يمتاز عصرنا هذا بقلة المروءة . حتى إنه لم يصل إلى الشرق القديم فى وفائه ومروءته . ولا إلى الغرب الحديث فى ماديته مع عدله ونظامه . فقد أصبحنا ماديين فى غير عدل ولا نظام . هجرنا قديمنا ، ولم نحسن حديثنا .
كانوا يحدثوننا عن القديم بأنواع من المروءات يضحى فيها الرجل بنفسه أحيانًا ، وبماله أحيانا ، حتى لنستخرج منا العجب ، فيحدثوننا أن الشرطى العباسى أتى ليقبض على عبد الحميد الكاتب فوجده مختفياً عند صديقه ابن المقفع ، فقال أيكما عبد الحميد ، فكل منهما قال أنا ، وكل منهما يعلم أنه إنما حضر الشرطى ليقتل عبد الحميد ، ونحن اليوم لا نفهم هذه القصة لأننا لا نفهم معنى المروءة .
وقد ألف لنا أبو حيان التوحيدى كتابه " الصداقة والصديق " وفيه أمثلة كثيرة مما كان يضحى به الصديق لصديقه ثم ألف لنا ابن الدابة كتاب " الكافأة " وفيه قصص كثيرة عن المصريين أيام أحمد بن طولون ، يروى فيها أحداثا كثيرة عن أفراد أحسن إليهم ، فكافأوا بالإحسان إحسانا ، بل كافأوا عن الخير بأحسن منه ؛ هذا لص يريد أن يسطو على مار فى الطريق ، ثم يعفو عنه لسبب من الأسباب ، فإذا للعفو عنه يقابل المروءة بمروءة أكثر منها .
وهذا أمير يعفو عن مجرم ، ثم تتردد الحال فيصبح الأمير أسيراً ، ويأتى المجرم فيقدم للأمير من المروءات ما يعجز عنه الوصف ، وهكذا .
وهذا التوخى يؤلف لنا كتاب " المستجاد " من أفعال الأجواد " فيأتى الغرائب من أعمال الجود . وفى كتب الأدب غير هذه أمثلة كثيرة من أفعال المروءة .
نعم ، إنها لم تكن كثيرة فى وسط آلاف الأعمال الأخرى ، بدليل أنهم حكوها وأشادوا بذكرها ، وأعجبوا بها إعجاب من لم يكن يتوقعها . ولكن كان بجانب أعمال المروءة النادرة هذه أعمال أخرى كثيرة عادية من باب المروءة ظلت تحكى فى البلاد الإسلامية إلى أن غزتنا المدنية الأوربية .
حدثنى صديق أن أدبائيا فى عهد محمد على ظل يلعب بطبلته
وزر طربوشه أمام فتى فى قهوة ، وفى أثناء حركاته البهلوانية سلب منه كيس نقوده وفيه مائتا جنيه ، فلما تبين الفتى ذلك بعد أن انصرف الأدباتى غشى عليه ، وسقط على الأرض ، فسأله من بحواره : ماذا حدث ؟ فحكى له القصة فقال : لا تخف . إنى أعرف رئيس هؤلاء الأدباتية ، فلنذهب إليه معاً ، وذهبا إلى حى السيدة زينب . فوصلا إلى بيت فسيح له فناء واسع ، هو بيت الرئيس ، فاستقبلهما صاحب البيت استقبالا حسناً ، وكان الوقت وقت غداء فغداهما غداء فخما وأكرمهما غاية الإكرام ، فحكيا له القصة فطلب إليهما أن ينتطرا إلى ما بعد العصر ، حتى مجتمع الأدباتية ، فلما اجتمعوا خرج الرئيس إليهم وقال لهم : أيكم نشل كيس نقود هذا الفتى ؟ فقام أحدهم وأخرجه من جيبه ، فقدمه الرئيس للفتى ، فأراد أن يخرج شيئا يمنحه للرئيس فنظر إليه صاحبه شزراً ، لأن ذلك ضد المروءة .
وكثير من هذه الحكايات تحكى للدلالة على ما كان عند الناس من مروءة . وأدركت كثيرين فقدوا أطيانهم بسبب ضباتهم ، أو بسبب إنقاذ رجل وقع فى مصبية ، أو تفريج عن أسرة .
وحكى إبراهيم المازنى رحمه الله أن أباه كان أودع صديقاً له مبلغاً كبيراً من المال من غير إيصال ، ولا برهان ، ولا يعلم به أحد . فلما مات أبو المازنى ، جاء الصديق إلى البيت ، يحمل المال الذى سلمه إليه والده وأعطاء لوالدته ، فانفقته عليه فى تربيته .
ونلتفت اليوم ، فلا نرى أمثلة من هذه المروءة ، ولا مراعاة جوار ، ولا إحساساً بيؤس الجار . إنما ضعف فى المروءة ، وقلة فى الوفاء . وكل يوم أرى أمثلة من هذا القبيل . فلجارنا كلب يعوى طول الليل كأنه مريض ، طلبت منه أن يريحنى من الكلب بأى شكل من الأشكال ، فأبى ولم يرع أى احترام للجوار . وأعنت موظفاً كان يتقاضى نحو عشرين جنيها ، فعين فى وظيفة أخر بتسعين ، فكانت الحد الفاصل ، لم يعرفنى ولم يسأل عنى ، مع أنه سأل عن كل الناس .
واليوم احتجنا لعمل الكعك السنوى إلى ما هون من جار ، فأبى علينا إعارته ، والتفت فلا أرانا كالشرق ولا كالغرب . لا أرى طباعاً كطباع الشرق ، سمحة كريمة ، ذات وفاء ومروءة ، ولا أرانا كالغرب ، مع ماديته يتبرع كثيراً للأعمال الخيرية ، وإلى جمعيات الإحسان ، ويشيد بالمستشفيات الفخمة ، ويتبرع للجامعات الضخمة . وأغنياؤهم يغدقون على الأعمال الخيرية كثيراً من أموالهم كما فعل روكفار وغير روكفار ، وأصبحنا كما قال الأول :
ولو سئل الناس التراب لأوشكوا
إذا قيل هانوا أن يملوا ويمنعوا
