الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 36الرجوع إلى "الثقافة"

قصة مصرية, الحب يكسر قوسه ! . .

Share

لما اختفى خاتم الخطبة من إصبع " الدكتور مختار " فجأة آثار ذلك دهشة شديدة ، فقد كان الذائع بين اصدقائه أنه يجب " صفية " حبا قويا ، وانها تبادله عاطفته في حماس وإخلاص . .

ورأينا بعد ذلك البهجة تجف من قلبه ، والكابة تقيم في عينيه ، وفي أسارير وجههه

وحاولنا أن نستوضحه الأمر ، لكنه لم يتكلم وأدركنا أنه لا يريد أن نقتحم عليه صمته وسره .

ومضي في انطوائه على نفسه ، وتهالك على العمل وعلى الشراب ، يعمل حتى يكاد يسقط من الأعياء ، ويشرب حتي لا يقوي على صعود الدرجات إلي مثواء في الليل . .

وعبثا حاولت انبهه إلي انه ينتحر . . كنت أقول له : " إن كنت قد خسرت فناتك لسبب من الأسباب ، فان هناك كثر من حسناء بارعة الجمال رفيعة الخلال تتتمى أن تهب قلبها لفتي مثلك ينتظره مستقبل مضئ ، ويملك كل شباب ونضارة سن الثلاثين ! . .

لكنه لم يكن يجيب ، كان يلوذ بالصمت ، ويرفع تحوي عينين محزونتين تقولان : " إنني احاول عبثا ان أتحرر من أني . . "

مر في ذات مساء ، وحملي في سيارته ، ومضي

يسوقها بتلك السرعة الجنونية الحمقاء ، التي تنبي عن ضجره من الحياة .

قلت له : " إذا لم تذهب بنا هذه السرعة المباركة إلي الآخرة . فالي أين أنت ماض بي ؟ . "

قال في مجهم : " إلي المستشفى " . أما المستشقي في عرفه واصطلاحه ، فلم يكن إلا " الحانة " ! . . وكنت أعرف أنني أحاول عبثا إن أردت أن أثنيه عن عزمه ، فلزمت الصمت .

ووقفت السيارة عند مشرب في إحدي ضواحي القاهرة ، كان الدكتور مختار بسميه المستشفى الإسرائيلي ، لأن صاحبه يهودي أخفق في تجارة الجوارب .

ونادي الساقي كما اعتاد أن يناديه : " تعال أيها النطاسي البارع ، هات أكبر زجاجاتك ، مجل ( بالبنج ) .

كان هذا هو راقه في الخمر . إنمها مخدر يذهل الانسان عن همومه ، ويصرفه عن افكاره السوداء ، ويمنحه روح السخرية التي يقوي بها علي مواجهة الحقائق التى لا تطاق . . ومن هنا كان يصف الساقي بأنه طيب عجيب ، وأتيهما زميلان

ومضي يحتسي كؤوسه . . ولم أكن أشاركا الشراب ، فضجرت وصحت به : " وبعد ؟ . . لقد احتملت صمتك عاما كاملا . . أريد الثمن . . أريد أن اعرف : ما الذي حفر بينكما تلك الهوة ، يوم افترقها لم يكن بينكما وبين حفلة الزفاف إلا عشرة أيام ! . .

ابتسم في حزن ، وقال كأنما يخاطب نفسه " ما الذي حفر بيننا تلك الهوة . . حقا : ؟ . " ثم التفت إلي واتم حديثه قائلا : " إن تلك الهوة قد حفرت نفسها في لحظات . لقد فتحت عيني فإذا بها عميقة وواسعة . إن إله الحب إله طائش ، يحلو له احيانا ان يكسر قوسه بيده

قلت له : " لماذا لم تراقباء جيدا ، لقد كنتما تضيفاته في قلبيكما ، وكان من اليسير اكتساب مرضاته . إنه طفل وديع " .

صحك وهو يقول : " بل إنه طفل مدلل . إنه انتهز فرصة وقوع حادثة تافهة فغضب ، وتوترت اعصابه ، وملا الدمع عينيه ، ولم يلبث أن كسر قوسه ، ورعى سهامه ، وقفز من النافذة ، وهرب . .

