-كان من الطبيعي للانسان الأول ، وهو ينظر إلى سطح الارض فيراه مدحدواً أمامه ان يعتقد ان هذه الأرض بسيط تنتشر فوقه التلال وتوشيه الأشجار وتجري خلاله الأنهار .
- فلما دار ببصره فيما حوله ورأي الأفق يطلق حول هذا السطح في المكان الذي تلامس فيه قبة السماء أطرافه كان من الطبيعي عنده أيضا أن يعتقد ان هذا البسيط الأرضي قرص مستدير .
- وكان من الطبيعي في نظره أيضا وهو يري الشمس تدو كل يوم من المشرق ثم تتخذ سبيلها مصعدة في أجواز السماء حتى تنتهي آخر النهار إلي الغرب فتغيب فيه - كان من الطبيعي أن يعتقد أن الأرض ثابتة وان الشمس تدور حولها كل يوم مرة .
وكذلك كان من الطبيعي عنده أن يعتقد أن الأرض مركز الكون ، لأن النجوم التي كانت تبدو له كل ليلة مبعثرة في قبة السماء ، كانت تشرق وتغرب هي الأخرى لتدور حوله كما تفعل الشمس .
والإنسان منذ نشأته الأولى يمتاز بعقله المفكر الذي لاينى لحظة واحدة عن التفكر والتدبر ، فلما لم يسعفه عقله ما خفي عليه من أسرار الأرض ، ومعرفة العوامل التي تمسكها هكذا في مركزها الوسط الذي يرى انها تشغله في هذا الكون ، استمدي الخيال لحل هذه المشكلة ، فتخيل الأولون أساطير ممتعة عن الطريقة التي تملك الأرض في مركزها هذا ، وكانت الاسطورة الإغريقية من امتع هذه الأساطير.
فقد كانت طريقة هؤلاء الأغريق في فهم الكون إن يتخذوا لكل ظاهرة من ظواهره الكبرى إلها يهيمن
عليها ويدير شئونها ويكون المرجع إليه في كل ما يتعلق بها ؛ فلبحر عندهم إله ، وللقوة إله ، وأجمال إله ، والحب ربة ولمثبرة اخرى ؛ فلما شغلتهم فكرة الأرض كيف بسطت ، وكيف عقلت في مكانها ، تخيلوا أن هناك عملاقا جبارا يحمل هذه الأرض على كتفيه ، ورفعوا هذا العملاق إلي مصاف آلتهم الآخرى وسموه " أطلس " . ونحن لا نزال إلى اليوم متأثرين بهذه الأسطورة الإفريقية القديمة ، وآية ذلك اننا نطلق اسم هذا " الرب " القديم على مجموعة الخرائط الجغرافية التي تصور بها بعض صفحات هذه الأرض .
ولكن هذا الخيال الخصب لم يعرقل في الإنسان تلك العملية الأخرى التي لا تزال منذ القدم تدور في رأسه وتدور ، سواء اراد هو ام لم يرد ؛ فإن الفكر الإنساني يعمل ليلا ونهارا - في اليقظة والمنام - وهو في نشاطه هذا يعمل كما تعمل الرئة التي تتنفس دون أن يوجهها صاحبها ، والقلب الذي ينبض دون أن يحركه حامله .
فكان من الطبيعي ايضا ان يهتدي العلماء بتفكيرهم المتواصل إلى تصحيح ما رسمة الخيال . وجاء رجل الرحلات فايدوا ما وصل إليه رجال السلم . واثبتوا ان الأرض كروية وليست قرصا مستدبرا ؛ ولكن الناس - وهم في كل زمان ومكان أعداء لما جهلوا - فاوموا هؤلاء العلماء قاوموهم في أول الأمر ، قصدوا عن مقالاتهم واعرضوا عن دعواهم ، وكذبوا أولئك الرحالة فاتهموم بالتلفقز والتزوير; ووقفوا من الطائفتين عند هذا الحد في بداية المعركة غير أنه يبدو أن لرجال الفكر ورجال العمل شيطاننا مربعا يلازمهم ولا يزال يحضهم على دعوة الناس ليقيموهم ويتخلوا عن معتقداتهم القديمة التي ثبت لهم هم بطلانها . فلما رأي الناس إصرار هؤلاء ( الادعياء )على دعواهم التي لا تتفق مع ما يرونه بعيونهم وما اخذوه من العلم عن ابائهم واجدادهم
وقت الواقعة بين الفريقين ، وتحكمت الكثرة في القلة ، واستبد الجهل بالعلم ورجاله وانصاره وقام رجال الكنيسة في القرون الوسطى ينتصرون للتعاليم الساذجة الأولى التي تورطوا في نشرها باسم الدين . فتصلح الجهل بأمضى اسلحته وحسبك في محارية الرأي ان تتنادى بأنه مخالف للدين لتقوم الدهماء بالباقي . وماذا بعد ( التكفير ) إلا النفي والصلب والتحريق والتمثيل ؟ !
