( كان أذينة الباسل أمير تدمر عاصمة الصحراء الغنية بتجارتها ، تركات زوجتة الجميلة زنوبيا ، سليلة كليوبترة ملكة مصر وشبيهتها فى الثقافة والذكاء والجمال . ومعلمها لونجين الفيلسوف الرومي ،يقرأ لها كتاب الشعر والفلسفة . ولها وصيفة مسيحية (لميس ) تحدثها عن دين المسيح حتى مالت اليه بعض الميل وجاءت الانباء إلى تدمر بأن سابور ملك الفرس هزم فالريان أمبراطور الروم وأخذة اسيرا فنصب اذينة وهم بالاندفاع الي حرب الفرس ولكن أمرأتة نصحتة بالتمهل ، وحملته على ارسال هدية الى سابور ليستعمله وبقي اذينة فى انتظار انباء تلك الهدية فى قلق عظيم وخرج يتسلى بصيد السباع على عادته ، فأوقع بابن أخيه ممن وأمر بسجنة وهو في ضيق صدر من قلقه ثم أتت اليه الانباء الأنباء بأن سابور الى مدينته في الفرات وسبه وأهان قومه العرب ، فثار للانتقام وذهب بجيش عظيم إلى حرب فارس . وهناك أوقع بابور هزيمة طاحنة عند الفرات ، وتبعه إلى طيفون ، وحدت في أثناء غيابه من تدمر أن أغار عليها أحد أمراء العرب، ولكن زنوبيا قاومته، حتى أن الأخبار بانتصار زوجها فضقت نفوس العدو عند سماعها، ورفع الحصار. وبقيت زنويا تنتظر زوجها في تلهف أنساها كل من حولها حتى معلمها لوكين ووسيقها لميس . ثم جاء أذينة وخفت تدمر لاستقباله والابتهاج بقدمه، واحتفل هو بصره الباهر، وأنت إليه الوقود تتقرب إليه بالهدايا والدحية وخلع عليه امبراطور الروم لقب الملك وجمله خليفته على حكم المشرق كله. وتمكنت زنوبيا وهو في حزة عصره أن الشام عنده لكن يطلق معناً من سجنه ولكى بزوج وصيفتها لميس من الفارس الباسل حسان المسيحي
ولكن اذينه تغير بعد عودته من القتال وانصرف إلى الخمر واللهو ونسا قلبة فى عقوبة من خرجوا فى ايام غيبته وكان أشد الامور وقعا على زنوبيا غرامة بالسببية الاعجمية شهناز وأثر ذلك فى الملكة فأغلقت قلبها دونة وأخذت تجسد حبه وتنتكر له ، ولما خرج أذينة من تدمر إلى حرب ( بالسنا ) الثائر بالتام ملكت نفسها ولم تعلمها فى التألم لفراقة )
لم تحس الملكة في أول غيبة زوجها هذه المرة مثل إحساسها الأول أيام فارقها أول مرة في ذهابه الحرب سابور. لقد كانت عندما فارقها من قبل تعافى وحشة قلب لم يتعود من قبل الفراق ، وكان قلبها مليئاً ما تفيض به عاطفة المرأة المحبة التي وثقت بمن تحبه كل الثقة وجعلته مناط أمامها ومبعث سعادتها وظل سلامها وأمنها . كانت عند ذلك ترى فى أذينة الصدر الذي تستدفئ بالانضمام إليه ، والساعد الذى تثق بالاحتماء وراءه ، والصديق الذي تأنس بعودته ، والبعل الذى تنعم في عبادته .
كان لها إلها وإن كانت تعرف فيه هوج الغضب وعبث السكر وقسوة السطوة ، بل إن هذه الخصال التي عرفها فيه وأنكرتها أحيانا عليه كانت من بواعث القوة في إعجابها به وفنائها فيه . أليس هو في ذلك كبعض تلك الآلهة التي طالما قرأت عنها في إلياذة هوميز ، إذ هى مجمع
بین جلال القوة وشدة البطش وسمو الرحمة وصفاء المودة ؟ كانت عند ذلك لا تتصور الحياة إلا كان أذينة ملؤها ، ولا تتطلع إلى أمل إلا كان شخص أذينة مائلاً بين جناحيه الشفافين المتلألئين. كانت حياتها كلها حلما تتخلله صورة أذينة على اختلاف مناظره وتنقل حالاته وتعدد ألوانه. صورة تبدو أحيانا في إطار زاء من الحسن الوديع، وأحيانا في لجة من القوة الجامعة ، وأحيانا في معركة من النضال العنيف ؛ ولكنها في كل الحالات صورة محبوبة لا تزال حينها متعلقة بها في إعجاب يشبه العبادة .