قلت : " آه من الحوادث التافهة ؛ إن الهوة لم تحفر نفسها . إن التفاهات هي التي حفرها . تلك التفاهات هي التي نتحرف بالحياة إلى اليسار حيث يجب ان تنحرف إلي اليمين ، وتتقهقر بها إلي الوراء حيث ينتظر ان تتقدم إلي الأمام " .

قاطعني قائلا : " لكن ما هي الحادثة التافهة ، والمسألة التافهة ؟ كيف نفرق بين المسائل الكبيرة والصغيرة ؟ إن نحن إلا كرات مختلفات الأحجام يلعب بها القدر . إن لقمة واحدة زائدة في معدة فاض سيئ الهضم قد تودي بحياة رجل برئ ، فقد تضطرب امعاؤه ، وتنزل اعصابه ، ويتولاه الضجر والسخط ، فينحرف عن طبعه السمح السليم ، وتقديره الصائب . . وقد تقع في الأذن كلمة بريئة فتلد خصاما وشقاقا يستشري ويستفحل ويسفر عن ضفينة متلفة وفتنة مدمرة . إن امرا ما قد يبدو من جانب خطبا جللا ، ومن جانبه الآخر سخرية كبرى . الحياة نفسها تتبدل قيمتها في ميزان العين الواحدة ؛ فتخف احيانا

حتى لا تساوي جناح بعوضة ، وترجح احيانا حتي تجتذب وتجب ، وتستولي على السمع والبصر والضمير وسائر الجوارح . أنا نفس الذي أراها الآن ممجوجة نافهة ، أما كنت أراها في الماضي حلوة شائقة :

قاطعته : " كان الماضي مصباح يضيئه هو " صفية " وقد انطفا ، وذهب نوره . إن السوق بإصديق ملاي بالصابيح لماذا نجلس في الظلام والأوهام ؟ ! .

قال : " هيهات . لكل قلب مصباح واحد يشرق عليه من مشكاة واحدة . . إيه ! فلأفل لك كيف انطفأ . كنت أحسب أن الزوابع الضارية هي التي تقوي عليه وتسلبني نوره ، فإذا بنسمة خفيفة خبيثة ضعيفة هي التي تطفئه . .

وأفرغ في جوفه كأسا أخري ثم مضي في الحديث : " كنت أجد دائما برهان الحب الصادق الواثق في صوتها وفي عينها . كان الحنان يسقي كل نبرة من نبرات صوتها وهي تتحدث إلي ، ويتلاطم في عينيها وهي ترمقني مهما . كنت أحس أنها تدخر كل وجودها لي ، وترهن آمالها وأطماعها في الحياة بآمالي وأطماعي . وكان لها في الطهارة رأي هو رأي البتول النقية التي لم يمر في خيالها قط ظل فكرة دنسة أو غير لائقة . ما حاولت مرة أن أعبر عن إعزازي لها بقبلة أو لمسة ، إلا وردتني في صرامة وحزم وجفاء . كانت تجفل ويطغي الذعر على عينيها البريئتين الصافيتين . لم يكن ذلك يروق شابا صورت له أحلامه أن أيام الخطبة أهنا من أيام الزواج ؛ فكنت أيدي لها الامتعاض من خشونتها ، وأتهمها بأن هذا الصد دليل أني بعيد عن قلبها وعن ثقتها ، فكانت تنظر إلي نظرات لاذعة ، وهي تجيبني بأنها مسئولة أمام ضميرها وأمامي أن تقدم لي العذراء التي اخترتها ، نقية تماما ، في ليلة الرفاف ؛ وأنها لا تطبق أن يورثني تسامحها ظلا من الشك في

استقامتها ، بنفث سم الريبة في حياتنا الزوجية . وهكذا علمتني صفية العفاف ، واعطتني مثالا رائعا المراة التي تعبد مثلها الأعلى بكل جوارحها ، فتباركها الفضيلة ، وتتحها ذلك الجمال الوديع النقي المحض .

