-١-
فى فاتحة القرن التاسع عشر كان يسود أوربا نوع من القلق العام ، وكانت غروات نابليون وفتوحه قد بثت الجزع والاضطراب إلى معظم أنحاء القارة ، وكان صرح ألمانيا للوحدة القوية قد تحطم تحت ضربات الفاتح . وانضوت معظم الإمارات الألمانية الجنوبية والغربية تحت لوائه . وكانت الشبيبة الألمانية كباقى فى شبيبة القارة الأوربية ، تجيش يومئذ بالأراء الحرة ، وتذكي الههئة القومية في نفوسها أعظم الأماني لانقاذ الوطن وإقاته من عثرته . ولم يجد الشباب أمامه ، في ظل النظام الجانبي الذي فرضه الفاتح ، وفرضه الأمراء الألمان ، سوى العمل المستمر ، والاحتشاد فى الهيئات والجماعات الوطنية السرية التي انتشرت يومئذ فى سائر أنحاء ألمانيا ؛ وكان طلاب الجامعات بالأخص عماد هذه الحركة الوطنية الخفية التي كان شعارها العمل على تحرير الوطن من النير الأجنبى ، وتحرير الأمة من أغلال النظام القديم .
في هذا الأفق الفياض بالمحن القومية والأماني التحريرية ، نشأ الفني كارل لودفيج ساعد ؛ وكان مولدة في ستة ١٧٩٥ في فونزيدل على مقربة من فيمار . مقر جيته شاعر ألمانيا الأكبر يومئذ ، وكان أبوه قاضيا بروسيا ، وأمه سيدة نبيلة الخلال ، ربته على مبادئ الفضيلة والتقشف والزهد . وكان كارل أصغر إخوته الخمسة ، وكان عليلا في صباه . يغلب عليه الضعف والكآبة ؛ ولهذا بدأ دراسته متأخرا ؛ وتلقي دراسته الثانوية في مدرسة هوف . وكان خلال حداثته ، كباقي الفتية الألمان يخشي اجتماعات الطلاب ، ومحوض معهم أحاديث الوطنية الملتهبة ؛ وتروي عن حداثته قصة تدل على إتجاهه المستقبل . وذلك أنه حينما مر نابلبون ببلدة هوف في سنة ١٨٠٩ ، غادر كارل مدرسته فجأة إلى منزله ؛ ولما سئل عن السبب أجاب والديه ، أنه لم يستطع أن يبقى في مكان يوجد به نابليون دون أن يحاول قتله ، وهو يشعر أنه ما زال أضعف من أن يقدم على مثل هذه المحاولة .
وكان الطالب كارل لودفيج ساند رضي الخلق عذب الخلال محبوبا من أساتذته وإخوانه . وكان يمتاز بالشجاعة والإقدام ؛ وكانت أبرز صفاته الوطنية الملتهية التى ملكت عليه كل مشاعره ؛ ومما كتب لأمه معلقا على حوادث سنة ١٨١٣ ، التي كانت مقدمة لانهيار سلطان ناليون في ألمانيا : (( لا استطيع أن أعبر لك عما أشعر به من السكينة والسعادة منذ بدأت أعتقد أن تحرير الوطن قد أضحى على وشك التحقيق ، ذلك الوطن الذي أعتقد أنه سيغدو يحول الله حرا قويا ، والذي أحتمل في سبيله كل ألم ، بل أجود في سبيله بحياتي )) .
وقد حققت موقعة ليبزج في سنة ١٨١٤ ، أمل ساند وأمل الشبيبة الألمانية . فهزم نابليون واستردت ألمانيا حريتها ومكانتها ؛ وكان لجماعات الشبيبة الوطنية التي أشرنا إليها أكبر فضل في الوصول إلى هذه النتيجة ، وكان ساند ما يزال من أعضائها العاملين المتحسين . وكان قد التحق يومئذ بجامعة ليتجن ليدرس العلوم الدينية ليغدو قسا ، وهي المهنة التى تاقت إليها نفسه ، ودفعته إليها أمه النقية الورعة .
بيد أنه لم تمض بضعة أشهر حتى كان نابليون قد فر من منفاه في جزيرة إليا ، وزحف على باريس ، واسترد عرشه ، وأخذ يتأهب للصراع من جديد . وعادت ألمانيا تتأهب مرة أخرى لمقاومة القامج المعتدى ، وهرع الشباب الألماني إلي الصفوف ، وتطوع كارل مع أخيه فرتز في فرقة مانهايم ، وكتب إلى والديه بهذه المناسبة يقول : " سوف نلتقي إذا انتصرنا . أما إذا هزمنا - وحاشا لله أن نهزم - فإن أعز أمنية لي أن تغادروا هذا الوطن الذي يصفده الاستبداد إلي وطن آخر يكون حرا ) . وقاتل ساند في موقعة وانزلو . ودخل باريس مع الجيوش المظفرة في شهر يوليه سنة ٢١٨١ ؛ ثم عاد إلى ألمانيا مع أخيه في شهر ديسمبر ، وقضي أعياد البلاد مع أسرته ؛ ثم غادرها إلى ارلانجن ، ليتم دراسته .
ومن ذلك التاريخ يدون لنا ساند وقائع حياته وخلجات نفسه في مذكرات خاصة ، وفي هذه المذكرات يكشف لنا عن تطوراته النفسية ؛ وفي هذا الوقت بالذات بدأ يقرأ كتب جبته ، وفي مقدمتها فاوست التي تركت في نفسه أعمق أثر ؛ وكان أحب الكتاب إليه لسلج وشار وهردر أقطاب الأدب والشعر في هذا العصر ، وكانت تنتابه في ذلك الحين فترات حزن وكآبه كان يقطعها أحيانا بوعظ إخوانه الطلاب وحثيم على الفضيلة ؛ وكانت هذه الفترات المظلمة تتطور لديه أحيانا إلى رغبات غامضة في الانتحار والموت ؛ وهو يشير في مذكراته إلى هذه اللحظات ويسميها ( مرض عالم الروح ) .
