الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 35الرجوع إلى "الثقافة"

قنبلة موسكو

Share

فوجئ العالم بنبأ عقد الميثاق الذى أطلق عليه اسم (( ميثاق عدم الاعتداء )) بين روسيا وألمانيا . واختلف وقعه فى الدول ، فبعضها شعرت شعورا قويا بخيبة الأمل ، وبعضها قد اهتز هزة جديدة تحفزا للمخاطرة . وزاد من وقع المفاجأة أن الدول كانت على ما يظهر خالية الذهن من احتمال إبرامه فى ذلك الوقت ؛ لأن المفاوضات كانت لا تزال جارية فى موسكو بين وفود فرنسا وانجلترة وروسيا لعقد محالفة ثلاثية تكفل تكوين جبهة قوية

لمقاومة ألمانيا ومنع خطر توسعها .

وقد اختلفت الأقوال فى مبدأ الأمر فى كنه هذا الاتفاق ومدى تأثيره ، حتى إن بعض الدوائر السياسية قللت من خطره ، بزعم أنه ليس إلا ميثاقا من مواثيق عدم الاعتداء التى اعتادت الدول أن تبرمها بسهولة ، لكى تنقضها فى أول فرصة ؛ وهذه الدوائر كانت تزعم أن الميثاق الجديد ليس إلا تجديدا لميثاق ( رابالو ) الذى بدى فى سنة ١٩٢٢ وتجدد فى سنة ١٩٢٨ ثم فى سنة ١٩٣٣ .

- ١٦٩٧ -

ولكن بعض الدوائر الأخرى قد رأت فى ذلك الميثاق تحولا أساسيا فى سياسة ألمانيا وروسيا معا ، وهو تحول لا يمكن إلا أن يحدث أكبر الآثار فى حوادث العالم الحالية والمستقبلة ، ولا يمكن إلا أن يدعو إلى إعادة النظر فى جميع الخطط السياسية وتعديل المواقف الدولية فى كل بلدان العالم .

وقد نشر ملخص لهذا الميثاق ، ومنه يمكن أن يتضح أن النظرية القريبة إلى الحقيقة هى النظرية الثانية . ولهذا فان سير الحوادث يدل على أن الدول كلها مجمعة على خطورة الحالة ، وأن الميثاق الجديد عبارة عن نقطة تحول عظمى فى اتجاه السياسة الدولية فى المستقبل . ففى لحظة واحدة ضمنت ألمانيا عدم اعتداء روسيا عليها ، كما ضمنت حيادها إذا قامت الحرب بين ألمانيا وبين دولة أخرى ، وعدم اشتراك روسيا فى أية حركة ترمى إلى تطويقها أو معاكستها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة . وفتحت لنفسها احتمالات لا حد لها من مساعدات روسيا العظيمة فى المستقبل ؛ وفى نفس الوقت ضربت الروسيا جبهة مقاومة الشيوعية التى كانت ألمانيا قطبها ضربة قوضت دعائمها من الأساس . ولا يمكن لأحد أن يتكهن بما يؤدى إليه هذا التغير الجوهرى فى الموقف الدولى ، وهل هو ضمان جديد للسلام ، أم هو دافع أهوج إلى الحرب ؟ فان هناك عوامل لا حصر لها فى توجيه المستقبل . ولكن من الممكن أن نناقش ظروف كل دولة من الدول الكبرى التى يهمها الأمر ، ويستدل من ذلك على ما ينتظر حدوثه .