وقد صرت في الواقع تلميذا متحمسا لها في إخلاصها للكمال المطلق ، لكنها كانت تتهمني في نياتي دائما ، وما رأت نظراتي مستقرة مرة على وجه امراة ، او على ثوب جميل ترتديه امرأة إلا وكانت تأخذها ثورة غاضبة عاتية ، وترميني بالسوء ، وتخاصمني إياما حتى اقنعها بالاقسام والتوسلات أنها الصدفة المحضة ، وان النظرة الخائنة ثم تخطر لي ببال ، وكان هذا يرضيني وبسخطني ؛ يرضيني لأن الغيرة هي مقياس حرارة الحب وحماسه ، ويسخطني لأن نفس الانسان ميما كانت رحبة سمحة ، فإنها تكره أن تكون دائما هدفا للإتهام ، وما يتبعه من ذراية ومثالب

وهكذا ذقت من صفية حلاوة الصد والاقبال ، والسخط والرضا ، حتى كان ذلك المساء الأسود .

كان قد بني على العرس ايام تعد على الأصابع ، وطلبت إلي في التليفون ، في الصباح ، ان اوافيها في بيتها في المساء لنذهب سويا إلي شيكوربل . فوعدتها أن أمر بها . لكن زيد الظهر حمل إلي خطابا من عمي ينبئي أنه سيصل القاهرة في الساعة السابعة لرركب القطار الذاهب إلي الصعيد في زيارة لأهل زوجته . وأنه يجب أن يراني . فاتصلت بها تليفونيا واخبرتها اني ساجيء إليها بمجرد قيام القطار .

لكنني بدلا من أن أجد عمي وجدت زوجته ، التي أنهت إلي أن مرضا خفيفا ألأم به ففضل أن تسافر هي في  تلك المهمة إلي أهلها .

وهروات إلي باب الخروج ، بمجرد قيام القطار ، فإذا

بصفية واقفة عنده ، وقالت لي إنها فضلت ان تنتظرني توفيرا للوقت ! .

دخلنا شيكوريل ، ووقفنا عند بعض الأقسام نبتاع ما نريد ، ولاحظت ان بعض العاملات يبتسمن في وجوهنا ابتسامات غريبة . ولما تكرر ذلك تضايقت ولاحظت صفية نفس الأمر . وهمست في أذني : " أفينا شئ غريب ؟ أتلاحظ عيبا في ملابسي أو شعري ؟ " .

وغشينا متجرا اخر ، فرايت عاملا يغمز لزميله بطرف عينه ، ثم قفزت تلك الابتسامة الكريهة إلى شفاههما .

حاولت أن أجد مع معنى واضحا لتلك الابتسامات أو أنسبها إلي التحية أو الإعجاب ، أو الترحيب بخطيبين ، لكني لم أجد فيها ظلا لمعنى من هذه المعاني .

واستدرنا إلي شارع عماد الدين لنركب " المترو " إلي مصر الجديدة ، وجلست مقابل ، ورأيتها تحدق في فجأءة بغضب ، وقد امتقع وجهها ؟ . .

ولم تلبث أن سألني في برودة " هل سافر عمك ؟ " همت ان اقول لها إن عمى اناب عنه زوجته في تلك الرحلة لكن تجهمها لم يشجعي علي التبسط ، فقلت في اقتضاب وضجر : " نعم سافر . . "

رأيت كمية الغضب تزداد في عينيا ، ولاحظت أن الدموع قد بدأت تتجمع فيهما فسألتها : " ماذا جري ؟ ! ماذا بك ؟ ! . " . لكنها لم تجب

فحولت بصري عنها . وحانت مني النقاتة إلى الجلوس والوقوف حولي ، فإذا بنفس الابتسامات الخبيثة المكظومة تعلو وجوه الرجال والسيدات ! .

طار صوابي ، وتوترت أعصابي ، وأحسست بجسدي يسبح في العرق . .

وتركنا الترام ، وفي الطريق إلي بيتها حاولت أن أفهم

منها علة كدرها ، فانفجرت وهي تدق أسفلت الطريق بكعب حذائها : " أسكت ، أسكت أحسن لك ! "

وسكت ، وتملكني الاستياء ، واختمر التذمر في رأسي .

ووصلنا إلي باب منزلها ، فمددت لها يدي بالحزمة التي اشتريناها فتناولتها ، وقذفت بها إلي عرض الطريق : .

