الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 221الرجوع إلى "الثقافة"

قضية شهر زاد :، أحلام شهر زاد

Share

كانت أحلام شهر زاد هي التي حركتنا للكتابة ، وكان جديرا بنا ان نبدأ بالكتابة عنها ، فأن العهد قد تقادم على شهر زاد الحكيم ، وعلي قصص دي رينيبه من قبلهانا ، وعلي القصر المسحور من بعدها ، ولكن الحديث كما يقولون ذو شجون . وإذا كان علينا أن نعتذر فعذرنا اننا ما كنا نقدر ان نقول كل ما نشاء أن نقوله استطرادا من معني إلي معني . وانتقالا من موطن إلي موطن ، لأن الذي يحب ان يتكلم عن أحلام شهر زاد ، لابد أن يعرض لقصص شهر زاد ، فإن الأدب ما هو ) إلا بناء على بناء وطور في الخلق من بعد طور .

فإلي أحلام شهر زاد أخيرا

كان أسلوب الأستاذ الجليل الدكتور طه " في هذا الكتاب هو الأسلوب الذي نعرفه لطه . ولا استطيع ان أصفه بأكثر من أن أصف الأثر النفسي الذي يحدثه في . سألني مرة صديق فاضل عن رأيي فيه ، فقلت بعد تفكير إني كنت منذ دهر أغشى في أوقات الصيف حمام ) سان استفانو ( بالإسكندرية ، وكنت أري فيه عواما مارايت مثله في ) سلاسة ( طريقته . كان يضرب بيده ضربا هينا وبضرب بساقيه ضربا هينا ، فكانما هو حوت من تلك الحيتان اللينة التي تتساب في الماء في رشاقة وتتلاعب في نعومة تشبه نعومة الأنغام الموسيقية ، فكان لا يعنيني أن أسأل نفسي عن هدفه ، ولا عن سرعته أو بطئه ، إذ كان اسلوبه يستولي على كل مشاعري استيلاء . وأنا إذا قرأت ما يكتبه " طه " شعرت مثل ذلك ، فلا أسأل نفس عن شئ ، ولا انظر إلي شئ سوى هذه السلاسة الموسيقية التي تغلب على كل ما دونها . ولم يتغير رأي في ذلك الأسلوب عندما قرأت

أحلام شهر زاد . فإنه استولي على مشاعري كما كان يفعل دائما ، واكتفيت منه مما نلت من متعة فاتنة . ولم أجد دافعا يدفعني إلي أن اتكلف من المشقة مثلما تكلفت في فهم سابقتها شهر زاد الحكيم ، لأن جمال الصياغة وموسيقاها كفياني ، مؤونة مثل هذا التكلف ، ولكني مع ذلك راجعت نفس وكاوحتها ، فإنه ليس من الإنصاف ان اجهد نفسي لأفهم معنى شهر زاد الحكيم واتلمس مقصده في شئ من القسر والمشقة على حين لا اسائل نفسي عن مقصد " طه " من كتابه . وأقبلت على الأحلام اقرؤها مرة ثانية ومرة ثالثة وكنت في كل مرة اخرج من القراءة قانعا بما نلت من متعة ، ولم أحمل نفسي مشقة ولا قسرا في فهم معني تلك الرموز التى جعلها الدكتور مطية لمعانيه ، كما فعل الحكيم من قبله . يالهؤلاء الأدباء ويا لرموزهم !

إننا نريد أن نفهم وأن تتمتع بما يكتبون ، فما لهم يكلفوننا هذه المشقة في فهم مقاصدهم ؟

لست أدري ما الذي يحمل اديبينا الكبيرين على هذه الطريقة الذي تذكرنا بطريقة فلاسفة القدماء في إعجاز من يقرؤهم إذا لم يكن قد بلغ من الفلسفة ما يعينه على تحدي إعجازهم بفهمه الخاص وعلمه الواسع وإدراكه لطرقهم في الرمز والإشارة ؟

لاشك أن هناك معاني واضحة نفهمها من الاحلام ونعجب بها ونقرها . هناك معان لو وضعت بعضها إلي جنب بعض لكانت سلسلة بديعة من الحكم الاجتماعية والسياسية . قالت فاتنة لابيها ملك الجان " فإن هذه الحرب كما كنت تقول لا تعنى رعيتنا ولا رعاياهم من قريب أو بعيد ، وإنما هي شهوة جامحة دفعتهم إلى الشر والكيد ثم قالت : " وما ينبغي أن نقامر نحن ويشقي الأبرياء وما ينبغى أن عمس رعيتنا أو رعية أعدائنا سوء " ثم قالت لقائد الجيش تؤنيه على شدة حرصه على الحرب ؛ " من شاء منكم أن يغامر فليغامر بنفسه لا بالأبرياء من جنده . "

ثم تحدثت إلي وزيرها عن الملوك الذين شنوا الحرب طمعا وطغيانا فقالت : " فإذا مثلوا بين يديك أو بين يدي وكلائك فخيرهم بين الموت وبين ان يشهدوا على أنفسهم بالطغيان وإهدار حقوق الشعوب . فأيهم اختار الحياة وأشهد على نفسه انه طاغية مهدر لحق شعبه ، فليخلع نفسه من الملك وليلق إلينا بيده ونحن نسلمه بعد ذلك إلى وطنه يصنع به ما يشاء " .

