ظل ( هاري ) ست سنوات أو سبعا يحدتني حديث رؤيا رآها في المام ، فلم ألق إلى الأمر بالا ذلك لأن الناس كلهم إلا قليلا يرون رؤى في المنام ، ومن هذه الرؤى ما هو سارا مبهج ، ومنها ما هو مغم محزن . ولكني - من جهة اخرى - ما كنت أظن بدا أن حياة الناس تنقلب رأسا على عقب لرؤيا رأوها في المنام .
وأنا إذا رأيت رؤيا ظللت أذكرها يوما أو يومين . ثم لا أذكرها بعد ذلك أبدا ، ولكن ( هاري ) ظل تلك السنين الطوال يري تلك الرؤيا مرة في كل شهر ، وكأنها تجرى على سنة من سنن الكون ، فهي في ، لا تتغير صورها ولا تتبدل حوادثها ، وشحوس الرؤيا شخصان لا يختاقان أبدا في المظهر والملبس ، أحدهما ( هاري ) والأخري فتاة في ضيعة الصبا ومقتيل الشباب .
وذهب ( هاري ) في الشتاء الماضي إلي طبيب من أطباء الأمراض العقلية ينقص عليه قصة الرؤيا ، ويستشيره في أمره . وهو واثق أنه سيلقي علي يديه الشفاء ؟ وقال (هاري) للطبيب انه يري هذا الحلم مرة في كل شهر ؟ فقال الطبيب : ليس هذا بأمر ذي بال . ونصح له بأن بنسي الختم ولا يذكره . .
وقد يكون هذا القول من الطبيب وسيلة من وسائل العلاج على طريقته ، ولكن ( هاري ) أصبح بعدئذ لا يؤمن بطب هذا الطبيب ، وكان مما أخذه على الطبيب أنه قال له إن تكرار حلم من الأحلام شئ مستحيل ، وكيف يصدق هذا القول وهو يري رؤاء تتكرر بلا تبديل ولا تغيير . .
وفي شهر يونيو الماضي من عامنا هذا رأيت ( هاري) لأول مرة في هذه السنة ، وكان عهده برؤياء التي يراها في المنام كل شهر جد قريب ، فحدثني حديثها ولم يحرم منه حرفا . فكان حديثه لا مختلف عن حديثه في العام الذي سلف .
وكنا يومذاك في مرسي القوارب ، وكان ( هاري ) يدهن قاربه بدهان أخضر ، وكنت - وهو يقص قصة حلمه - أجنلس في ظل شجرة في مكان قريب ، فلما قاربت قصة الحلم على الانتهاء رأيت ( الفرشاة ) تجري بالدهان في سرعة متزايدة ، ولما بلغ نهاية الحلم زادت حركة ( الفرشاة ) إسراعا ، حتى لقد استحال بقاء الدهان فوق شعراتها ، وإذا هو يقول : أتم العمل بدلا مني وإذا عيناء تصبحان وكأنهما جمرتان ، وإذا يداء ترتعشان .
وبينما أنا احاول غمس ( الفرشاة ) في إناء الدهان رأيت صاحبي وقد اختفي بين الشجر خلف مرس القوارب ولم أره في يومي ذاك أيضا .
وأهمني أمر ( هاري ) اكثر من قبل ، وبدا لي أنه في حاجة إلى علاج ، وما ظنت أبدا أنه سوف يفقد عقله . وكذلك هو ما كان يظن هذا الظن . فقد كان دائما يعمل عمل العقلاء ، وكان كلانا ينظر إلى هذا الحلم نظره إلى حالة عارضة سوف تذهب وتزول .
وكلانا يعرف صاحبه منذ عشر سنين ، وكنا نجيء وأهلنا معنا نقضي موسم الصيف في مدينة (مين ) ، وكنا ننصب خيامنا فوق شاطئ البحيرة ، وكنا نتلافي كل يوم ، وكنا نصطاد السمك معا ، وننزل الماء لنستحم كل يوم ثلاث مرات ، وكنا نذهب مرة في الأسبوع لنرقص في المراقص ،
وكثيرا ما ذهبنا إلى المدينة لنشهد روايات السينما .
