" لم أكن يوما ما طفلا ، وليس لي سابق عهد بالطفولة . " فما هي أيام الطفولة النضرة الضاحية وأحلامها الذهبية الهانئة ؟ وما تلك البراءة الرفافة الوريفة ، وذلك الابتهاج الذي يشيعه في النفس تكشف أسرار الكون والاهتداء إلي عجائبه ؟
" لم اعش في كنف الطفولة ، ولم انعم بظلالها ، ولقد عدتني أيامها الغر وعهودها الحسان .
" لقد عرفت عنها بعد ذلك أشياء من الكتب ، وتوسمتها في محيا الأطفال الذين ألقاهم ، ولم أدرك أني قد اجتزت عهدها ، ولا يستني صفائها ، وعرفت بشاشتها إلا بعد أن أريث على العشرين سني ، وفي فلتة من فلتات النسيان ، وومضة من ومضات الصفاء .
" الطفولة معناها الحب والمرح وعدم الأكثراث ، ولقد وجدتني في سالف الأيام وحيدا مهموم البال . " منذ نشأتي وأنا أشعر شعورا قويا بالعزلة والتفرد ،
ولست أدري لم ذلك ؟ ألأن قومي كانوا فقراء معسرين ، أو لأني ولدت فذا مختلفا عن سائر الناس ؟
" لا استطيع أن أعرف ، ولا أن أدلي برأي ولا اتذكر سوى أن عمة لي صغيرة السن لقبتني بالكهل وقبل اقاربي جميعهم هذا اللقب ، وصاروا يدعونني به ؟ والواقع اني كنت في أغلب الأوقات منقبض النفس ، ملتزما الجد الصارم .
" كنت قليلا ما أحادث أقرابي من الأطفال ، وكنت أضيق بألوان المجاملات وأمقت مظاهر التكلف ، ولا أشاطر اقرابي لهوهم وعبثهم في أسعد أوقات حياتهم ، واوثر ان آوي إلي ركن مظلم ، وانتحي ناحية مهجورة في منزلنا الصغير الزري ، وكان الجميع يمقتونني أشد المقت ، وكنت أشعر بشدة الكراهة التي يضمرونها لي ، فيزيدني ذلك
احتجازا وهما ، ورغبة في العناد والمشاكسة . " وعندما كانت تجمعني الصادفة بغيري من لداني
لأطفال كنت لا اشترك في ألعابهم ، وأظل مجتنبا لهم ، معرضا عنهم ، ناظرا إليهم من سماوة جدى الصارم بعين الناقد الزاري ، أو عين العدو الكاشح ، لا لأني كنت أغبطهم ، فقد كنت لا أشعر نحوهم بغير الاحتقار
ومن ذلك الوقت بدأت الحرب بيبي وبين بني الانسان ، كنت أباعدهم واتحاشي لقاءهم ، وكانوا يهملون شأني ولا يعنون بأمري ، كنت أبغضهم وأزهد فيهم ، وكانوا يظهرون لي العداء ويضطهدونني ، وكان اقاربي يجاملونني مراعاة للعرف ؛ وكان يسوؤنى هذا التظاهر بالود فأقابله بخشونة وجفاء
" كنت لا ادخل السرور على قلوب الغير ، وزادني هداء الناس لي تجافيا وتشبثا بالوحدة وإصرارا عليها . وزادتني الوحدة هما على هم ، وهذا الهم الملازم أغلق قلبي وألهب فكري ، وزادني شذوذا ، وجعلني غريبا بين الأهل والأقارب ؛ وهكذا منذ بدء حياتي شرعت أعل وانهل من ذلك الحزن المجهول غير المحدود الذي لا يشفي من دائه ولا يستعان عليه بالسلو والنسيان .
" كنت أعيش في دنيا من تصنيف أوهامي ، ولا ترف على وجهي ابتسامة ، ولا يستخفني مرة الطرب ، وكنت شاحب الوجه حائر النظرة ؛ وأعود فأكرر أني لم اكن يوما ما طفلا.