ذلك ما كانت زنوبيا تحسه عند ما فارقها أذينة أول مرة في ذهابه إلى حرب سابور، ولكنها عند ما وقفت تنظر إليه من أعلى القصر وهو يختفى مع جيشه وراء الكثبان الصفراء ، ذاهباً نحو الشام لحرب القائد (بالستا) لم تحس إلا مزيجا عجيباً من الحزن والحنق
والقسوة ؛ وكانت كلما نازعتها ذاكرتها إلى تذكر أيام حبها وإيمانها به حرنت و عصت ومانعت وأبعدت كل ذكرى غير ما تنص عليها حياتها في تلك السنة الماضية . إنه أذينة القاسي السفاك الماجن الكبير. إنه الزوج الذى أوى إلى شهناز الأعجمية ووجد فيها ما أنساء حبها وصداقتها ، وطعن قلبها في صميمه، وأقل عزتها وكبرياءها . إنه الرجل الذى تركها تبادل نفسها وتجاذبها أشد مجاذبة وأعنفها حتى استطاعت أن تحملق إلى الحياة الجافة الباردة، وأذهب عنها كل ما كان يملأ قلبها رقة وخيالاً ، وتركها للعقل المجرد وحده يحركها في تجهم ، حتى أصبحت حياتها خالية من تلك الألوان الزاهية التي كانت تهزها وتكسبها جالاً وتفمعها شعراً ورقة.
ولا صارت في تدمر وحدها لم تجد في وحدتها جديداً ؛ فلقد قذف بها أذينة إلى تلك الوحدة من قبل وهو معها في ذلك العام الأخير، حتى ألفتها واستقرت عليها وأنست إليها .
ولهذا لم تشعر في حالتها الجديدة وحشة ، ولم تلف لحظة التفكر فى سير الأيام والشهور، ولم تعبأ إذا كانت تمر بها مبطئة أو سريعة ؛ فقد كانت لا تلتفت إلى ماض ولا تتطلع إلى أمل . وعلى ذلك مضى عليها شهر بعد شهر وهى في تدمر تستقبل الوقود وتدير أمور القوافل وتسير في المواكب ، وتصرف أمور القوم ، وتبذل حيناً وتجمع حيناً ، وتسوس الأمور على هدى عقلها وتصالح معلمها لونجين ، حتى كانت لا تذكر زوجها الباسل إلا بين حين وحين إذا هي استقبلت منه رسولا ينبتها من نصر جديد أو سير إلى حرب أخرى بعد فراغه من حرب قبلها
وكان قلبها ينازعها في بعض الأوقات فتحس حنيناً إلى ذكرى الزوج الحبيب، ثم لا تلبث أن تصرف ذلك الحنين وتملك قلبها التمرد فترده إلى جوده، كما ترد الأم القاسية طفلها العاصي إذا جمع لحفلة عما عودة من طاعتها
وكانت في هذه الأيام التي مرت بها تقف بين حين وحين للتتأمل نفسها وما اعتراها من تغير : ولكنها كانت تبينت تغيرها ازدادت فيه صلابة وشدة. حتى القد خيل إليها أنها قد تحولت شخصاً آخر غير المرأة التي كانت تعرفها في نفسها ؛ ولهذا كانت تتحدث إلى الرجال وتجالسهم وتسامرهم وتجادلهم : ونزشف معهم الخمر في مجامعهم، وتقسو أحيانا وتطرب أحيانا، وهي في كل حين تظهر عليهم إرادتها وتحملهم على رأيها، ولم تتردد في أحاديثها أن تصارحهم ويصارحوها في كل أمر من أمور الحياة وفى كل مسألة من مسائلها ، حتى كانت تكاشفهم ما ترى في علاقات الذكور بالاناث وما فيها من حافة أو حكمة ؛ وكانت تكسو أحاديثها أحيانا بسخرية لاذعة فيها ما يشبه الحقد والحنق ، وأحيانا تكسوها صراحة مكشوفة فيها ما يشبه المجون والتبذل ؛ ولكنها كانت مع كل ذلك مالكة زمام نفسها متنبهة إلى كل ما تم عليه وجوه أصحابها من خلجات خفية في طوايا نفوسهم .