صحت بها وقد غلت أعصابي : " هل جننت ؟ . . " لم تجب ، بل انشأت تنتفرس وجهي بإحتقار قاس يثير اشد النفوس هدوءا واعتصاما بالصبر ، ثم ختمت الموقف ختاما لم يخطر ببالي قط ، فقد بصقت في وجهي ومضت إلي الدرج لا تلوي على شيء

وقفت لحظات ذاهلا ، ثم تنبهت إلي أن ما حدث قد حدث علي مراي من البواب ، فاحتدمت غيظا ، ومضيت اترنح إلي بيتي ، وهناك كتبت إلي أبيها خطابا حوي أوصافا لا تسره عن خلق ابنته وتربيتها . وإذا بالبريد يعيد لي في الصباح خاتم الخطبة مشفوعا بكتاب من والدها يبدي فيه أسفة لأنه قبل في بيته فتي وضيعا مثلي ، ويشكر الله أن وقي ابنته شر الزواج من رجل غادر له سمات الأوغاد واوصافهم

واستحكمت بيننا القطيعة . . وجاءني بعد شهرين نبأ زواجها ، فمات في صدري الامل الذي كان يصور لي انها ستأني ذات يوم لتنطرح عند قدمي نادمة مستغفرة . وبدات اعتقد انها قد اصطنعت في تلك الليلة ذلك الغضب اصطناعا لتبت ما بيننا وتصبح حرة في اللحاق بهذا الرجل الذي زوجت منه . وأنها لم تكن تذودني عن شفتيها بوازع من العفة والطهارة بل بدافع من المقت .

وكانت تتردد على عبادتي صاحبة لها للعلاج ، ولم يكن يخفي علي ان صفية ترغب إلي صاحبتها هذه ان تظهرني على

أنها أصبحت تبغضى بغضا لا حد له ، وأنها سيدة بالخلاص مني ، وان كاس الهناء لا يبرح شفتها في حياتها الجديدة . فسكنت أعجب من حرصها الغريب على إقناعي بأنها تمقتني ، وكما كنت أعجب من رغبتها الملحة في أن تقف على اثر هذا المقت في نفسي ، وأجيب صاحبتها ببساطة وفي غير اكتراث على اسئلتها التي لا تنقد : " لقد كدت أنسي أن في الدنيا فتاة اسمها صفية . . دعينا من هذا .

غير أني لم أكن صادقا ، لأن صورة صفية كانت تعبر خاطري كل يوم مثيرة في راسي وقلبي هواجس شئ : هل اصطنعت ذلك الغضب اصطناعا لتذهب إلى ذلك الرجل الذي تزوجته ؟ . . وإلا فما الذي جعلها تتبدل هذا التبدل العجيب وتعطيني من عينها بدل النظرات الوديعة الصافية نظرات النمرة المفترسة ؟ ! .

وجاءت صديقة صفية بعد شهور تزيد حيرتي ، وتضيف إلى الهواجس التي ترهق قلبي وراسي شطرا اخر ، فقد أنبأتني أن صفية أنجبت غلاما دعنه . . " مختار " ! . ومضت شهور اخري . .

وقصدت ذات مرة إلى جزيرة الشاي بحديقة الحيوان ، مدفوعا بالحنين إلي الماضي ، فقد كنا نذهب إلي هناك ، أنا وهي ، ونحن خطيبان ، لنتلهي بالقاء فتات الخبز للبط السابح في البركة الصناعية ، وتتباري في إثارة فتنة الاثرة بينه . .

وكم دهشت حين وجدت صفية جالسة هناك تلقي الفتات للبط ، وإلى جانبها طفلها ينام في عربته الصغيرة

كانت هذه هي المرة الاولي التي نتلاقي فيها بعد القطيعة . . واضطربت في قلبي انفعالات شتى ، هذه هي الفتاة التي أحبتها أكثر من كل شئ ، التي طالما تقت أن أغمر وجهها بقبلاتي ، فردتني في عناد وإصرار وكبرياء

التي اصطدم شغفي بها بكرامتى فقمعت شغفي ، وخنقت حبي في قلبي ، وعانيت ما عانيت ! .

واندفعت نحوها ، وجلست على كرسي بجوارها ، دون أن أبادئها بالتحية ، كأننا كنا مفترقين منذ دقائق

بهتت لجرأتي . . وأخذت أتأمل محياها وهي تغالب ارتباكها ما يزال يشرق فيه ذلك الصفاء العجيب ما يزال الطهر والنقاء القديم يطل من عينيها ، لكن كان مشوبا بحزن طفيف ؛ إن جمالها قد اكتسب نوعا من الجد والأتزان صار يزيد في توكيد فتنتها .