" أسلمتني هذه الحالة إلي ضرب من ضروب التشاؤم الأصم المغلق ، وأخذت أسائل نفسى عن قيمة الحياة وغرضها ، فلم أفز بجواب أطمئن إليه ولم أجد عزاء ، لأن الحياة لم تعدني بشيء ولم تمنحني شيئا ، ولم يكن لي أمل في الثراء ولا نيل الفخار في مجال المعرفة ، لأني لم أتلق سوي دراسة مدرسية محدودة ؛ ولم احلم بالفوز في ميادين الحب وغزو قلوب النساء ، لأني كنت دميا جم الحياء والتردد ؛ وقليل من الناس من يحفل بي ، ولم يحبنى احد غير والدي ووالدتي ؛ ولقد كانت هذه النفس التي نبتت منهما
شاذة عجيبة حتى في عينيهما . ولقد ولد ذلك في نفسي الاعتقاد بظلم القضاء ، والشعور بغرور الحياة .
بهذه الكلمات التي تتضح بالمرارة استهل الكاتب الإيطالي القدير جيوفاني بابيني كتابه " إنسان كامل " ، وبابيني علم من أعلام الادب الإيطالي الحديث وأحد ممثلي الثقافة الإيطالية الأقلاء المعدودين ؛ وفي حياته ظاهرة تستدعي التفكير والمراجعة في هذه الأيام التي تكتوي فيها الامم بنيران تلك الحرب الجديدة المشبوبة ؛ وسأشير إليها فيما بعد .
ولد بابيني بمدينة فلورنسا في ٩ يناير سنة ١٨٨١ من أبوين فقيرين ، وكان والده صانع أثاث رقيق الحال ، ولكنه كان مع ذلك حر الفكر منقد الذكاء .
ومنذ تعلم بابيني القراءة أولع بالاطلاع ، وأقبل على تحصيل المعرفة والاستزادة من العلم ، حتى خطر له أن يقوم بتأليف " موسوعة " وأخذ يمعن في الإطلاع ويكثر من القراءة ، ويسجل ملاحظاته ، ويجمع مختلف المعلومات وينسقها ؟ وصادفته عقبات لم يستطع التغلب عليها ، فهجر فكرة الموسوعة ، وأخذ يفكر في كتابه تاريخ العالم ابتداء من الخليفة إلي العصر الحاضر ، لأن الحاجة ماسة إلي مثل هذا التاريخ ! والإنسانية الضاربة في الظلام والغارقة في الفوضي لا ريب في حاجة إلي الاسترشاد بضوء هذا الكتاب الحفيل في التاريخ العام الذي يقدمه لها الشاب الفطن المجرب والمؤرخ الحجة " بابيني " ! ولكن صاحبنا على ما يظهر كان موعودا بالعقبات التي تعترض طريقه ؛ فالدنيا خلقت حسب النصوص الدينية في ستة أيام ، وهو يحاول أن يفسر التاريخ تفسيرا علميا جديرا بطالب ناضج مثله في الخامسة عشرة من عمره المبارك ؛ ثم حاول أن يتعلم العبري ليسهب في الشرح ويجيد التعليق ، ولكنه وجد أن الموضوع سيطول
ويتشعب ، ففكر في أن يضع كتابا في الأدب المقارن .
وانغمس في الإطلاع والقراءة ، حتى تأذت عيناه وتداعت صحته ، واعتل مزاجه ، واستولى عليه التشاؤم ، ولون أفكاره بلون قاتم ، وأخذ عليه مسالك خطرائه ؛ واقتفي اثار شوبنهاور ؛ وحاول أن يجمل تحبيذ الانتحار رسالته الآدبية السامية ؛ ولكن إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يتقدم هو إلى الهاوية شأن الشجعان ، ويضرب للناس مثلا شرودا في رفض الحياة وإنكار النفس ولكنه أقنع نفسه بأنه إنما يعيش ليذيع رسالته ويحمل غيره على ذلك ؛ ثم ادرك غرابة موقفه ، وأغضبه ذلك فصب غضبه ونقمته على طائفة من الفلاسفة المعروفين في كتاب أسماء " فجر الفلاسفة .