وكانت لميس في هذه المدة لاهية في سعادتها لا تكاد تذكر الملكة إلا إذا ذهبت إلى خدمتها ، فقد كانت في شغل منها ما تجده في حياتها الجديدة من صحبة حسان ؟ وكانت زنوبيا لا تلتفت إليها كما كانت تلتفت من قبل أيام كانت كلما ضاقت بهمومها تلجأ إليها لتحدثها وتملأ صدرها من إيمانها وبساطتها . فقد بعدت زنوبيا عن الإيمان ووضعت بينها وبين القلب حجاباً جامداً صارماً .
ولكن أيستطيع الانسان أن يكون إلها ؟ جحدت زنوبيا قلبها وظنت أنها ملكت زمامه وخلصت من ثوراته العنيفة التى كانت تزلزل ثباتها وتقذف بها إلى الهموم السوداء، ولكنها لم تلبث أن تبينت الحقيقة المنطوية في أعماقها عندما انكشفت لها
كانت جالسة في يوم من أيام مطالع الربيع الممتلئة بالحياة تنظر إلى حديقة القصر من فوق شرقها ، ولونجين يقرأ لها في كتاب أفلاطون ، ويصف لها الدينة الفاضلة
التي صورها ذلك الفيلسوف . وكانت تجادل معلمها في حماسة وإعجاب ، وتسمع وصفه ، غارقة في تأمل ما تكون عليه تدمر إذا استطاعت أن تجعل منها مدينة مثل مدينة أفلاطون، وقال لها لونجين : إن الامبراطور جالينوس قد مهد إلى صديقه الفيلسوف أفلوطين أن يقيم له في دولته مدينة فاضلة وفوض إليه أن يصورها كما أراد. ولم تكن زنوبيا أقل من جالينوس بصراً ومالاً ومجداً . ولم يكن لو تجين إلا صديق أفلوطين وقرينه في العلم يفلسفة القدماء . وأفاقت المملكة بعد حين من تأملها وقالت لمعلمها :
ولكن أفلاطون لم يجرب . إن الأحلام السعيدة دائماً أزهى لوناً من الحياة يا أيها السيد المبجل فقال لونجين في حماسة :
- إن تلك الألوان الزاهية التي تخلع على الأحلام جمالها مستمدة مما تقع عليه الأبصار . وما براعة الآلهة إلا في مزجها في الأحلام فقالت زنوبيا :
يريد الفلاسفة تصفية الحياة مما أودعته الآلهة فيها إنها لم تودع هذه الغرائز السفلى في قلوب الناس إلا لتتم لهم الحياة على مشيئتها ، وأنى يقدر الانسان على أن يكون كاملا ؟
فقال لونجين : ولكنا نتقدم وتهذب ويخطو مع الزمان دائماً ألم يكن القدماء يلبسون الجلود ويقتلون الضحايا عند مذابح آلهتهم ؟ أليس الفلاسفة طلائع الانسانية في التقدم ؟
فسكتت زنوبيا حيناً ، ونظرت إلى البستان المبتسم تحت قدميها ، وجعلت تملأ صدرها من الهواء المعطر ريح زهر الليمون والبرتقال ، وكانت براعم المشمش تكسو أغصانه بشوب ناصع كأنه من قطع الثلج الأشهب ؛ وكانت أشجار الرمان والزيتون والأعناب تتفتح وتمتلئ بالحياة الجديدة في دف الربيع الأول، فاهتزت نفسها ، وجاشت
شجونها الكامنة التي أطالت كبتها ، ثم نظرت إلى معلمها وقالت في حاسة :
- أيها السيد البجل، إن هذا الربيع يهز نفسى . القد أسلمت قيادى إلى العقل ، ولكني أجد لا يقوى على حكم نفسى . ما أبعد خيال الفلاسفة عن العقل : إن خيال أفلاطون ينبض بقوة تحرك النفوس ، وما أحسب أفلاطون إلا شاعراً ، وإن كان لا يعبأ بالشعراء . لقد حرك نفسى بعد أن ظننت أنها قد نسيت الحركة تم قامت وقالت لمعلمها :
- تعال أيها السيد المبجل لتجول جولة في هذه الوديان المزدهرة التي أحياها الربيع
وخرجت مع معلمها فركبا إلى الصحراء، وسرحت زنوبيا طرفها في المروج الخضراء البائعة تشقها جداول الماء الصافى، وهى تتفرج في الوديان تلمع في ضوء الشمس الرفيقة ؛ ويتألق في قاعها الحصى كأنه فتات من الجوهر الثمين. وكانت أسراب الظباء تسنح لها وإذ هي تثب خفيفة من خميلة وتسرع إلى خميلة بعدها ، فلا تصح منها إلا بياضاً يبرق ثم يختفى . ولم تملك عند ذلك أن تعاودها الذكرى القديمة التي ظنت أنها نسيتها . لقد كانت تخرج إلى هذه الوديان مع أذينة إذا أراد الصيد، وما كان أسعدها في تلك الأيام ! إنها لم تجد فى قلبها من حل في مكان زوجها الحبيب، وبقى قلبها الموحش مظفاً بارداً وحيداً .