ولكن قام من بعد الرحالة الأول رحالة ثان وث وثالث . وأجمع الجميع على أنهم طافوا حول الأرض ، فعادوا إلي حيث بدءوا ، بعد ان أتموا دورتهم حولها .
وكذلك ظهر الحق في أمر كروية الأرض وزهق الباطل وبدأ الناس ينظرون شزرا إلى تعاليم الكنيسة . وأخذوا يترحمون على ضحاياها الذين لم يكن لهم في الواقع من ذنب إلا انهم رفعوا المشاعل عالية لتضيء السبيل أمام من لم يؤت مثل حظهم من نور المعرفة ويقين الحق . ولم يمانع الناس كثيرا بعد ذلك في تصديق النظريات العلمية الأخرى التي جاءتهم تترمى من العلماء ورجال الفكر ، فلم يقاوموا طويلا في ( ابتلاع ) فكرة أن الأرض غير ثابتة في مكانها وانها تدور حول نفسها ( وازدردوا ) بنفس السهولة فكرة أنها هي التي تدور حول الشمس . وفهموا لماذا يطول النهار أو يقصر . وعرفوا السبب في تعاقب الفصول .
ووفق العلماء إلي اكتشاف العدسات الكبيرة ، وأمكنهم أن يرصدوا الشمس وباقي النجوم ، وان يميزوا بينها وبين الكوا كب السيارة . واهتدي ( اسحق نيوتن ( إلي اصول علم الميكانيكا ، فوضع قوانينها ؛ واستطاع ان يفهم حركات بعض النجوم ومسالكها ، وأمكنه أن يقيس أبعادها ، ويقدر أوزانها . وتكشفت للانسان
بفضل هذه العلوم الحديثة حقيقة مكانه في الكون . فعرف أن كوكبه هذا الذي يعيش عليه هو ابعد الأشياء من ان يكون مركز الكون ، وانه ليس إلا واحدا من كواكب تسعة تتسع نجم الشمس ، وتدور حوله في مدارات امكن قياسها وضبطها ، حتى لقد بات من الميسور ان يقال إن الشمس ستكشف يوم كذا في ساعة كذا ، أو أن القمر سيخسف في ليلة كذا وفي دقيقة كذا . فيقع الكسوف والخسوف كما رسم العلماء . لا يستقدم أحدهما شيئا من موعده ولا يستتأخر !!