الموقف فى ألمانيا :

كانت ألمانيا النازية منذ أول الحركة الهتلرية تقيم سياستها على أساسين واضحين : الأول عداوة الشيوعية ، والثانى عداوة اليهودية ؛ وقد أوضح الحر هتلر ذلك فى كتابه

(( كفاحى )) إيضاحا لا يحتمل الغموض ، ولا يمكن الزيادة عليه . وكانت خطة الدعاية الألمانية متجهة دائما نحو إقامة حد منيع فى وجه الزحف البك فى ، الذى كان الهر هتلر يرى فيه أعظم خطر جهدد المدنية الانسانية والحياة الألمانية بوجه خاص ؛ فإذا كانت حكومة ألمانيا تقدم الآن على تغيير أتجاه سياستها الأولى هذا التغيير الأساسى ، وتجازف بأن تظهر أمام شعبها فى هذا المظهر الجديد الذى يكذب كل ما مضى من دعايتها وتوكيداتها ، ويناقض كل ما كانت تزعمه من قبل من مقاصدها ومبادئها ، فإن ذلك لا بد أن يكون نتيجة لاعتبارات تبلغ أعظم الخطورة . بل لا بد أن تكون ألمانيا قد أحست بالخطر يهدد حياتها نفسها ، وتجرأت على اقتحام أقل الخطرين وأهونهما عليها . وأقدمت على ذلك الانقلاب العظيم فى سياستها تحت ضغط الظروف القاسية . ولا شك فى أن موقف ألمانيا كان يتحرج يوما بعد يوم لما تقوم به أنجلترة وفرنسا من المساعى لعزلها وتضييق حلقات الجبهة المعادية حولها . ولو تمكنت الدولتان المذكورتان من ضم الروسيا إلى جبهة مقاومة ألمانيا لما كان يبقى لها إلا الإذعان النهائى . فالظاهر أن الميثاق الجديد لم يكن إلا نتيجة لضرورة قاسية أحست بها ألمانيا ؛ ولكن لا يمكن أن يفرض أن هذه الحركة قد أتت في بدئها من ناحية ألمانيا ، بل إن الظروف كلها تشير إلى أن الروسيا هى التى بدأت بسياسة التقرب من ألمانيا كما كانت تفعل ذلك من قبل ، فقد حاولت روسيا فى عدة ظروف فى الماضى أن تتقرب من ألمانيا بغير جدوى لما بينهما من المصالح المتضاربة ، ولا بد أن ألمانيا فى تلبيتها نداء روسيا هذه المرة ، قد فعلت ذلك وهى واثقة من أنها مقبلة على سبيل يعترضه كثير من المصاعب والمشاكل .

فأولا لا بد أن تقابل ألمانيا مشكلة العقيدة التى كونها الشعب الألمانى من عداوة البلشفة بعد كل تلك الدعاية القوية التى كانت الحكومة الألمانية تقوم بها فى

- ١٦٩٨ -

أنحاء البلاد منذ أول الحكم الهتلرى .

وثانيا لابد أن تواجه ألمانيا مشكلة أصدقائها وموقفهم من ذلك الموقف الجديد ، فهل ترضى إيطاليا أن تتجه فى ذلك الاتجاه ؟ وهل يجد ذلك من مصلحتها ؟ وهل يمكن أن تتحول اليابان من سياستها التقليدية تجاه الروسيا إلى سياسة جديدة من الصداقة والتفاهم ؟

هذه كلها مسائل لا يمكن أن يصدق العقل حدوثها . بل إن الأنباء تدلنا على وجود موجة قوية من التذمر يجتاح اليابان من صديقتها التى أخذت تظهر أمامها فى صورة الصديقة الخائنة للعهود .

