جاء في الأنباء الأخيرة أن مدير الشئون المدنية للقيادة البريطانية في الشرق الأوسط (( الجنرال كنج )) زار مدينة بنغازى ، وأعلن فيها قرب وصول لجنة التحقيق الدولية ، المكلفة بدراسة مشكلة ليبيا ، وتقديم تقرير واف عنها إلي مندوبى الدول الأربع (( انكلترا وأمريكا وروسيا وفرنسا )) الذين سيجتمعون قريبا في لندن للبث في مصير المستعمرات الإيطالية .
وعلى أثر هذا الخبر ، أصدرت الإدارة العسكرية المحتلة في بنغازى أوامر صارمة إلى الصحف ، تحظر عليها نشر اى نقد او حديث من شأنه إثارة الرأي العام ضد الإدارة القائمة ، أو ضد موظفيها ، وغايتها في ذلك خنق صوت الشعب قبل وصوله إلى آذان اللجنة القادمة . وراحت الصحف المأجورة تذيع وترجف أن أهل ( برقة ) يريدون وصاية انكلترا عليهم . فكان من جراء ذلك أن توترت أزمة شديدة بين الهيئات الوطنية وبين هذه الإدارة العسكرية المؤقتة .
وعلمنا من أنباء أخرى أن وزارة الخارجية الإيطالية قد حلت عقالها من جديد ، على اثر الحوادث السياسية المالية ، والتوتر في العلاقات الدولية بين معسكري السوفييت والانجلواميركان . وراحت تتقرب إلى انكلترا شيئا فشيئا ، وتبذل الجهود الجبارة في شن دعاية واسعة لها المطالبة بإعادة مستعمراتها إليها ، وخاصة ليبيا .
ومن نكد الطالع أن اقترن وقت النظر والتحقيق فى مشكلة هذا البلد العربي بوقت شغلت فيه دول الجامعة العربية بعرض قضية فلسطين على هيئة الأمم المتحدة ، وبشكوى من انكلترا في مجلس الأمن ؛ وإلا لكان نصيبه من اهتمام هذه الدول به ، والدفاع عنه أكثر من هذا النصيب الذي تراه .
وليست مشكلة ليبيا من المشاكل الدولية البسيطة إن لم تكن من أكثرها تعقيدا وأشواكا . فما إيطاليا وحدها التى تريد سلب الشعب الليبي حريته واستقلاله ، لإعادة استعمارها الوحشي الشنيع عليه ، بل هنالك عدة دول كبرى تتطلع إلى هذه الأرض ، الممتازة بموقعها الجغرافي بعين الطمع ، ورغبة الحصول على قواعد عسكرية أو مراكز اقتصادية فيها .
ولهذه المشكلة حكاية تتصل بتاريخ استعمار إيطاليا لبلاد ليبيا تلخصها فيما يلى :
في عام ١٨٨١ احتلت فرنسا بلاد تونس ، فانتفضت إيطاليا ، رغم ضعفها وكثرة مشاكلها الداخلية ، من هذا الفتح المباغت ، المضر بمصالحها ونشأت من جراء ذلك ازمة سقطت على اثرها الوزارة ، وجاءت اخري قطعت علاقتها مع فرنسا .
ولما انتهت مشاكل إيطاليا الداخلية واستقرت وحدتها التى تبلورت عام ١٨٧٠ ، شعرت بحاجة إلى مواد أولية تغذى نهضتها الصناعية ، فاندفعت إلى الاستعمار ، وجعلت نصب عينيها الاستيلاء على ليبيا وانتزاعها من يد الدولة العثمانية الضعيفة ، غير أنها فوجئت برغبة فرنسا فى احتلال هذه البلاد المجاورة لتونس ، فكتب رئيس الحكومة الإيطالية (( السنيور جراسى )) إلى اللورد (( سانسبرى )) رئيس الوزارة البريطانية ، يقول ؛ (( لقد اتضح لى أن الجمهورية الفرنسية تعمل لاحتلال طرابلس الغرب ، كما ثبت لى ذلك من اعتداءاتها المتكررة على الحدود الطرابلسية ... ولكن إذا حصلنا على طرابلس فان ( بنزرت ) لا تهدد بعد ذلك إيطاليا ولا بريطانيا ...))
وأجاب رئيس وزراء إنكلترة على هذا الخطاب بالموافقة على تحقيق رغبة حكومة (( جراسي )) قائلا : (( ليس هناك شك في ان الحكومة الإيطالية ستستولي على طرابلس . ولكن على الصائد الماهر الذي يريد إصابة
فريسته أن يتريث حتى تصبح في متناول طاقته كى لا تهرب إذا ما جرحت ...))
ومن ذلك اليوم أعدت إيطاليا عدتها لتحقيق هذه الأمنية الاستعمارية ، فتقربت من الدولة العثمانية وتوددت لها ، ومدت أصابعها فى البلاد عن طريق التجارة والعلم وفتح المدارس وغيرها . وكان الباب العالى يجهل مطامع إيطاليا ، ولا يعتقد بإمكان تحقيق فكرة مثل هذه ، لوجود التوازن الدولى ، وعدم رضى الدول بمثل هذا العمل .
