ، وفي كل ليلة تعد الأم أطفالها في الظلام

ولكنها لا تستطيع أن تظل بغير نوم إلي الأبد ، فتحين ليلة بقلب النوم - على غير وعي منها - جسمها المضني علي الجوع ، فتنام وذراعاها مبسوطتان على الأطفال ، ولكنها لا تنتبه حين بتحرك الآب وبهمس للبنتين الصغيرتين الصامتين ، فتتبعانه في اطمئنان لمسافة قصيرة ، يعود منها متعثرا بمفرده بعد لحظة ، ويرقد في الظلام ، ثم يزفر زفرة عميقة أو زفرتين تنبعثان منه كالأنين .

وفي الفجر الأشهب تستيقظ الأم فجأة ، فإذا هي في فزع حين تدرك - حتى قبل أن تستيقظ - أنها كانت نائمة , إنها تتحسس أطفالها . . أين الأخريان ؟ . . ثم تصرخ وتقفز بقدميها شاعرة بقوة فجائية ، إنها تهرع إلي زوجها وتمسكة وتصيح في وجهه : " أين الطفلتان ؟ " . . ها هو مجلس القرفصاء على الأرض ، ركبتاه إلي أعلى ورأسه على ركبتيه . . إنه لا يجيب .

الأم في غير وعيها . . إنها تبكي في حرقة ، وتهز الرجل من كتفيه وتصرخ في وجهه : " إنني امهم ! إنني أمهم " .

فيوقظ صياحها كل فرد في ذلك المأوي البائس ، ولكن ما من صوت لمتكلم كل إنسان يعرف كنه ذلك النزاع ، فقد كان مثله في كل مكان .

وتنفجر الام في أنات مروعة ، ثم تقول في شبه حشرجة : " أيعقل أن تأتي أم امرا مثل هذا ؟ ! إنهم الآباء فحسب الذين لا يحبون أبناءهم ، ويضنون

عليهم بقليل من الطعام " .

وحينئذ فقط ينطق الرجل الواجم ، إذ يرفع رأسه من فوق ركبتيه وينظر إلى المرأة في غيش الفجر وهو يتمتم :

" اتظنين أني لم أكن أحبهم ؟ ! " ثم يدير رأسه جانبا ، ويقول ثانيا بعد حين : " لن يقاسوا ألم الجوع بعد اليوم ! " .

وحتي الأم ينعقد لسانها ، حين تري وجهه الملتوي من الألم

اشترك في نشرتنا البريدية