وكلما تحدثنا حديث ( الرؤيا ) قال ( هاري ) إن الحالة باقية على سوئها ، وإن السوء آت من قبل تكرار الحدوث ، لا من قبل الرؤا في ذاتها ، فهي - على أية حال تجيء - رؤيا تبعث في النفس الفرح ، ووضوح الحلم كوضوح حوادثه لا تغشاء غاشية من الحفاء ، وقال ( هاري ) لاشئ من حوادث الحلم قد تحقق ، ولكن قرب حوادثه من حقائق الحياة هو الذي يزعجه ويقض مضجعه ، فقد سار مرة - وهو في عالم الرؤيا - في الغابات ، والوقت ليل والقمر قد بسط نوره . واتخذ هو طريقه فوق جسر من الخشب يعلو نهرا من الأنهار ، فسمع شخصا يناديه في صوت ندى . هذا التفت إلى ناحية الصوت رأي فتاة تناهز الثامنة عشرة من عمرها ، وقد وقفت أمامه ، وقد اشقى القمر عليها من نورة غلالة رقيقة ، ودار بينهما الحوار الآتي :
هو : ماذا تريدين ؟ هي : إني أنتظر هاري ! - وما أسمك وأين تقيمين ؟ - لا جواب . . - إني أنا ( هاري ) : - إذا فأنا عائدة أدراجي .
دعني أصاحبك ، فإن كنت حقا تريدين ( هاري ) فإني مرافقك .
- كلا ! . . فالواجب يقتضيني أن أعود بمفردي . وقال ) هاري ) إنه جري وراءها وكاد في مطاردته أن يقتل نفسه ، وكان كلما أسرع الخطي بقيت المسافة بينها وبينه لا تزيد ولا تنقص حتى إذا قطعا - وهما يتسابقان - ثلاثة أميال ، استيقظ من نومه بغتة ، وغادر سريره ، وقد حاول بعد ذلك أن يعود إليه نومه ليمسك بعنان الرؤيا ، فإذا هو لا يبلغ بغتيه بل يظل يقظان حتي الصباح .
ثم جاءني ذات يوم ليقول لي إنه رأي الرؤيا المعتادة ، وحدثني حديثها مرة أخرى فكان حديثه لا يختلف عن المرات السابقة .
ثم قال لي شيئا آخر . ذلك أن الرؤيا تعاوده أحيانا وهو يقظان . وهو ما سماه حلم اليفظة ، وهي مع ذلك لا تختلف عن رؤيا الليل ، فقد يكون سالفا سيارته في
طريق الريف ، وهو في أتم يقظته يصفر أو يغني ، وإذا هو يرى بفتة تلك الفتاة واقفة في الطريق . وإذا هو بهم بأن يمسك بها ، يراها تجري في الطريق الذي يقصد إليه
وكثيرا ما وقف سيارته وترجل ، ثم جري في الغابات ينشد ضالته ، وهو يعرف أن ذلك منه فرط جنون ، ولكنه يقول : إن جاذبا قويا يحذبه فيجري وراءها ، واستطره يقول : سوف أفقد عقلي إذا لم يختف شبحها عن ناظري ، وإني أن أبرأ حتى أمسك بها أو أجدها في مكان ما ! وسواء تكرر حدوث الحلم أو يطل حدوثه فإني لا استطيع نسيانها ، وقد قال الطبيب إن هذه الرؤيا لن تحدث اثرا سيئا ، ولكني الآن قد جاوزت هذا الطور . فإن دام هذا الحال سنة أخرى فقدت عقلي . وإني لأظن أنه لا يزال في الوقت بقيه لكي أطيب نفس فأنجو ؛ ذلك لأني في الشتاء الماضي ، وفي الربيع الذي أعقبه - وكنت بين أهلى وعشيرتي - قد عشت في صحبة فتية وفتيات ، أدعي وأدعو . وأرقص وألهو . وأسير سيرة العقلاء ، حتى إذا عاودتي الرؤيا يئست من أمري ، وخاب مني الرجاء .
قلت مازحا : قد تكون رأيت يوما ما فتاة تشبها فاصبحت أمينك ومشتهاك . ولكنه أبي أن يجعل رؤياء موضوع مزاح ، بل كان الجد و الده . وكأنه يتحدث عن شعيرة من الشعائر المقدسة .
وكان يقول : ليس في الدنيا فتاة تشبها ، ولن تستطيع فتاة أن تكون على مثالها ولو حرصت ؛ فليس في الأصوات صوت اهدى من صوتها ، وليس في موسيقى النغم نغمة أعذب جرسا من نغماتها .