وأما الشعور فى إيطاليا فلا يزال غير ظاهر ، ولكن لاشك فى أن الرأى العام الإيطالى لن يجد ميلا كبيرا إلى انقلاب مماثل ، ولا سيما أن الظروف هناك لا تشبه الظروف فى ألمانيا . وقد يقال إن اليابان قد تدفها عداوتها لأنجلترة فى الشرق الأقصى إلى أن تنسى مؤقتا عداوتها للروسيا ، فتتخلى كما فعلت ألمانيا عن ميثاق مقاومة الشيوعية ، وتبدأ فى سياسة التقرب والتفاهم مع روسيا ، ولكن ذلك أمر غير مؤكد ، وتدل بوادر الأحوال على أن اليابان قد تتجه فى اتجاه آخر غير ذلك ، وتتساهل فى موقفها من انجلترة ومن الصين ، قانعة ببعض ما كانت تطمع فيه من المكاسب . وأما إيطاليا فاننا لا نستطيع أن نجد لها مصلحة فى مصادقة الروسيا ، كما لا نجد أمامها من الظروف ما يجعلها تندفع إلى ارتكاب أهون الضررين ، فان انجلترة وفرنسا بغير شك مستعدتان للتفاهم معها فى ظروفها الحالية أكثر مما كانتا فى أى وقت مضى . وهى فوق ذلك معرضة للغزو فى البحر الأبيض المتوسط ، ومعرضة للاغارات الجوية والبرية من فرنسا أكثر من شريكتها فى المحور . فاذا هى اندفعت فى سياسة التقرب إلى روسيا كانت مخاطرتها أشد مخاطرة تعرض حياتها نفسها للضياع . ولا شك فى أن انجلترة وفرنسا تقدران ذلك

الموقف حق قدره ، وتعملان على الاستفادة منه . وقد يكون موقف إيطاليا من التحالف الجديد أكبر ما يهم مصر ، لأن عدم دخول إيطاليا فى حرب عامة تشترك مصر فيها أعظم عامل مطمئن من وجهة النظر المصرية البحتة .

الموقف فى روسيا :

كان موقف روسيا فى المفاوضات التى أنتجت ميثاق عدم الاعتداء بينها وبين ألمانيا موقفا شاذا . فانها كانت تفاوض ألمانيا فى نفس الوقت الذى كانت تفاوض فيه انجلترة وفرنسا . وليس يفهم من هذا إلا معنى واحد ، وهو أنها كانت تحاول التفضيل بين عروض مختلفة لاختيار أحسنها .

وهذا ما يجعلنا نقيم أعظم وزن للفكرة التى تقول إن قصد الروسيا هو الاستفادة من حوادث العالم لكى تخرج هى أخيرا سيدة العالم ، وأكبر عامل فى توجيه سياسته . فسواء اتجه العالم إلى الحرب أو اتجه إلى السلم ، فانها ستكون الدولة الرابحة . فقد أظهرت أنها لا تمانع من الوقوف على الحياد إذا وقعت الحرب ، كما أظهرت فى الوقت عينه أنها لا تريد أن تقيد نفسها بمحالفة عسكرية صريحة من الآن مع دولة من الدول ، فان ساستها لا يزالون يعلنون استعدادهم للمضى فى المفاوضات مع فرنسا وانجلترة بعد أن أعلن الميثاق بينها وبين ألمانيا ؛ فأكبر الظن أنها تريد أن تكون طليقة لانتهاز الفرص ، وأن تكون قبلة عيون الدول المختلفة فى كل الأوقات . ولذلك فليس يدرى العالم إلى أى وجهة توجهه تلك السياسة البائسة التى استولت على سياسة ألمانيا فى محاولتها تحقيق مطامعها بالحرب الطاحنة وفى أقرب وقت . وإن الحرب إذا بدأت الآن فلن يعود النظام الحالى إلى أوربا بوجه من الوجوه ، وسيشهد العالم فى نهايتها انقلابا اقتصاديا واجتماعيا ينقض كل الأسس الحالية رأسا على عقب .

- ١٦٩٩ -

وهذا القصد فى أغلب الظن هو الذى دفع روسيا إلى أن تبدأ بالتقرب إلى ألمانيا مستفيدة من حاجة الحر هتلر إلى مسالمتها فى شدته الحالية .

الموقف فى الدول الديمقراطية :

يظهر أن المسألة قد أصبحت مسألة نفسية فى الدول الديمقراطية أكثر منها مسألة مصلحة سياسية ، ففى نفس الوقت الذى تضمن فيه فرنسا وانجلترة سلامة بولونيا وتعدان بمساعدتها إذا اعتدى عليها ، يعلن ساستهما أن تسوية الأمور بين بولونيا وألمانيا وسائر المسائل المعلقة بين الدول يمكن حلها بالطريق السلمى . فكأن الأمر فى نظر هاتين الدولتين ليس محدودا مقررا قد انعقدت عليه النية انعقادا صارما ، بل هو أمر فيه مجال للأخذ والرد والمفاوضة والاتفاق ، وليس فيه ما يثير الحرب إلا أن تقدم ألمانيا على تحقيق مطامعها بالقوة .