لا شك أن هذه وأمثالها سلسلة من الحكم الصادقة يسوقها المؤلف في ثنايا كتابه واضحة ، ولا شك ان فيها مقنعا لمن أراد مغزي أو قصدا ولم يكتف بما دونها من الأسلوب والموسيقي .

ولكن مع كل ذلك ما هي تلك الرموز الكثيرة ، وماذا يقصد المؤلف منها ؟ ماذا تمثل شهر زاد هنا وماذا تمثل شهريار ومن الذي يختفي وراء رمز طهمان ووراء رمز فاتنه ابنته ؟

لقد أصبحت القصة في العالم كله مطية الأدب إلي كل دعوة يريدها وكل فلسفة يريد ان يبسطها ، والقصة العربية اليوم ترفع رأسها ناهضة ويتعلق بها هذا الجيل الناشئ من ادباء الشباب ، فهي جديرة بأن يتحدث عنها أهل الأدب بما يخطر لهم

وسر القصصه هو ذلك الخداع الذي يخدعنا به المؤلف حتى نعتقد أنه يصف لنا ما شهد وما عرف ، فلا يزال يسوقنا مع خياله حتى ينتهي بنا أخير إلي أن نري ما يراء هو وان نحس ما يحسه وان نشهد ما يزعم أنه شهده . كل ذلك يفعله المؤلف بغير ان يشعرنا انه يملى إرادته او انه ينصحنا أو أنه يعلمنا .

فالقصة نوع من الاستهواء ، ولا بد أن تقدم لنا عا يؤدي إلي ذلك الاستهوا ، من إبعاد لعقلنا الواعي واستيلاء على خيالنا . ولا يتم للقصصي ما يريد إلا إذا نجح في أن نعيش معه في عالمه الذي يريد أن ينقلنا إليه . ويجعلنا ندرك لغة

ذلك العالم ومدلول ألوانه . لا بد له أن يصور لنا ذلك العالم تصويرا يخيله إلينا كالحقيقة ، ولابد أن يمزج وصفه بما يثير العاطفة حتى تغلب العقل الواعي ، وان يجعل أشخاصه تتحرك حركة لينة طبيعية ، وأن يجعلها تتحدث وتحس وتفكر كما نحس ونفكر حتي تأنس إليها وتحسب انها بعض من نعرف من الأحياء ، والقصصي لا يستغني عن أن يصف لنا المنظر الذي حول هؤلاء الأشخاص ، حتى كأننا نراه ونري من فيه وأن يجعل صور هؤلاء الأشخاص بحيث لا تغيب عن صفات أجسامهم ولا مظاهرهم ولا خلجات نفوسهم ولا تفوتنا لفتة من لفتاتهم أو لمحة من لمحات التعبير على وجوههم .

كل هذه من ضرورات القصة إذا شئنا أن نسمى الأمور بأسمائها . فهل نجد ذلك كله في " أحلام شهر زاد إننا لمسنا كثيرا من مميزات القصة في القصر المسحور ولكنا عندما قرأنا الأحلام قرأناها بالعقل الواعي ولم يتخذ فيها المؤلف خطه الخداع التي تميز عالم القصص .

ولكنا نعود إلي أنفسنا فنقول : إنه لا يضير الفكرة أن نقرأها بالعقل الواعي بدلا من أن ندسها إلي النفس في خداع الخيال . وللآدباء طرقهم التي لا يقبلون فيها جدالا .

ولا ينبغي لنا أن ننتهي من هذه الكلمات بغير أن نعرج على الكلمة القصيرة التي كتبها صديقنا الأستاذ كامل الشناوي في قضية شهر زاد ، فقد كانت تلك الكلمة مثار هذا الحديث الطويل كله . قال الأستاذ إنه رأي شيئا من التشابه بين شهر زاد  " طه " وبين شهر زاد " الحكيم " وإن في الآحلام الفاظا توافق بعض ما جاء على لسان شهر زاد الصاحية ، وقال إن هذا عنده بمثانة وقوع الحافر علي الحافر ، وكأننا به يريد أن يقول إن طه قد نقل عن توفيق . ولسنا نظن إلا أن صديقنا الأديب قد أراد أن يثير مناقشة تبعث شيئا من الحرارة في هذا الجو الفكري الراكد .

