من صور الحياة :
انتهي الطريق بي وبصاحبي الشيخ إلي محطة الترام بميدان باب الخلق . وكانت الليلة منمرة ، ونسمات الربيع تهفو بالأدواح وتهمهم بها همهمة الوحي في صدور الأنبياء فيذوب قلبي فيها رقة وحنانا.
ومضينا نزجي الوقت بالتحدث عن عهد الشباب واستعادة ذكرياته الشائقة - ريثما يأتي الترام - وفجأة تجهم وجه صاحب الشيخ وارتسمت على جبينه خطوط عريضة تنم عن القلق والاضطراب ، فنظرت إليه في شئ من الدهشة والاستغراب ، وسألته : ماذا أم بك يا صاحبي حتى صرفك عن مواصلة حديثك ، فأرسل زفرة حارة وقال في صوت متهدج حزين : - قصة شبابي وذكريات صباي - في هذا المكان وفي ليلة شبيهة بهذه وفي صحبتى صاحب مثلك وقعت بداية ذكرياتها . .!
كانت الساعة الكبيرة المقامة في فناء هذا الميدان تشير وقتذاك إلى الثامنة مساء - كما هي الآن - ولم اشعره "بها" إلا وهي قادمة عن كثب من تحت هذا المصباح القائم على إفريز المحطة . تتهادي في مشيتها ، ثم وقفت أمامنا وحيتنا تحية طيبة ... !
وكانت نظراتها الثاقبة تنبعث من عينيها الكحلاوين فتهتك قناعها وتنفذ إلى أعماق قلبى . . فتقطع لفائفه فتنة وإعجابا . ثم تقدمت إلينا وسألتنا في حياء عما إذا كان ترام العباسية يمر من ذلك المكان !.
وسادت فترة من الصمت ، وكأنما كانت تراجع نفسها . ثم قالت : إني طبيبة بوزارة كذا ، وقد نقلت منذ أسبوع من مدينة الزقازيق إلي القاهرة . وإني علي موعد مع زميلي الذي سيأتي بالترام القادم . . ! .
وأقبل الترام يهديء من سرعته عندما أشرف على المحطة . وقبل ان يستقر مدت إليه بعنقها وشخصت ببصرها وقالت في تراخ وفتور : إن زميلي لم يكن من بين ركابه .
ونهضت وصاحبي الشيخ إلى الترام ، وأوهمته بالركوب معه . إذ شعرت آنذاك بدافع قوي يدفعني إلي الوراء ويستبقينى بجانب هذه السيدة حتى أقف على حقيقة أمرها ، فظاهر شكلها ومضمون عباراتها وعدم اتران حركاتها كل ذلك - مما دعا بي إلى الحيرة والتفكير والتشكك في صدق حديثها - واحتفظت لنفسي برأيها - وسار الترام صاحبي وبقيت إلي جانبها ، وتثاءبت السيدة في نغمة موسيقية . . ثم قالت : ما دام زميلي قد تأخر إلي هذا الوقت ، فمن المؤكد أنه لن يأتي بعد ذلك ، حيث كان موعدنا السابعة والنصف .
وفجأة أشارت إلي . وحولات بوجهي مع وجهها . أنظر . . أنظر إلى هذا الشاب ، إنه يرمقنى بنظراته الحادة . إن عينه تكاد تلتهمنى . ما لبلدكم هذا وما لشبابكم الماجن يقع الفجور في أعينهم ؟ إن لم أر مثل هذا مدة إقامتي في مدينة الزقازيق ، قلت وأنا لازلت عند رأيى فيها : لعلك يا سيدتي واهمة فيما تدعين ، ظني بالناس خيرا ولا تلقى لهم بالا.حتى ولو كانوا أشرارا ، فكل إنسان مصاب بما يتوهمه .
ثم أرغمتني مرة ثانية على تحويل وجهي مع وجهها إلى الوراء : لا . لا استطيع البقاء هنا أكثر من هذا . إن فرائصى ترتعد والذعر يملأ نفسى ، فهل لك أن ترافقنى حتى أصل إلي البيت ؟.
وكانت عيناها الواسعتان لا تكفان عن التمحص في قسمات وجهي ، كما كانت ترهف السمع إلي نبرات صوتي ،
وقد أدهشني يا سيدتي أن ألمح في عينيك ذلك اللألاء الذي كانت تشمه عيناها ، وأن أري كل حركة منك شبيهة بحركاتها ، فانبثق ذلك العهد من ظلمات الماضي وملأ نفس وخاطري . . لقد أحببتها ووطدت العزم على الزواج منها .
وفي صبيحة يوم مشئوم رف طائر البين وحلق فوق رأسي - وتوفى والدي - وقبل أن أصل إلي بلدي ذهبت إليها فوجدتها واقفة في ثوب أسود على سدة المكتبة ورأيت دمعة لؤلؤية تترقرق على خدها ؟ فطارت نفسى إشفاقا وقوعة ، وملت على جبينها فطبعت عليه قبلة ضمنتها لواعج قلبي - فصاحت مؤنبة : أيها الشاب المجنون ؟ فأجبتها على الفور : لا تسيئى الظن يا فتاتي العزيزة ؛ فما هذه القبلة إلا رسول خطبتى ، فاحتفظي بها حتى أعود إليك ؛ فاقتر ثغرها الجميل عن أعذب ابتسامة وانفرجت شفتاها ، وهتفت : إلى اللقاء يا خطيبي العزيز ، عد سريعا يا شريك حياتي المنتظر ، وكنت قد أعلمتها بسبب رحيلى
فتنهدت السيدة وقالت : ولكنك لم تعد .
قلت : والله فإني لم أعد إليها ثانيا .
وما كان ذلك إلا لأن الظروف اضطرتني عقب وفاة والدي إلي قطع دراستي وقيامي علي إدارة الضيعة التي تركها لي ولإخوتي الذين يصغرونني . .
قالت السيدة وصوتها يتهدج تهدج من يهيم بالبكاء : لعل المسكينة قد أحبتك : ... قلت : وهل اكون قد أجرمت في حقها يا سيدتي ؟ إنك تبكين ! . . قالت : لا تلق بالا إلى ذلك ؛ فقد عرفت تلك الفتاة المسكينة وأحزنتني قصتها .
فصحت وقد بلغ بي التأثر كل مبلغ ، وقلت : ما تلك الفتاة إلا . . أنت يا ليلى ..
قالت : نعم أنا .. أنا " ليلي العذراء " التي أوفيت جهدي .. وسأظل " ليلي العذراء " حتي تواري عينى التراب ؟ ..