والحق أن مسألة وانزج من أعقد المسائل التى ثارت عليها الخلافات فى تاريخ العالم ، فانها إذا ادعتها ألمانيا كان لها وجه من الحق ، وإذا ادعتها بولونيا كان لها وجه آخر من الحق ، ولا يقوم النظام الحالى إلا على أساس معاهدة فرساى التى تحطمت جزءا بعد جزء ، فلم يبق منها إلا تلك البقية اليسيرة التى تنذر العالم اليوم بالشر المستطير إذا ارتطم بها . وذلك التردد بين العقل والعاطفة ، وبين الكرامة والمصلحة ، وبين الوطنية الألمانية والتوازن الدولى ، هو الذى جعل موقف الديمقراطيات مترددا فى الماضى ويجعله كذلك مترددا فى الأزمة الحالية .

السلام المترجح :

والآن يبدو السلام مترجحا لا ندرى إن كان يستقر أو ينهدم مع كل هذه الظروف التى حاولنا بسطها . ولكن هناك بوارق أمل تسطع فى الأفق ؛ فهناك محاولات انجلترة

المتكررة فى سبيل السلام ، مثل إيفاد الرسل إلى هتلر ، والاستمرار على المفاوضة معه ، ومثل نداء الملك ليوبولد ملك بلجيكا الذى ينادى فيه بالسلم ، وهناك دعوات الرئيس روزفلت إلى جلالة ملك إيطاليا وإلى الحر هتلر وإلى رئيس جمهورية بولونيا ، وهناك نداء البابا إلى العالم ؛ وهى كلها تدعو إلى الروية والسعى فى حفظ السلام ، ومنع العالم من التدهور إلى هوة الخراب والفوضى ، التى لا بد أن تؤدى إليها الحرب العامة إذا وقعت . فهل هذه المحاولات تدل على روح قوى يكفى لمنع الحرب ، أو تأجيل وقوع الكارثة ؟ كذلك هناك تصريحات المستر تشميرلن وسائر

أقطاب السياسة الانجليزية ؛ وتصريحات المسيو دلادييه وسائر أقطاب السياسة الفرنسية ، وهى كلها تشف عما يبغيه الساسة الديمقراطيون من المحافظة على السلام ؛ فهل تتغلب هذه النغمة على النغمة الأخرى التى تصدر عنهم فى الوقت عينه ، منذرة بالحرب إذا أصرت عليها ألمانيا ؟ أم تمضى ألمانيا فى سيرها من أجل الاستيلاء السريع على وانزج ، وتدفع العالم إلى الكارثة العظمى التى لا بد لها أن تلتهم كل من يشترك فيها ؟

إن كل الدلائل تشير إلى تغليب فكرة السلام فإن اليأس لم يبلغ بعد بالبشرية مبلغا يدفعها إلى الانتحار وإلقاء نفسها إلى التهلكة . ولا يزال فى الضمير الانسانى على وجه العموم بقية من وازع يردعها عن أن تقذف بالعالم الانسانى وبالدنية وبالأرواح البريئة إلى جحيم لا قرار له ، طاعة لنزوة من نزوات الكبرياء أو الحقد . ولا نظن أن فى العالم سياسيا يجرؤ أن يأخذ على نفسه تبعة إشعال نيران الحرب . ولعل الأمور تكون قد انجلت عندما يصل هذا العدد إلى أيدى القراء .

والمرجو أن يجد عامل جديد يزيد فى تحول الأمور نحو تعزيز السلام

- ١٧٠٠ -

اشترك في نشرتنا البريدية