وفى الوقت ذاته كانت الحكومة الإيطالية تهىء الرأى العام الإيطالي لهذا الفتح فكتبت الصحف الداخلية تنتقد حالة سكان ليبيا ، وتطعن فى إدارة الدولة العثمانية لهذه البلاد ، واضطهادها للأقلية الإيطالية النازحة هناك ، وتحرض الشعب على الاستيلاء على هذه الأراضى الغنية بثروتها وخيراتها ، حتى تهيأت الافكار للاقدام على تحقيق الخطة المبيتة ، ورغبت العائلة المالكة في ذلك .
ثم اتجهت إيطاليا إلى الميدان الدولي لتذلل العقبات التي قد تعترضها أثناء الفتح ، بعد ان أقنعت انكلترة وأرضتها. وفى عام ١٨٩٦ اعترفت لفرنسا بحمايتها على تونس . واتفقت معها على تنظيم الملاحة في البحر الأبيض المتوسط . وعقدت معها اتفاقا آخر عام ١٩٠٠ رضيت فيه باستيلاء فرنسا على مراكش ، مقابل استيلائها على ليبيا ، وجددت العهد نفسه بعد سنتين . فلما كان مؤتمر الجزيرة عام ١٩٠٦ احتفظت إيطاليا بحيادها كى لا تغضب حلفاءها المتساومين معها في الخفاء.
وفي ٢٩ سبتمبر من عام ١٩١١ فوجي ، العالم باعلان ايطاليا الحرب على الدولة العثمانية بحجة عدم استتباب الأمن في ليبيا ، وتهديد المصالح الإيطالية هناك.
كان الأسطول التركي ضعيفا ، فاختفى أمام القوى البحرية الإيطالية ، وانقطعت الصلات بين ليبيا والآستانة عن طريق البحر . وفضلا عن ذلك فقد كان
الجيش التركى مشغولا بحوادث البلقان ، ولم يكن في طرابلس الغرب إلا حامية بسيطة ، انضمت إليها القوى الشعبية في البلد وبعض المتطوعين العرب من البلاد الأخرى .
وكانت خطة الإيطاليين العسكرية ترمى إلى احتلال الساحل ، ومنع ما يمكن لتركيا إرساله من مدد للقوة الوطنية المقاومة . فلما تم لها ذلك وجدت احتلال الداخل أصعب مما كانت تتوقع ، ولاقت من الصعوبات ما اضطرها إلى طلب إرضاء تركيا مقابل مال تدفعه ثمن التنازل عن هذه الولاية ، فأبت تركيا ، وعبثا حاول بعض الدول إقامة الصلح بين الطرفين.
فلما فشلت المساعي للصلح هاجمت إيطاليا الدردنيل وبيروت ، بعد موافقة الدول الأخرى ، وانزلت جنودا في جزر بحر إيجا . وأقامت الثورات في ألبانيا ومقدونيا ضد النفوذ التركى ، فوافقت الدولة العثمانية على مصالحة إيطاليا ، وعقدت معها معاهدة (( أوشي )) في ١٨ أكتوبر من عام ١٩١٢ ، على ان فتح أهل ليبيا استقلالا داخليا تحت نفوذ الحكومة الإيطالية ، مع احتفاظ الحكومة العثمانية بإرسال من يمثلها في ليبيا ، وتعيين القضاة ، وغير ذلك فيما يخص الشئون الإدارية .
غير أن الحكومة الإيطالية خانت المعاهدة ، ولم تعمل بها ، وقررت الاستيلاء على البلاد كلها دون شرط . فأصر العرب في ليبيا علي المقاومة ، وألفوا حكومة وطنية للدفاع ، وهاجموا القوى الإيطالية فى الداخل فهزموها
غير أن سوء الحظ لازم ليبيا ، فانقسمت القوى الوطنية على نفسها بين بعض زعماء البلاد ، فوهنت شوكتها ، واستفاد الطليان من ذلك وقوى مراسهم حتى انتهت الحرب العالمية الأولى . ولم يلق أهل ليبيا السلاح من أيديهم رغم ماجاءت به الأحداث من انشقاق ونزاع داخلى .
وفي عام ١٩٢٢ تجددت الثورة في البلاد تحت راية
( عمر المختار ) وأخذت طورا جديدا ، واستمرت تسعة أعوام ، حتى أسر ( عمر ) فى يد الجيش الإيطالي ، وشنق في شهر سبتمبر من عام ١٩٣١ ، فانطفأت نار المقاومة ، وخضعت ليبيا لإيطاليا .