ثم أنشأ هو وجماعة من أصدقائه مجلة لترويج آرائهم الأدبية ونقد مذاهب الفكر السائدة ، وبدأ يشرح فيها فلسفة وليم جيمس ، واشترك بعد ذلك في تحرير طائفة من المجلات ، وأخرج كتبا شتى بين نقد وقصص وشعر تمتاز جميعها ببلاغة الأسلوب وحرارة العاطفة وقوة التفكير ؛ وقد ظل يجاهد جهادا متواصلا ، ويصدر الكتاب تلو الكتاب دون أن يعلو صيته ويعرف اسمه خارج إيطاليا ، حتى وضع كتابه عن حياة السيد المسيح ، فذاع اسمه في الخافقين ، وأقبل الناس على قراءة كتابه ودراسة أدبه ومعرفة شخصيته ؛ وسبب الضجة التي اثارها الكتاب هي أن " بابيني " كان معروفا من قبل بأنه ملحد متطرف في إلحاده ، وكان موصوفا بسلاطة اللسان وشدة النقد والاستطالة على الكتاب ، والنيل منهم بالعبارات الجافية واللهجة الساخرة في غير مواربة ولا تردد ؛ فكيف انقلب هذا الأستاذ البارع في صناعة القوارص والقذف بالقذعات ، وهذا الملحد الفوضوي مؤمنا يترجم للسيد المسيح ، ويعجب بتعاليمه ويرتضي مذهبه ؟ وما سر هذا
التحول من النقيض إلي النقيض ؟
وجه إليه هذا السؤال فأجاب : " إن الحرب هي سبب هذا التحول الذي حير عقول الناس ، فعندما استعرت الحرب ، واخذت تخوض غمارها الآمة بعد الأمة ، منساقة بعواطفها دون فكر ولا نظر ، ورأيت الفريقين المتحاربين بمعنان في التخريب ، ويسرفان في سفك الدماء وإزهاق الأرواح ، ضحكت ضحكة مرة خالية من أثر السرور ، لأن سوء ظني بالإنسانية قد تحقق ؛ ولقد كنت اعتقد من قبل ان الانسان مجرم أبله ، وانه غير أهل للخير ، وانه مطبوع على الشر ، وان النزعة الغالية عليه هي الرغبة في التدمير والأفساد ؛ نعم ضحكت وسررت لأن يقيني العميق قد قامت على صدقه الأدلة والشواهد .
" ولكن هذا الشعور بالشماتة والازدراء سرعان ما مضي لسبيله ، وأخذ يتردد في نفسي سؤال : لم هذا كله ؟ وما سبب كل هذا القتل والتدمير ؟ وأقبلت على قراءة التاريخ لأستزيد من دراسته ، وعدت إلي أقدم الأزمنة ، إلي سنة ٢٥٠٠ قبل الميلاد ، ورأيت أن الأمم في مختلف العصور ، كلما جرت في مضمار التقدم انساقت إلي الحرب ، وان هذا الترقي لا يؤدي إلى الحرب إلا لوهن الدين القائم على روح الحب الصادق ، وبدا لي ان الحرب هي النتيجة الطبيعية المحتومة لذلك .
" بدأت أعيد النظر في تاريخ الرأسمالية ، والنهضة الصناعية ، وتقدم إيطاليا ، وتقدم اوربا منذ القرن الخامس عشر ، وأرسل الفكر في الأسباب والنتائج ، فلم أر إلا الحرب والتدمير
" أليس هناك ما يسعد على تجنب هذه الطرق الفضية إلى الهلاك ، وتلافي هذه الماسي الروعة ومحوها وإزالتها ؟
" استبان لي أن الحل الصحيح والطريق السوي هو
تبديل روح الانسان وتحويلها إلي الدين .