كأننا به يريد أن يبعث تلك المناقشة القديمة من مرقدها ، تلك التي كانت تثور بين حين وحين ، فينقسم لها

الأدباء إلي طوائف وشيع ، كل منها تدافع وتهاجم ، وكل منها تثبت وتنفي وترفع وتفض ، نقصد تلك المناقشة التي كانوا يثيرونها حول ما يسمونه " السرقة الأدبية " كان الأدباء يبحثون عن لفظ يشبه لفظا ، وعن معنى يشبه معنى فلتعو  أصواتهم منادين أيها لسرقة ، وكانوا عند ذلك يتتبعون المعنى واللفظ حسبا تشاء لهم ذخيرتهم الادبية ، ويجدون في ذلك لذة وتسنية ، ولا ننكر انهم اتحفوا اللغة العربية بنوع فذ من أنواع الأدب يندر له شبيه في الآداب الأخرى ، ونحن اليوم إذا القينا نظرة إلي أدباء العرب في العصور المختلفة لم يخفى علينا من أثر هذه الصيحات ، حتى لنكاد نتصور ان أدباء العروبة كانوا جميعا يقترفون هذه الجريمة الشنعاء .

ولقد فكرنا في تفسير هذه ) الظاهرة ( فلم تجد لها الا سببا واحدا ، وهو أن أدباءنا كانوا دائما ممن أدركتهم الحرفة ، فلم تكن لهم خزائن ولا ضياع ولا قطعان من الإبل ولا البقر ولا الشياه . فكانوا يلجاؤن إلي المجاز والخيال . فيسمون ما عند احدهم من لفظ او معني بأسماء الإعلاق التي يطمع الناس فيها ويسرقونها ، وهم بذلك ) إما يملقون لكبريائهم ويعوضون انفسهم عما فاتهم من مادة هذه الحياة . فهل يريد صديقنا الأديب ان يحاول اليوم مثل هذه المحاولة ؟

إننا نخالف الأستاذ الشناوي في أساس الرأي الذي ذهب إليه . فلسنا نري أن في الأدب شيئا اسمه سرقة ، بل إن الأدب في اسمي معانيه ما هو إلا لفن قد امتزجت  به عناصر مختلفة ليس فيها من جديد يبدعه الأديب سوي فنه وأسلوبه ونظرته وفلسفته

هل الأديب إلا كالموسيقي أو الفنان الذي لا يمكن أو ينفق في ادبه إلا من الثروة التي تجتمع عنده من اصداء الأدب والفن في العصور الماضية وفي عصره الذي يعيش فيه ؟ لا تظن أن هناك أدبيا جدرا بمكانة الأدب لا تنعكس

في أدبه آثار الإنسانية وتهتز أوتار نفسه على أصداء معانيها ولكن لم نبعد كل هذا البعد في المناقشة ؟ ولم نوغل كل هذا الإيغال في تصوير المبادئ العامة ؟

هذا هو طه في ) احلام شهر زاد ( فماذا فعل ؟

إن موضوعه يختلف كل الاختلاف عن موضوع ) شهر زاد ( وإن بين اسلوبه وأسلوب توفيق من الفرق مثل ما بين شخصي طه وتوفيق

فهل اتفاق الأديبين الكبيرين في اتخاذ اسم لشهر زاد يعتبر من أحدهما أخذا عن صاحبه ؟

يجب أن تذكر انها شهر زاد السعيدة التي كتب عنها القدماء والمحدثون ، وكتب عنها أهل الشرق وأهل الغرب ، وكانت مرة واضحة ومرة غامضة ومرة صاحية ومرة حالة . فهل يستطيع أحد أن يدعيها لنفسه أو ان يجعلها في سجن حق تأليفه ؟ إن أكبر الظن انها لم تصل بعد إلى خاتمة حياتها وان لها في عقول أدباء الأجيال المقبلة بحثا جديدا فهي ملك مشاع لا يحق لاحد ان ينسبها إلي ملك نفسه .

وقد أورد طه في ) أحلام شهر زاد ( بعض ألفاظ يحرفها مما نطقت بها شهر زاد الحكيم ، ولنا في ذلك رأي تظن أن الإنصاف يقرنا عليه لقد كان طه مجاملا لصديقه عندما ادخل هذه العبارات في قصته ، فإنه بذلك يعترف بالعمل السابق الذي أبدعه صاحبه وكأننا به يتودد إليه بأن يبعث في شهر زاده ملامح من الشخصية التي رسمها ذلك الصديق ، وما أجدر الأديب أن يشعر بالارتياح عندما يري زميلا يردد في كتاب له بعض ألفاظ من مؤلفه ، ففي هذا مجاملة وفيه اعتراف وفيه مشاركة في الحديث بين الأدباء هذه معان يجدر بنا في هذا العصر ان نجعلها مقاييس لاحكامنا بدلا من هذه المقاييس التي كانت منذ حين مثارا للمشاحنة بين الشعراء والكتاب .

) انتهي (

اشترك في نشرتنا البريدية