وقضي ساند عام ١٨١٦ ، وهذه النوبات النفسية المظلمة تزيد لديه وتتفاقم ؛ وهو يكتب في مذكراته في أول يناير سنة ١٨١٧ داعيا ربه أن يبقي عليه شجاعته لامتحان نفسه ، وأن يقويه على ضبط شهوات الحس ، وضلال العقل ، وأن يهبه ضميرا نقيا تقيا مخلصا لله وللعود إليه .
وكانت الجمعيات الوطنية الألمانية ، التي لعبت أكبر دور في الحركة التحريرية تضم يومئذ بعض الشباب ولا سيما طلاب الجامعات ؛ وكان الأمراء الألمان أثناء معركة التحرير يشجعونها ويغمضون الطرف عن نشاطها وحركاتها ، إذ كانت يومئذ عضدهم ضد الفاتح الأجنبي ؛ فلما تحققت الأماني الوطنية . وحطم النير الأجنبي ، أخذ الأمراء الألمان يوجسون شرا من قيام هذه الجمعيات ونشاطها ، خصوصا لما بدا من تحولها يومئذ إلي العمل ضد الحكومات الألمانية القائمة ، ومطالبتها بالإصلاحات الدستورية وحقوق الإنسان ، وكانت الحكومات تخشي أن تتعرض لهذه الجمعيات بصورة ظاهرة ، إذ كان معظم أعضائها من طلاب الجامعات ، فكانت تقنع بالعمل على إدكاء الخلاف فيما بينها ، وكان ساند ، كمعظم زملائه ينتمي إلي إحدي هذه الجمعيات الوطنية وجمعية الفتية الداخلية Burs chenschalt ويوجه نشاطها مع زميل له يدعي دنمار ؛ وكانت هذه العصبة تجتمع فوق تل في ظاهر ارلانجن ، وتضع القرارات والخطط ؛ حدث ذات مساء أن غرفي دتمار في النهر ، فكان لموته أسوأ الأثر في جماعة الفتية ، إذ كان من أنشط وأذكي زعمائها ، وحزن ساند لفقد صديقه الحميم أيما حزن ، وكتب إلى أهله يصف الحادث وصفا يشف عن عميق جزعه وتأثره .
ورحل ساند إلى بينا عقب الإجازة الصيفية ليتم دراسته فيها ، وفي أوائل سنة ١٨١٧ ، أخذ ضغط الحكومة يشتد على الجمعيات الوطنية وفي مقدمتها جماعة الفتية ((البورشن)) ؛ وظهرت يومئذ رسالة تحمل عليها بشدة وتعدد أضرارها ومثالها ؛ فكان لظهورها أسوا وقع في بينا وفي سائر أنحاء ألمانيا ؛ وقيل إن الذي أعد هذه الرسالة هو الكاتب المسرحي الأشهر أوجست كونسبوي ، وإن كانت قد صدرت بتوقيع آخر . وكان كونسبوي من أعظم كتاب القصة والمسرح في أواخر القرن الثامن عشر - عصر جيته وشار - ؛ وكان مولده في مدينة فيمار التى كانت يومئذ مركز الحركة الأدبية في أواسط ألمانيا ، وكانت مستقر جيته شاعر ألمانيا الأكبر ؛ وكان قد خاض حياة منوعة مضطرية ، فاشتغل بالمحاماة في البداية ، ثم ذهب إلى روسيا حيث عين بوساطة الكونت جبرنز سفير بروسيا سكرتيرا لحاكم بطرسبرج ، وتدرج بعدئذ في سلك الوظائف القضائية في روسيا حتى عين رئيسا لمحكمة ريفال وتزوج هنالك ابنة قائد روسي . وظهر عندئذ بإنتاجه الأدبي المتاثر فأخرج عدة قصص كبيرة ، واشتهر بالأخص بقطعه المسرحية وفي مقدمتها " أرلهايد قون فولفنجن )) ((البغض والندم )) و (( الهنود في انجلترا )) وغيرها . ولما توفيت زوجته الأولى اعتزل منصبه ، وعاش حينا في ألمانيا وفي باريس . ثم استقر في ضيعته في ريفال . وأخرج عندئذ مجموعة كبيرة من المقالات والقصص عنوانها (( أصغر أولاد هوامى)) ، وتلاها عدد كبير من المسرحيات ترجم إلى معظم اللغات . ومنها عدة يشهر فيها بنابوليون . ثم عين أخيرا مستشارا للدولة بوزارة الخارجية الروسية ، وأرسل في سنة ١٨١٦ إلى أنانيا ليقوم بمهمة التجسس لحساب الحكومة القيصرية بمرتب ضخم ، فنزل في فييار ، وكان قد أقام بها من قبل غير مرة ، وترك فيها اثر سيئا ، إذ نشبت بينه وبين جينه خصومة أدبية حمل فيها على المدرسة الرومانطيقية حملات شديدة . وبدأ مهمته المريبة بأن نشر صحيفة أسبوهية أخذ يحمل فيها على جمعيات الشباب وعلى الحركة التحريرية بأسلوب عنيف لاذع ، فامتعض الرأي العام لحملاته ولا سيما الطلاب . واضطر أن يغادر فيمار ليعيش في مانهايم بعيدا عن أعراض المهانة والسخط .
( للبحث بقية )