بادرتها قائلا : " يا عدوتي العزيزة . لماذا سميت أول أبنائك باسمي ؟ ! . "

أحمر وجهها ، وقفزت على جنبيها قطرات دقيقة من العرق ، و وقالت باسمة : " لماذا تريد أن تعرف ، ايروقك ان تعلم أني فعلت ذلك لكي لا أنسي ، مثلا ، أن أمقتك دائما حين يذكرني اسمه ، بك ، باستمرار ؟ . .

قلت ضاحكا : " ما ذنب الطفل المسكين أن يكون هدفا للمقت . إنك تغالطين . قولى ، مثلا ، من قبيل المجاملة ، إن هذه التسمية تذكار لأيامنا الأولى الهنيئة ، التي لم يشبها كدر " .

قالت : " لماذا احترم ذكري رجل خائن لقد اخلصت لك فخدعتني بنذالة ، حتى في الأيام القريبة من زفافنا

وتنهدت تنهدا خفيفا ، وواصلت الحديث وهي تلقي الفتات للبط في غير اكثر اكتراث : " حقا لماذا سميت ولدي باسمك . إنها . . غلطة . لقد سألوني وأنا في حمي النفاس فذكرت لهم هذا الاسم ، في غير وعي . كانت حماقة مني ولاذت بالصمت . .

كنت أهم أن أقول لها إنها ابتدعت تلك التهمة الموهومة لتبرر غدرها ، وإنها لم تلتو فجأة إلا لتتخلص مني

وتذهب إلي ذلك الرجل الذي صارت زوجة له ، لكن الكابة التي ملأت عينها جعلت ذلك الظن يموت في نفس وعدلت إلي القول : " ألديك دليل أنني خنتك ؟ " .

قالت : " يالله . ما أغباك ألم تدرك إلي الآن ! . أأعطيتني الدليل وحدي ؟ : أأطلعتني عليه وحدي ؟ ! لقد خرجت من المحطة وهو مسطر على وجهك ، فراه عمال وعاملات المحال التجارية التي خشيناها في تلك الليلة . ورايته بدوري في المترو عند ما جلست مقابلي ، كما شاهده الركاب من حولنا . الم تنبئك المرأة عند ما عدت إلي بيتك أن وجهك قد فضحك وكشف المستور من امرك ؟ : "

قلت : " افصحى . ما هذه العميات ؟ عن أي وجه تتحدثين ؟ لست بوجهين ، وجهي هو هو في تلك الليلة ، واليوم وغدا لم يتغير : . " .

قالت : " فأنت إذا مصمم على أن عمك رجل رفيع هارب من رجولته . وانه هو الذي وضع على خدك تلك القبلة التى تركت اثرها واضحا جليا ، لان شفتيه مصبوغتان بالأحمر . قل له عند ما تلقاه ان يختار لشفتيه نوعا جيدا ثابتا لا يترك تلك البصمة الجلية عند التقبيل . لقد كاد يغمى على في المترو عند ما رأيت تلك القبلة الحمراء . لم يكن فمي مصبوغا . وكان جليا انني اسير في رفقة رجل أمين . أدركت سر الابتسامات ،

كانت كلماتها تلهبني كالسياط ، لكنني سكت ، فقد تجلت لي الحقيقة ، في طرفة عين

لعنة إلى عليك يا امرأة عمي . إنك سبب الكارئة لما لقيتها في المحطة قبلتني عند تزولها من القطار فقد كانت تعتبرني أحد أبنائها ، لأنها تولت إرضاعي عقب وفاة أمي ، كما تولت تربيني لما تركني أبي في بيتها ، ومضي إلي السودان على رأس إحدي وحدات الجيش . . لم اعر تلك القبلة التفاتا ولم يخطر بيالي قط انها تركت على وجهي

