كانت تسمع أصوانا مختلطة لا معنى لها ، وتفتح عينيها الدابلتين بين الحين والحين لتري أشباحا تروح وتغدو ، وعيونا نضع الدموع في مآقيها دون أن تتبين من أمرها شيئا . . وتحس بالدوار فتروح في غيبوبة آليمة . . وتفيق ثانية والأصوات من حولها لا تصمت . . ربما كان يخيل إليها ذلك . . ولكنها كانت تحس بضغط شديد علي رأسها . . وتري النور وقد بدا أحمر في ثون اللهب . . وتحس البرودة وقد أخذت تنتفض منها رغم ثقل الأغطية . . وبين الحين والحبن يوضع في فمها ميزان الحرارة . . ووجه تحوطه هالة من القماش الأبيض يقترب منها وينزع الميزان . . وكانت الحالات تتكرر وهي لا تعي شيئا . .
لقد كانت يوما ما تعمل في التدريس . . ولم تهنأ في عملها سوى بضعة أشهر ثم وقع الحادث . .
ومرت نوبة من نوبات الحمى الشديدة . . وعادت إلى ذهنها المريض بعض الصور كأنها شريط سينمائى . . إنه اليوم الذي التقت به فيه . . هذا الفتى الشاعري . . تري أين هو الآن . . إنها السبب في كل ما حدث . . لا . . لم تكن السبب . . ومضي الشريط . . إنها تدخل المدرسة لأول مرة وجلة مترددة . . يقابلها الزميل . .
- مدرسة جديدة ؟ أهلا وسهلا . ولم تجد ما ترد به عليه إلا احمرارا في وجنتيها أحست به ، وهزة من رأسها .
- لا . . لا . . لا ليس فينا من خجل . . هيا بنا ، لابد أن الناظرة تنتظر قدومك . . وهذه الطرقة الطويلة الصامتة تردد وقع أقدامهما وصدي دقات قلبها الصغير . . ثم يخرج أحد الفراشين من الغرفة . .
وتقرأ ... " حجرة الناظرة " ... ويودعها قائلا : سأذهب إلى حصتي الآن ، وتدخل في خطى مضطربة . . وترفع الناظرة عينها لتري المدرسة الصغيرة . - أفندم .
- أنا مدرسة جديدة . . إسمى . . وتطوي صفحة هذا اليوم وتقابلة بعد ذلك .. لقد تشجعت قليلا فتبتسم .. إنه يعطيها بعض الإرشادات . . ولكنها لا تحس إلا بصوته المؤثر يرن في قلبها .. كم كان مخلصا ... وبدأ التأثير يظهر عليها . . فهي تسرع إلي المدرسة لكى تراه ... وهو يعمل حساب هذه المقابلة ... فيكون أول الحاضرين ... ويراقبان الفراشين في عملهم المنتظم كل يوم ... وأحست بأنها تعرفه من قبل ولو لم تره في حياتها ... إنما كان بينهما انسجام لا تدري منبعه . . كان حديثه عاطفيا . صادرا عن قلبه ... مع أنه لم يحدثها يوما بما في قلبه ... لقد أحست بما تضطرم ، نفسه ... ورأت نفسها وهي تضع يدها على الكراس تريد الكتابة ، فتذكر صورته وتضع القلم في استرخاء وتبتسم في لذة . . يشوبها شئ من قلق ...
تري كم يوما مر على تلك الصداقة الحلوة البريئة ... وذلك الانجذاب الروحي ! لم يدعها يوما إلى نزهة إلى سينما... لقد كان يعرف أن هذا اللقاء ربما أساء إليها فلم يبح لها بشئ . كم كان هذا جميلا منه . لقد كانت موقنة أنه لو دعاها لما ترددت ... لقد كانت منساقة نحوه بانجذاب لا يقاوم ... ولكنه كان يأبي أن يخدش عاطفتها العذراء بكلمة أو لقاء..
ثم تذكرت يوم الكشف الطبى . . وباله من يوم مشئوم ، وأحست بالدوار ثانية وكاد يغشى عليها ... ومدت يدا في الهواء كأنما تتعلق بمنفذ غير منظور ...
ثم أحست بيد دافئة تضغط على يدها ... هل تكون هذه يده ؟
لقد كان رحيما . . وفي إعياء تحركت جفونها . . إنها الصورة المتكررة . . الوجه المحاط بالبياض . . وأغمضت عينيها ثانية واستسلمت للذكرى . . كم كان يهولها أن تعلم بالنبأ الفظيع ... ولو كانت في حالتها العادية لما تأثرت ولا استسلمت للأمر الواقع ،
ولكن في سعادتها وآمالها الخجول الدافئة كانت الصدمة أشد مما تتوقع...
لقد جاءت النتيجة بأنها مصابة بالسل ... وأحست بالغثيان وأرادت أن تصيح أغيثوني ، ولكن صوتها خانها ، واستسلمت ثانية ... لقد كانت رقيقة تؤثر عليها النسمة . . فلم يكن غريبا أن تكون مريضة ... ولكن هذا الوقت ... كان أصعب الأمور ...