" شرعت بعد ذلك في إعادة قراءة كتب طولسطوي ، ودستوفسكي ، وأخذت أدير الطرف في أنحاء نفس منقبا في أعماقها باحثا في ظلماتها ، فلم استطع الفرار من مواجهة هذه النتيجة التي انتهيت إليها ، وهي أنه لا دواء يستطب به من داء الحرب والتدمير والتخريب سوي (( الدين)) القائم على روح الحب
وأدرك عاقبة إعلان مثل هذا الرأي ، وما يجره عليه من خلاف ، وما يثيره حول اسمه من لفظ بين الكتاب والمفكرين ، ولكنه كان في مختلف أدوار حياته إذا أمن بفكرة أقبل عليها بنفس مجتمعة غير موزعة ، واسرف في الأخلاص لها ، والذود عنها ، وعرف ان خصومه سيتلقون هذه العقيدة الجديدة بالزراية والسخرية ، ويكبلون له التهم ؛ ولكنه اعتقد ان طريق الخلاص قد وضحت معالمه ، واستبانت أصواؤه ، وليس من شأنه ان ينكص على الاعقاب ، ويتردد في إبداء رأي مهما يكن مخالفا لسابق آرائه ، خشية سوء القالة ، وهو الذي لم يسلم من لسانه كاتب ولا ناقد ، ولم ينج من هجومه مذهب من المذاهب ؛ وفرغ لاتمام كتابه عن حياة المسيح ؛ ولما أذاعة لم يقصر أعداؤه في اتهامه بأنه إنما تحول إلي الله ليركع في معبد " مأمون " .
وبعض المفكرين الأيطاليين ذوي المكانة عند تحدثهم عن ((بابيني)) ، يشيرون إشارات خفية تتم على سوء ظنهم بهذا التحول الفجائي من الالحاد إلي الإيمان ، وهم بطبيعة الحال أعرف مني بأديبهم الكبير ، وأدري ببراعته ؛ ولكن ما لمحته فيما تيسر لي قراءته في كتب هذا الرجل من صراحة في قوله الحق ، وجرأة في النقد ، وحرارة في الأسلوب ، يجعلني أتردد كثيرا قبل أن أشك في حديثه ، واستريب بايمانه ؛ ولعلي هذه المرة غير مخدوع في الطبيعة الانسانية
ولا في أخلاق بعض الكتاب والمفكرين .
هذه هي الظاهرة التي أردت أن أشير إليها في حياة بابيني بمناسبة الحرب القائمة اليوم ؛ فهل حقيقة ان العودة إلي الدين ، والاستمساك بأصوله ، والتشبع بروحه ، تقضي على اسباب النزاع وعوامل الشقاق بين الأمم ؟ وهل في تاريخ الأديان وماضي الحضارات ما يؤيد هذا الرأي ؟
يقول الدوس هكسلي في كتابه القيم " الغابات والوسائل ما معناه : إن انبياء الانسانية من لدن اشميا إلي كارل ماركس متفقون في ان الغاية التي تعمل على تحقيقها الانسانية هي الحرية والسلام والعدالة والحب الأخوي ؛ ولكن الاختلاف على الوسائل ، فالبعض يري ان الطريق الملكي هو الاصلاح الاقتصادي ، والبعض يري أنه الغزو والفتح ؟ والبعض يري أنه مناصرة الدكتاتورية ، والبعض يري أن الطريق الصالح هو اصلاح اساليب التربية ، والبعض يري ان التحليل النفسي هو خير علاج وأقرب سبيل ، والبعض يري انه لا يمكن تحقيق ذلك دون الاستمانه بقوة أكبر من قوة الإنسان ، فالعودة إلي الدين هي السبيل الوحيد .
لكل مذهب من هذه المذاهب شيعته ، وانصاره ، والمتعصبون له ؛ ولكن ما السبيل إلي ترجيح احد هذه المذاهب على الآخر ؟ السبيل إلي ذلك هو المحاولات التي تستغرق في هذا العصر جهود المفكرين على اختلاف أرائهم وتباين أساليبهم ؛ وأخشى ما يخافه الناس ان يظل الخلاف على اختيار الطريق قائما ، والنقاش مستمرا ، فلا تصل الإنسانية إلي الحرية والعدالة والسلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