تلك البصمة المشئومة

أخرجتني صفية من ذهولي وصمتي حين صاحت بي : " لم اعتصمت بالسكوت ، امسح العرق الذي يبلل وجهك . أما زلت مصرا علي أن عمك هو الذي قبلك تلك القبلة الوالهة . إنه لو وضع الأحمر على شفتيه لرجمه أولاده وامرأته بالحجارة . قل إنك تركتني في البيت لتودع إحدي خليلاتك في المحطة . ما أسخفكم أيها الرجال تظنون أن النساء ساذجات ، وانكم تستطيعون أن تضحكوا منهن وتخدعوهن دائما . . وهكذا كافأت كل حبي لك ، وقضيت على سعادتي وأمالي في طرفة عين ، واحتقرت قلبي الذي رعاك وعبدك . لقد أدركت الآن معني ابتسامات عاملات شيكوريل اللاتي كن يعلمن اننا خطيبان . كن ينظرن إلي فمي فلا يجدن عليه أصباغا ، وينظرون إلي خدك فيجدن عليه علامة الغرام الدنس القبيح فكانت ابتساماتهن نقول : إنني مغفلة . "

حقا أن شر البلية ما يضحك . لقد ذكرت ابتسامات الناس وحرجي وعرقي ، وتفاهة السبب الذي حفر بيننا تلك الهوة ، فضحكت ، ضحكت في كمد . .

وقلت لها : " ياصفية . لقد أضمت سعادتنا بتسرعك ، إنني مظلوم "

فاطعتني : " صه . أكذية جديدة . أنبئت أنك أنبأتني أنك إنما تذهب إلي المحطة لتودع عمك ؟ لم كل هذا الإصرار على التضليل ؟ لقد حدث ما حدث . أنكم سخفاء أيها الرجال ، وتافهون ، ولا قيمة لكم .

ونهضت في عصبية وقد ملأ الدمع عينها ، ودفعت أمامها عربة وليدها ، ومضت . .

مضت . . دون أن تعطيني الفرصة لكي أفسر لها الأمر . لكن أكانت تصدقني لو قلت لها بعد كل هذا الزمن ان التي قبلتني هي امرأة عمي ؟ الم أقل لها إن القادم

هو عمي لا زوجته ؟ اهي ملومة لو نعت دفاعي بأنه كذب خسيس ؟ ثم ما جدوي إنبائها بالحقيقة ؟ لقد وقع ما وقع . فلا دعها على عقيدتها في . لعلها لو علمت لاستبد بها الندم وأنهارت سعادتها البيتية . فلأحفظ لها هناءها الراهن .

لكن أأظل مذنبا في عينيها ؟ هل أحتمل طويلا نظرها إلى كوغد غادر متبذل ؟ . . إن قلبها هو العالم الوحيد الذي أصبو أن أكون معروفا فيه على حقيقتي لكن هذا بعيد المنال . فلأ حتمل . فلأحتمل في صبر ما دام ذلك يحفظ لها راحة الفؤاد . إن هذا هو الحب .

لقد أضاعت سعادتي بحماقتها ، لكنني أغفر لها ، من أجل انها سمت ولدها ، وهي في غير وعي ، في حمي النفاس ، باسمى - ومن أجل أن الدمع الغزير ملأ عينيها الآمينتين الجميلتين ، وعكر صفاءهما ، وهي تقول لي في غضب عذب : " إنكم سخفاء ايها الرجال ، وتافهون ، ولا قيمة لكم ! " .

قلت له : " لم لا نقول إنك أنت الذي أضعت سعادتها بغفلتك . لقد كنت تعلم حماسها الاعمى للكمال ، وغيرتها المثالية للفضيلة ، فلم يكن يجمل بك ان تنساق مع الغضب دون أن تتحري اسباب حنقها . .

قال : " لقد أرهقت أعصابي الابتسامات التي قذفني بها الناس في تلك الليلة المشئومة . . ثم هل نسيت كيف عاملتني أمام البواب ؟ ! "

قلت : " هيه . لعلكما بريئان . أنت وهي . ولعل الملوم هو إله الحب نفسه ؟ ذلك الطفل العابث المدل . الذي دفعته إحدي نزواته إلي أن يكسر قوسه ، ويرمي سهامه ، ويهجر قلبيكما . .

قال في مرارة : " حقا لقد مضي هاربا . لكنه ترك في فؤادي قوسه المفلولة وسهامه المحطمة . . " وضحك . . ورفع كأسه إلي شفتيه .

اشترك في نشرتنا البريدية