إنها تحاول أن تجد فى الفلسفة ما يبعدها عن تذكر هزات قلبها ، ولكنها لم تجد الفلسفة نفسها خالية مما يهز القلب . وجرفتها الذكرى فإذا بها تفرق فيها وتغيب عن إبصار العالم الحى الذى يحيط بها . أذينة : ما الذي يجعل كل شي . يذكرها به ؟ألم تخلعه من قلبها وتعنى آثار حبه القديم ؟ ما بال صورته تعود إليها كأنه لم يغب عنها إلا في رحلة من رحلات صيده ؟ وما بالها تحس قلبها يخفق كأنها تترقب يوم عودته إلى تدمر لترتمى على صدره وتبكي
وتطلب منه العفو من جحودها ؟ أف لهذه الزعازع التي نثور بها على غير انتظار ! .
وعادت إلى نفسها جعلت تجاهدها، ولم ترد أن تسترسل فى هذه الهواجس ، وهزت هذه الذكريات في عنف حتى أبعدتها وأسكنت ثورتها ؛ وعادت مع معلمها إلى تدمر، ولكنها لم تعد خفيفة نشيطة كما كانت تؤمل أن تعود ؛ ولما صارت في القصر وجدت رسولاً من أذينة ينبئها أن حزبه في الشام قد انتهت إلى نهايتها، وأن (بالستا) قد أسلم له بعد انهزامه، وأنه أمر بقتله وأصبح بذلك عند جالینوس حامي حمى دولة الروم وعضدها الأيمن، وأنه ذهب بعد ذلك إلى جزيرة آسيا الصغرى لمساعدة الامبراطور في حربه مع هميج القوط، فقد وهبه الامبراطور إقليم بيئتنا تمنا لمساعدته إذا هو لى النداء
ما هذه المصادقات العجيبة التي تجتمع لها بين حين وحين لكي تزعزعها وتعيد إليها شجونها ؟ ما بال أذينة يتمثل لها كلما طلع أمام ناظرها مشهد من الحسن ؟ وما بال اسمه يرن في أذنها ويسلك يرغمها إلى مداخل قلبها الحائر ؟
وعند ما أمرت زنوبيا بأن تعلن البشائر في تدمر وأن يقيم لها الناس في مدينهم العظيمة ما هي جديرة به من الاحتفال ومظاهر البهجة، نسيت حنقها وقسوتها وعادت صورة زوجها تهز نياط قلبها
ومضى أسبوع كامل والمدينة متلاشة في طربها راقصة في غنائها مسرفة في لهوها وتبرجها
وشاركت زنوبيا في ذلك العيد الشامل، فأقامت الأهل تدمر احتفالاً في المنتدى الأعظم بقى أيام الأسبوع المرح كلها ، واجتمع فيه الفرسان والمتصارعون والممثلون والمضحكون ، فمرضوا ما عندهم من فنون على ألوف وألوف أهل المدينة ، وقد أرخوا لأنفسهم العنان وانبعثوا يضجون ويتعابثون في مقاعدهم الحجرية المزدحمة حول ميدان المنتدى الفسيح. ثم سارت في اليوم السابع بموكبها الرائع إلى حرم تدمر الأعظم في معبد شمس
بعل ، فأقامت فيه الصلاة في زحمة من الحجاج الذين أتوا فجاج الصحراء ليشاركوا المدينة في عيدها.
