تحفزنا الرغبة في تشجيع الآداب العلمية إلى التنويه بهذا الكتاب الجليل، وهو باب من الأدب جديد يعني بتبسيط حقائق العلم في أسلوب أدبي يحبب إلى قارئه أن يقرأه فيجد لذة القراءة وفائدة التحصيل العلمي في وقت معاً؛ ومؤلفه حقيق بأن يبلغ بكتابه هذا المبلغ من الحرص على الفائدتين، فهو قد نشأ نشأة أدبية في ظلال أبيه الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي صاحب البيان، وصهره الأديب الكبير المرحوم مصطفى صادق الرافعي؛ وهو إلى ذلك عالم قد تخصص في مادته العلمية في مصر والخارج، وعليه التفتيش على دروس الطبيعة في مدارس الحكومة - فاجتمع له بذلك الفضل من طرفيه
ونحن ننشر فيما يلي فصلاً من هذا الكتاب الممتع برهاناً على ما قدمنا من وصفه:
اخترع التلغراف
سنة التطور والارتقاء
لداروين العظيم مذهبه الشهير الذي يقول بسنة ا لتطور والارتقاء، حتى رد الإنسان إلى أصل من القردة، وهذا الرأي لا يسري على الكائنات فحسب، بل إنه في رأيي يمتد إلى الاختراعات أيضاً، فكل اختراع يظهر أولاً ناقصاً مشوهاً، ولكنه يتحسس ويرقى بالجهود المتتابعة التي يبذلها العلماء، والأمثلة على ذلك عديدة، فها هي ذي الكهربية بدأت ساكنة فتطورت إلى متحركة محدثة التيار الكهربي؛ وهذه أبحاث فراداي النظرية، تتطور إلى أعظم المخترعات العلمية، ويحاول العلماء نقل الإشارات كما في التلغراف، فينجحون فيما بعد في نقل الكلمات كما في التلفون، وينجحون في اختراع التلغراف والتلفون السلكيين، فتؤدي أبحاثهم وجهودهم إلى اختراع التلغراف والتلفون اللاسلكيين، وهكذا سنة التطور والاتقاء في الاختراعات، ولن تجد لهذه السنة تبديلاً. ويحكى عن فرادي العظيم (ص٥٥) أنه كان مرة يقوم بإجراء تجربة كهربائية في الجمعية الملكية بلندن أمام بعض المشاهدين والمشاهدات. وبعد ما أتم إجراءها وشرحها انبرت له إحدى السيدات وسألته: (يا مستر فرادي. هل يمكنك أن تخبرني ما فائدة ذلك؟) فأجابها على الفور ذلك الجواب المقنع المناسب:(وهل تستطيعين أن تخبريني عن فائدة الطفل ساعة ولادته؟) فأسقط في يدها ولم تحر جواباً
نشأة التلغراف
والتلغراف كان مطمح الآمال، وغاية العلماء منذ نشأة الكهربية، ففي عهد سكونها، وبعد أن كشف جراي ودي فاي (ص١٦) أن من الأجسام ما هو موصل وما هو غير موصل حاول بعضهم مد عدد من الأسلاك بعدد الحروف الهجائية، وهي تسعه وعشرون في اللغة الإنجليزية كل سلك فيها يقابل حرفاً من تلك الحروف فإذا أريد إرسال إشارة تلغرافية لكلمة معينة دلكت أطراف
الأسلاك الدالة على حروف هذه الكلمة على التوالي، فتشحن هذه الأسلاك بالكهربائية فتجذب إليها في مكان الاستقبال كرات صغيرة من نخاع البيلسان فيؤلف المستقبل منها الكلمة المرسلة، وقد أخفقت هذه الطريقة كما أخفقت محاولات أخرى لما قام في طريقها من صعوبات: كبطء سير الإشارة أو ضعفها عن أن تصل إلى مسافات بعيدة، ولكن الاتجاه الصحيح قد بدأ سنة ١٨٢١، بعد أن كشف أورستد (ص٣٧) التأثير المغنطيسي للتيار الكهربائي، إذا اقترح أمبير (ص٤١) عقب ذلك) وفي نفس سنة ١٨٢١ استغلال هذا الكشف الجديد لتطبيقه في التغلراف. ومن ذلك استطاع جاوس العالم الطبيعي الألماني وفبر (أستاذ الطبيعة في جامعة جوتنجن) سنة ١٨٣٣ من إقامة أول خط تلغرافي في العالم بين المرصد وقسم الطبيعة في هذه الجامعة، وكانت المسافة بين المكانين ٩٠٠٠ قدم، وقد اشترك يوسف هنري الأمريكي (ص٧١) في أبحاث التلغراف، وهو الذي اقترح استعمال المغنطيس الكهربائي الذي له الفضل في تحسينه ورأى أن يوضع أمام قطبيه قطعة حديد تمس حافظة، فإذا وصل التيار إلى ملف المغنطيس الكهربائي انجذبت إليه الحافظة وحدث صوت في (دقته) واقترح شتاينهيل الألماني بعد دراسة عميقة أنه يمكن استعمال الأرض موصلاً بدلاً من إقامة سلك آخر لإتمام الدائرة الكهربائية وقد أعلن ذلك إلى أكاديمية العلوم بجوتنجن سنة ١٨٣٨، وقد حاول هويتستون في إنجلترا أيضاً الوصول إلى اختراع التلغراف، ولكن النصر الأخير والفوز الأعظم جاء على يد موريس الأمريكي
مورس
ومن ذا الذي لم يسمع بموريس؟ أو من ذا الذي لم يسمع (بالنقطة) و (الشرطة) اللتين أتخذهما موريس نظاماً وجعل منهما رموزاً للحروف الأبجدية والأرقام وغيرها، فجعل حرف الألف من نقطة وشرطة، والباء من شرطة وثلاث نقط، ورقم الخمسة خمس نقط وهكذا. إننا نسمع دقات التلغراف في مكانها كأنها تنادي باسم موريس آنا الليل وأطراف النهار
وقد بدأ موريس حياته فناناً، بل وفناناً عظيماً، ويكفيه فخراً في هذا المضمار أنه الذي أسس أكاديمية الرسم الأهلية في نيويورك، وقد تلقى أصول دراسة هذا الفن في أوربا، وأثناء عودته إلى بلاده سنة ١٨٣٢، خطرت له أول خاطرة في التلغراف، وتمكن من بناء أول تلغراف عقب ذلك في نفس السنة، ولكنه كان يعوزه المال اللازم لبنايته وعرضه على الناس، واضطر إلى الانتظار ولكنه في الوقت نفسه كان يعمل على إدخال التحسينات في تركيبه، حتى أوفى على الغاية من الإتقان، وتسنى له أن يعرضه على الناس سنة ١٨٣٧في جامعة نيويورك، وأرسل أمامهم الإشارات التلغرافية مسافة ١٧٠٠ قدم ونجح نجاحاً أثار الإعجاب، فمنحه مجلس الأمة الأمريكي مبلغ ٣٠. ٠٠٠ ريال، فأنشأ أول خط تلغرافي تجاري سنة ١٨٤٤ بين واشنجتن وبليتمور
ذاع صيت موريس، واشتهرت فكرته، فذاع تلغرافه في إنجلترا وأوربا وأمريكا، وأتقن إتقاناً عظيماً في بضع سنوات حتى صار في الإمكان إرسال الرسائل التلغرافية مسافة مئات الأميال سنة ١٨٥٠