- مع التسليم بهذا فإني لو كنت مكانك لحاولت أن أجد فتاة أخرى تحل محلها . وقد لا تعود الرؤيا بعد ذلك مرة أخرى .
وما إن سمع ( هاري ) هذا القول مني حتى غادر المكان دون أن يجيب على قولي . وقد دلت نظراته على أنه يظن بي عدم القدرة على الفهم .
ولما لقيته بعد شهر وأعاد على حديثه المعاد وتبت لحاله ، ونصحته بأن يستشير الأطباء . فلا بد أن فيهم من يقدر على شفائه ، فأجابني إنه أصبح لا يطلب المرء بل إنه يريد أن لا تنقطع الرؤيا . ذلك لأنه سوف يسعي سعيه ليجد تلك
الفتاة ، وقص على أنه رأى في الليلة الفائتة لافتة مثبتة في شجرة ، وقد وضعها واضعها منذ أيام قليلة فهي لافتة حديثة الدهان . حديثة الكتابة ، وقد رسم عليها سهم وكتب عليها بحروف كبيرة ( البحيرة اللغوية - ٢٠ ميلا ) .
- وما معي هذا ؟ . - معي هذا ابي سأجد فتاتي في ( البحيرة المفقودة ) وهو المكان الذي تعيش فيه . - وكيف عرفت أنها تعيش هناك ؟ وإن لأظنك تمزح .
- بل إني جاد فيما أقول . ذلك لأن اللافنة تعنئ أن تلك البحيرة تبعد عن الجسر عشرين ميلا . و ( البحيرة المفقودة ) بينها وبين مدينة ( رانجنى ) عشرون ميلا ، وقد لا أجدها في أول يوم إذا بلغت البحيرة . ولكي لابد ملاقيها قبل أن أعود .
- قد يكون هاك اكثر من عبرة قد تسمت باسم البحيرة المفقورة ، وقد تكون البحيرة التي تعنيها في الجانب الآخر من القارة كلها .
- لست أعرف على وجه التحقيقى مكان ذلك الجسر . ولكن هذا لا يقدم في الأمر ولا يؤخر ؛ فإني استطيع أن أبدا رحلتي من مدينة ( رانجني ) أو من آية ناحية اخرى . ثم أطوف حول أرجاء البحيرة ، وأسأل في كل نار عن تلك الفتاة . وقد يستغرفي الطواف أسبوعا ، ولكن قد أفاجأ بلقائها في أول محلة أحل بها .
فلما سمعت هذا القول منه كدت أري رأيه وأحس احساسه على الرغم مني فان وصفه للافته التى فرق الشجرة وتفسير لرؤيا قد كار يقنعي أن المشاة هي جد موجود ، وعلى هذا فقد عقدت العزم على أن أصحبه في سفره . ولذلك فقد سألته : ومتي أنت مرتجل ؟ قال : إني مرتجل غداة غد ، ولكي - مع الأسف - لا استطيع أن أصحبك ، وإني أصارحك القول أني متخذها زوجة لي إذا لقيتها ، وهذا هو الأمل الذي ظل يراودني سبع سنوات كاملة .
قلت لا أظنك تعني أن تقول إنك لا بد واجد فتاة تشبه فتاة أحلامك .
وكان جوابه على هذا القول أن أخرج من جيبه خاتمين ثم وضعهما في كفه لكي أراهما ، وكان أحدهما من الألماس ، وكان الثاني خاتم الزواج ، وقال : لقد ظل هذان الخاتمان معي سنتين كاملتين ، وما استطمت يوما أن أريكهما ، إذ كنت أخشى أن تضحك مني . ولكن اليوم وقد وثقت من لقائها فإني لا أري ما يمنع أن تراهما
- ولكنك لم تجدها بعد ؟ . فظل صاحبنا لحظة لا ينطق ، ونظر إلي نظر المرتاب ، ثم قال : إذا كنت لا تصدقني فماذا يمنعك من أن تراهني على أني لابد ملاقيها ؟ .
وما إن سمعت هذا القول منه حتى تبدل شكى يقينا ، بل لقد خيل إلى أني أنظر إليها وأراها جالسة هناك في الغاية . في خيمة شدت أوتادها في شاطئ تلك البحيرة ، وهي تنتظر مجيء صاحبها ( هاري ) . .
قال : هل تراهن ؟ . قلت : كلا فإني مصدقك . .
( من الإنجليزية )