وكان قصر الملك آية الإبداع فى زينته وأضوائه وولائمه وأسمارة ، وأعدت الملكة فيه احتفالاً بعد أن مضى الأسبوع ، جعلته الخاصها وأكابر قومها وضيوفها ، ولما أقبل الليل جلست فى مجلس شامل للسمر والشراب، وقامت هي على إعداد الايوان وتجميله ، فلم تترك فيه ركناً لم تخلع عليه البهجة ، ولم تبق فيه تمثالاً من تماثيل الآلهة لم تنفث فيه الحياة، وكان أكبر احتفالها بتجميل تمثال جدتها كليوبتره، جملتها في صدر الايوان في حلة أرجوانية ، وزينتها بحلى من الذهب والجوهر ، حتى كان القادم على الايوان يحسب أنه مقبل على الملكة العظيمة وهى في ثوب الحياة لكى يؤدى لها ولاءه وإعجابه وإجلاله .
وكانت زنوبيا في تلك الليلة فائدة الحسن بادية الحماسة حتى لقد عجبت من نفسها كيف امتلأت بذلك الطرب الشائع بعد أن ظنت أنها قد نسيته، وعجبت من قلبها كيف خف وخفق بعد أن حسبت أنها قد ملكته لقد لمحت من نفسها أنها لم تزل تنطوي على المرأة وإن خيل إليها أن المرأة قد فارقتها .
ولما كمل عقد المجلس وازدانت أرائكه بكل حلة براقة وكل حلية ذهبية مجوهرة ، دارت فيه الكؤوس على الجمع بين بلورية وفضية ومسجدية ، ودار الحديث ودبت فيه الحياة بين فكاهة حلوة وقصة طريقة مختارة ومناقشة هادئة مهذبة
وكان الأب بولص السمسطائي يجلس عن يمين الملكة ، وكان لونجين الحكيم عن يسار الملكة لا تفوته لفتة من لفتاتها ولا لفظة من الفاظها ، ولاسيما إذا اتجهت بالحديث إلى الاسقف المسيحي . وكان القلق يعتريه كلما سمعه يتحدث من مذهبه في الدين . أريد هذا الأسقف أن يفتن الملكم ويحولها من دين هومير ؟
وجري الحديث في شجونه ، من دعاية إلى قصص ، ومن شعر إلي حكمة ، ومن بحث في الدين المسيحي إلي
طرف من أدب الوثنية . وانساب عذبا هادئا حتى كاد يمضى الليل . ثم قامت زنوبيا مؤذنة بالانصراف وحيت اصحابها وضيوفها ، وخرجت ذاهبة إلى مخدعها ، وخرج لوجين وراءها ذاهبا إلي منزله في القصر
ولما أرادت أن تلقي إليه تحية الوداع قالت له : - ألم تر أيها السيد المبجل كيف لم يأت معن؟
إنه لم يشهد حفلة من حفلات هذا النصر . فأطرق الفيلسوف وهو يجيب : - إنه ليس في تدمر يا مولاني وكان الملكة قد مست جمرة عند ذلك ، فانتفضت قائلة : - ومن أعلمك بهذا بال لونجين ؟ فعجب لونجين من قزع الملكة وقال في صوت خافت : - سمعته في السوق منذ أيام من صديق . فنظرت إليه الملكة في شئ من الغيظ ثم ملكت
نفسها والقت إليه محبة قصيرة ، ودخلات إلي مخدعها وأسلمت نفسها لجموع من المخلوف .
أين مضي معن ؟ وما الذي حمله على الخروج من دمر خفية ؟ إنه لم يذهب مع اذينة إلى الحرب ، إذ كان يعاني ألم المرض الذي الم به وهو في سجنه . ولما ابل من مرضه لم يسرع إلي اللحاق بعمه ليشاركه في حرية يكون قد ذهب إليه ليقطع عن نفسه لوم التخلف عن القتال ؟ ولكنه لم يأت إليها ليستأذنها وودعها ، وهو يعرف أنها كانت تحبه كأحد أبنائها .
ولم تستطع صورة معن أن تفارق ذهنها تلك الليلة ، وكانت تراه في الرؤي المتقطعة بتخلل احلامها حتى رأته في أحدها يحمل على أذينة صائحا مهددا . فهبت مذهورة ولم تستطع بعد أن تجد إلي النوم سبيلا
(يتبع)