وزار السنيور (( موسوليني )) طرابلس عام ١٩٣٧ ، ووعد الليبيين خيرا . فلم تمض بضعة اشهر من هذه الزيارة المسرحية ، وهذا الوعد الكاذب ، حتى فوجئ الناس بقانون ، وافق عليه المجلس الفاشني الأعلى في ٢٩ نوفمبر سنة ١٩٣٨ ، و بموجبه تجبر الحكومة الإيطالية أهل ليبيا على التجنس بالجنسية الإيطالية . وقامت السلطات الفاشنية بتحقيق هذا القانون ، فارتكبت من الظائع والظلم ما يقشعر منه ضمير الانسانية ، من نفي في الصحراء اليابسة وسجن وتقتيل لمن يعارض هذا المشروع . ودام الظلم وخيم على ليبيا ، وضاقت الصدور ، وماتت الحرية في مكامنها ، حتى أعلنت الحرب العالمية الأخيرة .
وفى ٩ أغسطس من عام ١٩٤٠ اتفق لفيف من زعماء ليبيا مع القوات العسكرية البريطانية فى القاهرة على مساعدة الحلفاء ، ومقاومة الطليان والمحور ، مقابل إعادة الحرية والاستقلال للبلاد الليبية . فتطوع الطرابلسيون فى القتال وخدموا القضية الديمقراطية بالأموال والأنفس خدمات اعترفت بها الحكومة البريطانية نفسها .
ولما تحررت ليبيا بسقوط مدينة طرابلس في يناير عام ١٩٤٣ ، وبعد أن كنستها الموجات العسكرية المتكررة بين جيوش المحور والحلفاء ، أفاقت البلاد على حكم عسكري بريطانى مؤقت ريثما يتم النظر في قضية المستعمرات الإيطالية .
ولم تتغير الحالة فى إدارة البلاد . فقد بقى الموظفون الإيطاليون فى مراكزهم الإدارية كما كانوا قبل الحرب . واستمر سوء الحالة علي ما كان عليه من حيث الوضع الاجتماعى. وانقسمت البلاد إلى منطقتين ( برقة - وطرابلس ) ولكل من هاتين المنطقتين قوانين إدارية خاصة مختلف عن الأخرى .
وزاد على ذلك أن اقتطمت الحكومة الفرنسية إقليم ( فزان ) الواقع في الجنوب الغربي من طرابلس على حدود تونس . وصار له ايضا نظام إداري خاص تحت نفوذ الفرنسيين ، ويتعامل بالنقود الفرنسية .
وكثرت المصائب والأحداث على هذه البلاد ، من فيضان مدمر ، وقحط أباد الحرث والنسل ، وأجاع الناس ورماهم فى مهاوى البؤس ، وهى تنتظر مصيرها السياسى. تنازلت إيطاليا عن مستعمراتها ، ومنها ليبيا ، فى ١٠ فبراير من عام ١٩٤٧ ، وفشل مؤتمر وزراء الخارجية للدول الأربع المنعقد فى لندن من الشهر نفسه . فأرجأ حل هذه المشكلة إلى فبراير القادم من عام ١٩٤٨ ، على أن يرسل لجنة للتحقيق والدراسة لهذه المستعمرات ، تمهيدا لأتخاذ قرار فى مصيرها.
ويعزو السياسيون أسباب هذا الفشل إلى وجود المطامع والأهواء لكل من هذه الدول الأربع فى أراضى ليبيا كما فى المستعمرات الأخرى.
فروسيا ترغب في الوصاية على ليبيا كي يكون لها نفوذ في البحر الأبيض التوسط .
وتريد امريكا أن يكون لها قاعدة على ساحل ليبيا للقيام بسياستها في الشرق الأدنى وخدمة مصالحها الاقتصادية ، وتنفيذ تعهداتها لتركيا واليونان ماء التوسع الروسي .
وتظهر فرنسا رغبتها فى كل مناسبة لإعادة طرابلس إلى إيطاليا كى تكون حدا بين الشرق العربى وشمال إفريقيا المشمولة بالاستعمار الفرنسى .
أما انكترة ، فكان المنتظر منها أن نعمل على تحرير البلاد الليبية وإعادة حريتها واستقلالها ، تنفيذا لوعودها التى أعطتها لزعماء ليبيا أثناء الحرب ، ومقابل تلك الخدمات التي قام بها الليبون واعترف بها ساسة الانكليز ، ومنهم وزير خارجيتها السابق ( انطونى ايدن ) في أكتوبر
عام ١٩٤٤ ، غير أن المصالح تمحو الوعود والعهود عند الغربيين . وها نحن ننتظر ماسيكون من أمر هذه الوعود الإنكليزية .
إن تاريخ ليبيا الحديث غني بالبطولات والجهاد . وإن أيامها الأخيرة كانت مملوءة بالمصائب والاحداث . ولا نبعد إذا قلنا إنه لا يوجد على وجه الأرض شعب أصيب باستعمار فاجر ، وكنسته الحروب فأبادت معظمه ، طغيانا وظلها ، مثل الشعب الليبي .
وإن قضية ليبيا فى نظر القوميين العرب ، من أهم القضايا الخطيرة ، لا لأنها بلد عربى شقيق فحسب ، بل هو الجسر الوحيد الذى يربط شقى دنيا العرب الغربى والشرقى ، وفى ذلك كفاية وإيضاح.