كادت هذه الرتبة العلمية الرفيعة التى بلغها الإنسان والتي جعلته بنبأ بهذه الظواهر الفلكية المعقدة ، هذا التنبؤ الدقيق . كاد ذلك يوهمه انه يعرج بسرعة في مدارج الكمال ، وانه لابد بالغ غايته من ذلك ، وانه لو أعطي الوقت الكافي لدراسة اية مسألة فهو لا محالة كاشف عن سرها ، وأصل إلي حقيقتها وهذا العلماء يقتلون شواريهم في خبث ، وهم ينظرون إلى أسرار الكون واحدا واحدا ، نظرة الصياد الذي يرغب فريسته عن كثب ، وهو مؤمن بأنها عن قريب ستكون في قبضته يقلبها ذات اليمين وذات الشمال ! وبلغ قروء العلم اوجه حين وقعت النادرة الآتية :
كان العلماء يعرفون ان توابع الشمس ثمانيه ، هي : عطارد ، والزهرة ، والأرض ، والمريخ ، والمشترى ، وزحل وأورانيوس ، ونبتون . وكانوا قد برعوا في حساب مداراتها وابعادها ، وامتلأوا ايمانا بأنهم بلغوا من ذلك غاية الكمال . والواقع انهم كانوا قد وصلوا إلي أن يحسبوا بمنتهى الدقة مدار (الجسمين المتجاذبين ) إذا كان كل واحد منهما يتحرك عت تأثير جاذبية الجسم الثاني ، ولا يتأثر بشيء غير ذلك ولكن لما كانت الكواكب الشمسية لا يتأثر احدها في مكانه بجاذبية الشمس وحدها ،
بل يتأثر كل كوكب أيضا بجاذبية الكواكب الأخرى كلها بعيدها وقريبها ، كل بحسب كتلته ويحسب بعده ، فقد حاول الرياضيون ان يهتدوا إلى حل رياضي لعلاقة الأجسام الثلاثة المتجاذبة ، ليتدرجوا من هذه العملية إلي ما بعدها ، وقد وصلوا في ذلك إلى نتائج طيبة فعلا ،
ولكنهم يعلمون رغم ذلك تمام العلم أن حسابهم في مسألة ( الأجسام الثلاثة ) وما بعدها ، لا يزال ضبطه فوق متناول الإنسان ، وأن هناك خطأ يسيرا لا يزالون يستعينون عليه (بعمليات التقريب (.
وبدا لبعض علماء الفلك في مستهل القرن الحالي أن الخطأ في حساب مدار الأرض تحت تأثير الشمس وباقي الكواكب الثمانية التي عرفوها لا يزال أكبر مما كانوا يتوقعون نتيجة لتقريبهم . ووجدوا أن هذا الخطأ يمكن تلافيه إذا افترضوا وجود كوكب تاسع للشمس . فساروا مع افتراضهم ، وزعموا أن هذا الكوكب موجود فعلا ، وحسبوا حساب مداره وقدروا مبلغ وزنه ومقدار سرعته وتخيلوا له موقعا في جهة معينة من السماء . وكانت قد دخلت على المنظار المكبر في ذلك الوقت محسينات عظيمة رفعت من قيمته ، فاستخدمه العلماء في البحث عن هذا الكوكب الغريب الذي افترضوا وجوده افتراضا ، فإذا هم وجها لوجه أمام هذا الكوكب في دسته السماوي . وإذا هو حيث وضعوه في خيالهم ؟ ثم إذا كتلته كما وزنوها ، وإذا سرعته كما قدروها ، وإذا العالم يتألق من ايديهم مولد كوكب الشمس التاسع - السيار بلوتو - الذي كان مولده في سنة ١٩٢٩ ! !
عند ذلك القي في روع العلم والعلماء أن العالم دان لهم أعلاه كما دانت لهم أسافله . وتخيل الناس انه لن يبقى في العالم سر يستعص على العقل حله ، أو يستفلق على المنطق الرياضي اصله وفصله . وما دام الإنسان اصبح قادرا على فهم قوي الطبيعة وعلى تسخيرها لأغراضه ، وما دام انه اصبح
قادرا أيضا على رؤية ما لا تراه العين ، وعلي وزن ما لا تصل إليه اليد ، فأي شيء ممكن أن يعترض طريقه ، وهو يتغغفل في التحري عن هذه الاسرار ، وفي وضع بدء على مفاتيحها .
غير أن هذه الآحلام لم تذهب بعيدا . .
ولم يلبث العلم أن اصطدم بالصخرة الهائلة التي تحطمت عليها آماله . فأفاق على أثر الصدمة كئيبا محزونا . ورأى ) قصوره الإسبانية ) تقلقلت تحت قدميه وهو يهوي من فوقها كسير القلب ، مهيض الجناح . . خامي البصر ! أتدري أي شئ كانت هذه الصخرة الهائلة ؟ إنها أصغر وحدة في هذا الوجود ! إنها الذرة ولعلنا بين ذلك في مقال تال إن شاء الله (1)