ورأت نفسها على الفراش تبكي أحر البكاء ... وتصورت نفسها وهي على فراشها ... نهاية حياتها خافتة تذبل.... وجثة تحشرج وتسعل .... وبكت وبكت ... ولم تكف عن البكاء إلا لتتعذب بالتفكير في الشخص الحبيب الذي قدر لها ألا تراه ...
وتذكرت اليوم الذي جاء فيه يحمل باقة من الورد . . يحملها أمله في الشفاء ... وقد ألهمه إحساسه أن غيابها عن المدرسة لمرض ألم بها ...
وتذكرت عندما كانت على الفراش وجاءت إليها أمها تحمل الباقة وعليها اسمه الحبيب . . وكيف ترقرقت الدموع في عينيها واهتز قلبها بعنف العاطفة ... ولكنها صاحت . . لا . أبعديه يا أمي ، ما أنا إلا ميكروب خطير يجب الابتعاد عنه .... قولى إنني لا أريد رؤية أحد .... ولكن يا أمي لا تذكري له علتي .... أرجوك ...
لقد قرأت غادة الكاميليا ، كانت مصدورة هي الآخرى ولكنها ضحت بسعادتها في سبيل هناء حبيبها وراحة أهله . . هي أيضا يجب عليها أن تضحي . . عليها أن تقتل الحب في قلبه قبل أن يتمكن منه فتشقيه الذكري ...
لا . ستضحي بكل ما تملك .. حتى ترحمه من المصير الذي ينتظره معها . وعاد مرة اخرى ومرات وفي كل مرة ترجو أمها أن تنهره وان تطرده حتى لا يفكر فيها ...
وتذكرت اليوم الذي دخلت عليه حجرة الجلوس . . وكيف قام والتأثر ينطق على وجهه . . ومد إليها يده في حنان . . فلم تمد إليه يدها بل قالت ، كان يجب أن تفهم ، إنني لا أرغب في رؤيتك . . الوداع بإ صديقي . . ولم تعرف كيف طاوعها لسانها وقلبها ، بل كيف طاوعتها أقدامها على الذهاب إليه لتقول هذه الكلمات القاسية الآليمة ...
ولكنها كانت مدفوعة بقوة لاتقاوم ، التضحية بحبها في سبيل من تحب . . ولم يصدق هو ما سمع . . فقد كان موقنا بحبها له لأنه أخلص في حبه ولم يرتكب إثما يجازي عليه بكل هذا . . وأحست بالدموع تريد الانفجار من قلبها فجأة لتستريح... ولكن أنى لها أن تستريح ! لقد حم القضاء ...
وهزتها يد رقيقة . . فأفاقت لحظة لتضع الميزان مرة أخرى ، وأحست بالبرودة والموت يسريان في جسدها ...
إنه لساخر ذلك القدر الذي تم المآسي في صورة لا تخطر على بال . . ترى هل كانت تظن وهي تسمعه هذا القول أنها محطئة . . ولكن .. الساعة التي جاءها فيها النبا . . النبأ الغريب الذي لم تتوقعه . . ما زالت تذكرها .. واللحطة عالقة بذهنها .. لقد أعيد الكشف عليها فثبت أن المريضة فتاة أخرى بنفس اسمها الأول . . وأن الخطأ جاء من الكاتب ...
هل كانت تظن هذا . . هل كان القدر يدخر لها هذه المفاجأة السعيدة ... أو الآلمية ! ... إنها لا تدري .
ورقصت وضحكت وظنت أنها ستقص عليه هذه القصة الرائعة فيحبها أكثر فأكثر... نعم يمكن أن تتزوج منه . . وأن تنجب أولادا يسعدون بحبهما ...
وانتزعت الممرضة الميزان . . ورفعت الفتاة نظرها لتقرأ نظرة المرضة ، ولكنها كانت نظرة جامدة لا تدل على شئ . . فعادت إلي الذكري الآلمية ...
لقد ذهبت المدرسة ذلك اليوم لتراه وتقص عليه ما حدث لها فيشاركها فرحها . . ولكنه لم يكن موجودا ...
وذهبت في اليوم التالي مبكرة عسي أن يكون مواظبا على الذكري . . ولكنه لم يظهر . . وعاشت في الفصل ذاهلة عما حولها تفكر فيه وما حدث له . . ولم تستطع الصبر وقاومت الخجل . . فسألت الناظرة فقالت : لقد قدم استقالته منذ أسبوع . . وقال إنه سيسافر بعيدا . . إلي السودان . . ولكنه بدا تعيسا إلى درجة لا توصف . . لعل عزيزا له توفي ...
ووجدت نفسها تردد في ذهول : نعم ... لعل عزيزا له توفي ...
وانتهي الشريط ، وإذا بها في المستشفى تعاني حمي فظيعة . . لقد كانت قصة سعيدة التي كانت ستقصها عليه . . ولكنها أصبحت مأساة تلك التي تتردد على ذهنها الآن . . وأحست بنفسها تدور في الهواء ، واحست روحها وقد انفصلت عن جسدها . . ومضت تتأمل الخطام الذي خلفته . . فصاحت : لا ... لا أريد أن أموت ...
ربما عاد ثانية . . ربما قابلته يوما ما . . إن في جعبة القدر مفاجآت عديدة . . فماذا يبخل على بمثل هذه المفاجأة ...أريد أن أعيش . . أريد أن أعيش . . لأراه.

